فقدت الساحة الفنية الجزائرية خلال 24 ساعة نجمين من الزمن الجميل، سطعا لعقود طويلة في سماء التمثيل المسرحي و التليفزيوني و السينمائي ببلادنا، زارعين البهجة و الفرح في نفوس الجزائريين في عز فترات الأزمات و الصدمات التي مرت بها البلاد، فقد غيب الموت أيقونة المسرح و التليفزيون و السينما نورية قزدرلي عن عمر ناهز 99 عاما، و عملاق الكوميديا الجميلة بشير بن محمد عن عمر ناهز  85 عاما، بعد صراع مع المرض، تاركين خلفهما رصيدا ثريا و خالدا من التحف الفنية التي أبدعا في تقديمها لجمهورهما الواسع، و لا يزال يتابعها عشاق كلاسيكيات السينما الجزائرية من مختلف الأجيال بشغف.

إعداد /إلهام طالب

رحيل الفنان الكوميدي بشير بن محمد: قسنطينة مفجوعة بفقدان صانع الفرح و زارع الضحكة


ووري الـثـرى بعد ظهر أمس الاثنين، جثمان عملاق الكوميديا و صانع البهجة و الضحكة الصافية، بشير بن محمد، بالمقبرة المركزية بمدينته قسنطينة، في أجواء مهيبة، بحضور بعض الفنانين و جيرانه و أفراد عائلته الذين لا يزالوا تحت صدمة فقدانه، و كل الساحة الفنية القسنطينية في الحداد.
الراحل وافته المنية على الساعة السابعة من صباح أمس، عن عمر ناهز 85 عاما، بمنزله العائلي بحي فيلالي بقسنطينة، إثر مرض طويل ألم به منذ حوالي خمس سنوات، و جعله يبتعد عن رفاقه و أحبائه و يعتزل الفن و الأضواء، و يرفض الدعوات التي تلقاها من محطة قسنطينة للتليفزيون و مختلف وسائل الإعلام لإجراء مقابلات و حوارات، و كذا حضور الحفلات التي دعي إليها ليحظى بالتكريم، تقديرا و عرفانا له و لمساره الفني الذي تجاوز نصف قرن من الزمن، دخل خلاله البيوت و القلوب بأعماله المميزة عن جدارة و استحقاق .
الفقيد لزم بيته لسنوات، بعد إصابته بهشاشة العظام، و معاناته من صعوبات في المشي و بعض الوعكات الصحية المرتبطة بالتقدم في العمر، و قد أكد أصدقاؤه المقربون للنصر، أنه اختار الابتعاد عن اقتناع، حفاظا على الصورة التي طالما رسخت في أذهان جمهوره و زملائه، عبر أعماله الفنية، لرجل وسيم و قوي و مرح يتدفق حيوية و نشاطا، ينثـر أزهار البهجة أينما حل، فالطيور تختفي غالبا لكي تموت، و كذا بعض النجوم..
«عمي بشير الماركة»، كما ظل يناديه من تابعوه في فيلم «كحلة و بيضا» لعبد الرحمان بوقرموح، يعتبر من رموز زمن الفن الجميل، فقد رصع بأدواره الكوميدية باقة كبيرة من الاسكاتشات، و المسلسلات التليفزيونية، و من بينها كافة أجزاء سلسلة « أعصاب و أوتار» لمحمد حازرلي،  «ماني ماني» لعزيز شولاح ،  «يا شاري دالة»، « باب الراي» ،»جحا» لعمار محسن و «ناس ملاح سيتي» لجعفر قاسم، و غيرها، إلى جانب مشاركته في عديد الأفلام السينمائية و التليفزيونية، و أشهرها «ريح تور1» لعزيز شولاح الذي أعرب مؤخرا عن أمنيته في أن يتمكن عمي بشير من المشاركة في الجزء الثاني من الفيلم الذي يستعد لتصويره.
 و تألق الفقيد على الركح الذي احتضن بداياته في عالم الإبداع، من خلال عدد كبير من المسرحيات و العروض البهلوانية، فقد كان عضوا في فرقة «البهاليل» القسنطينية في بداية الستينات، و شارك بالغناء و الشعر الملحون و التمثيل و الرقص في كافة عروضها، فجذب إليه الجمهور آنذاك، كما كان عضوا في فرقة الأمل المسرحي و المزهر القسنطيني، و لم يؤثر اشتغاله في مجال الصحة، على مستوى أعماله و شغفه بالفن، فهو ، كما أكد المخرجون الذين تعاملوا معه، لم يكن يمثل أو يصطنع الأداء، بل كان يقدم للجمهور حياته و شخصيته و مشاعره بمنتهى الصدق و التلقائية و يعيش كل الأدوار، و هنا يكمن سر نجوميته، و سر اعتزازه برصيده الفني الفكاهي المليء بالضحكات و البسمات و خفة الروح و التفاؤل.

قالوا عن الفنان

الممثل نور الدين بشكري: عمي بشير لم يكن يمثل بل كان يعيش كل أدواره


« برحيل زميلي بشير بن محمد، الذي اعتبره بمثابة أبي، انهارت دعامة أخرى من دعائم العصر الذهبي للكوميديا الجزائرية. و أنا مصدوم بفاجعة فقدانه، تتجلى أمامي عديد الذكريات و الصور لأعمال جمعتنا، خاصة «ماني ماني» و سلسلة «أعصاب و أوتار»، لم يكن الفقيد يمثل فيها، بل كان طبيعيا و تلقائيا، كما في حياته اليومية. كان يحب كثيرا الفن و العمل المتقن، و يعتريه القلق إلى أن ينتهي من أداء دوره على أحسن وجه. كنا نعمل في أجواء أخوية مرحة، و كانت الضحكة ترافق «النرفزة» التي كانت تميزه و تطبع أعماله ببصمة لا تتكرر.
لقد ترك رصيدا كبيرا من الأعمال التليفزيونية و السينمائية، كما كان من الأوائل الذين أبدعوا في المسرح، انطلاقا من انخراطه في عديد الفرق، و ستخلده أعماله في ذاكرة كل أنواع الفن».
المخرج علي عيساوي: فقدنا راسم البسمة في الأوقات الحرجة


«عمي بشير كان له الفضل في رسم البسمة على الشفاه في أوقات حرجة خلال الستينات و السبعينات، من خلال أعماله المسرحية و كذا التليفزيونية عبر محطة قسنطينة للتليفزيون و السينمائية. كان وسيما و بشوشا و مرحا و حساسا جدا، و كانت أدواره تعكس شخصيته،فقد كتن يتفاعل مع الأحداث و الأدوار بشكل من أشكال العصبية و «النرفزة» الظريفة و الهزلية التي تتجلى في ملامحه و حركاته و إيماءاته تجذب الجمهور إلى أعماله التي ترك بصمته في كل واحد منها، خاصة «أعصاب و أوتار» لحازرلي.كان فنانا كبيرا و قديرا يتكيف مع كل المواقف و يعتمد على الارتجال المدروس في الأداء، مع تطبيق توجيهات المخرج، فكان يخطف الأضواء من بقية الممثلين، و يثير اهتمام و إعجاب المشاهدين. فقدانه خسارة كبيرة للفن الجزائري عموما، و لا يسعني إلا أن أترحم على روحه و أقول له «شكرا لأنك كنت معنا و منحت الفرح و البسمة للعائلات و الجمهور الجزائري».   
الممثل عنتر هلال: نجم لا يتكرر..


« عمي بشير كان بمثابة أبي أو أخي الكبير، و أيضا صديقي و زميلي، أحببته كثيرا لبشاشته و بساطته و خفة دمه و أخلاقه العالية ، و بفقدانه فقدنا آخر نجم من كوكبة النجوم الكبيرة التي طالما زينت سماء المسرح بقسنطينة في زمنه الذهبي، و لن تتكرر. كما كان أحد رموز محطة قسنطينة للتليفزيون، التي كانت سباقة لاحتضان الأعمال الفكاهية، فكللت كافة الأعمال التي شارك فيها بالنجاح».
المخرج عمار محسن: أفضل الممثلين و أكثرهم ابداعا


«علاقتي بالفقيد عمرها أكثر من 40 عاما، و كان حاضرا في كافة الأعمال التي أخرجتها بقسنطينة و كذلك في العاصمة، من بينها «جحا» ، «صرخة في صخرة»، «يا شاري دالة» و غيرها، و أعتبره هو و الحاسن الفقون من أفضل ممثلي عصرهما.
أعتبره بمثابة أبي و كنت أستمع إلى توجيهاته و نصائحه أثناء التصوير، عندما كنت أسند له دورا مهما كان صغيرا، كان يعيشه و يتألق فيه، كان فنانا مبدعا بتلقائيته و شغفه و كان إنسانا متخلقا، قلبه كبيرا و نقيا و معطاء و صبورا و حساسا ..فقدانه فاجعة و جرح في القلب لن يندمل».

بعد  60 عاما من العطاء  : الموت يغيب أيقونة المسرح و السينما الجزائرية نورية قزدرلي

سقطت ليلة الأحد إلى الاثنين ورقة أخرى من شجرة الفن الوارفة، و هي أيقونة المسرح و التليفزيون و السينما، نورية قزدرلي عن عمر ناهز 99 عاما، كرست أكثر من 60  عاما لتقديم رصيد ثري و متنوع من الأعمال الخالدة من بينها أكثر من 200 عرض مسرحي، و 60 عملا تليفزيونيا و 4 أفلام سينمائية طويلة.  
الفقيدة خديجة بن عايدة، أرملة مصطفى قزدرلي، أحد أعمدة المسرح الجزائري، اشتهرت باسم نورية قزدرلي في الساحة الفنية، و هي من مواليد تيارت سنة 1920، بدأت مسارها الفني صدفة في سنة 1945 ، عندما طلب منها زوجها و بعض الفنانين تعويض ممثلة تغيبت عن موعد عرض مسرحي، فوقفت لأول مرة على الركح أمام الفنان عبد الرحمان عزيز، دون أن تعلم  آنذاك، أنها ستنطلق قريبا في مسار جديد مرصع بلآليء الإبداع، غير مجرى حياتها كلها. اضطرت بعد تجربتها الأولى للانسحاب من الركح، بناء على رغبة زوجها لفترة من الزمن، ثم عادت إلى أحضانه بتشجيع و دعم من المخرج مصطفى بديع، و وقفت على خشبة أوبرا الجزائر سابقا،  و المسرح الوطني حاليا،عام 1963 ، إلى جانب باقة من الممثلين على غرار كلثوم و حبيب رضا، لتعطي دفعا للتمثيل المسرحي النسوي و تلقب ب»زهرة المسرح الوطني».و سرعان ما أمطرت سماء الفن بسخاء الكثير من الأعمال على سيدة المسرح نورية، و وقفت أمام أسماء كبيرة صقلت موهبتها و استخرجت كافة طاقاتها على العطاء الجميل و المميز، و من بينها النجم الخالد رويشد، فريدة صابونجي، شافية بوذراع و حسان الحسني الذي شاركته جولة فنية إلى فرنسا في خمسينات القرن الفارط.
و ربما يعود الفضل الأكبر في صنع نجومية نورية، إلى المخرج مصطفى بديع الذي أسند لها أدورا مميزة في عديد الأعمال الإذاعية و التليفزيونية، ما فتح أمامها الأبواب على مصراعيها في عالم الأضواء و الشهرة، و تألقت إلى جانب فناني جيلها في إبداعات مخرجين كثيرين، مثل موسى حداد و بن عمر بختي و الحاج رحيم.
و من أبرز أعمالها المسرحية «بنادق الأم كرار» و»الاستثناء والقاعدة» و»ممثل رغم أنفه» و»وردة حمراء» و»الغولة» و»بيت برناردا ألبا». أما أهم أعمالها السينمائية و التليفزيونية نذكر « خذ ما أعطاك الله»(1981)،  «الليل يخاف من الشمس» (1964) و»أبناء القصبة» (1963)و يعتبر مسلسل «المصير» (1989) واسكاتشات «العروسة والعجوزة» و»هي وهو» و»خالتي حنيفة في رمضان»، من أنجح أعمالها التليفزيونية. يذكر أن نورية حظيت بعديد التكريمات من قبل وزارة الثقافة وكذا جمعيات فنية، كما منحت في 2017 وسام الاستحقاق الوطني من مصف «عهيد».

الدكتور حبيب بوخليفة : نورية ..نور انطفأ في سماء الإبداع


قال المخرج الدرامي و الأستاذ المحاضر في المعهد العالي لفنون العرض و السمعي البصري بالجزائر العاصمة، الدكتور حبيب بوخليفة عن الفنانة نورية بوخليفة
« تعرفت على الراحلة و زوجها مصطفى قزدرلي عندما كنت طالبا في معهد الفنون الدرامية ببرج الكيفان، و عندما عدت في 1988 من موسكو ، حيث تابعت دراساتي العليا ما بعد التدرج، لألتحق بالمسرح الوطني كمخرج أساسي توطدت علاقتنا أكثر فأكثر، كانت إنسانة طيبة ومتدينة و مثالا للمحبة و الوفاء و الأخلاق العالية، تعكس شخصية المرأة الجزائرية الشامخة بمعنى الكلمة، و كانت علاقتها بزوجها نموذجية مليئة بالحب و العطاء، و لم يفرقهما سوى الموت.
كانت تنصحني بالحيطة و الحذر في تعاملي مع الناس، لأن أغلبهم منافقين، و كنت أستشيرها في عديد الأمور، فقد كانت رائعة كإنسانة و كفنانة تألقت في كل الأدوار التي أدتها في المسرح و التليفزيون و السينما منذ سنة 1955، و كانت اسما على مسمى تنير كل عمل تقدمه بنور روحها الطيبة المبدعة، لكن نورها انطفأ فجأة و تركت في القلب جرحا و في القلب غصة.
أشير أيضا إلى أن 60 بالمئة من عروض المسرح الوطني في نهاية الثمانينات شاركت فيها، وكان  لدينا مشروعا مشتركا هو مسرحية «ألبا» التي أعاد اقتباسها مصطفى قزدرلي» .

الرجوع إلى الأعلى