حـلــم عــودة مكتـبـة المعصومة
صدر منذ أيّام، كتاب جديد بعنوان «ديوانُ تيهَرْت المفقود: مقاربات في الأدب والحرية» للشاعر والناقد والباحث الأكاديمي الدكتور عبد القادر رابحي. العنوان ينطلق من إشارة تاريخية لمدينة «تيهرت»، مسقط رأس الكاتب، ويتوغل في إمكانية إعادة بناء مكتبة المعصومة التي أُحرقت ذات غزوة من تاريخ المغرب الوسيط، وتصبح حُلما يمكن اِستعادته في تيارت الحالية. إنّه حلم بطعم نكهة ومذاق التاريخ، حلم عودة المكتبة من أزمنة غابرة.
الكِتاب الصادر عن دار خيال للنشر والترجمة، والذي جاء في 166 صفحة، عبارة عن مقالات فكرية ومقاربات أدبية للعديد من قضايا الشِّعر والتجديد والحداثة والحرية بمنظور نقدي للتصورات الغربية والعربية الموجودة في واقعنا الثقافي والأدبي. وقد سبق نشرها في جرائد جزائرية وعربيةـ، وهي تطرح عمومًا إشكالات الراهن الثقافي وتفاعلاته مع المرجعيات الثقافية للعديد من القضايا الفكرية والفلسفية والأدبية. كما تطرح مُمكنات التصور الجاهز الّذي بإمكاننا أن نحمله جميعًا عمّا تعتريه مسلمات ثقافية لم نسائلها بعمق وحذر عمّا يمكن أن تخبئه من مغالطات بخصوص علاقتها بتصوراتنا للذات وللعالم، ثمّ لخصوص علاقتنا نحن من هذه المغالطات والمواقف.
كُتِبت هذه المقالات في فترات متباعدة بين سنتي 2010 و2020 تقريبًا، ونُشر بعضها في الصحافة الجزائرية وبعضها الآخر في الصحافة العربية في حين كتابتها أو بعده بقليل. ولأنّها كُتبت خلال هذه الفترة الزمنية الشاسعة، فقد حمل بعضها بصمة أحداث المرحلة وصورة ما دعا بعضَها لِأَنْ تُكْتب من راهنٍ متعلقٍ بأحداث مؤثرة ارتبطت بلحظتها التاريخية واندرجت في ما يمكن أن تحمله هذه اللحظة من تفاعلات على مستوى الرجوع بهذه الأحداث إلى أصولها ومراجعها التاريخية.
ولذلك، فقد تبدو هذه المقالات للقارئ وكأنّها متفرقة في ما تطرحه من قضايا وفي ما تسعى إليه من أهداف، وموزّعة على عوالم عديدة قد لا تُظهِرُ الخيوطَ التي تربط بينها لأوّل وهلة. وهي بشكلٍ عام تحاول أن تطرح بعض القضايا المُتعلقة بالمصير الفكري والفلسفي والوجودي لثقافات الإنسان الآخر المُستلب الّذي هو نحن في العديد من حالاته ومن صوره، ومن خلاله مصير مرجعياته المنسية أو المتروكة جانباً، بما تحاول أن تُجبرها عليه محدداتُ الثقافة الكونية المُعولمة في صورتها الأكثر عقلانية والأكثر انتهازيةً وتخطيئا في الوقت نفسه. وهي، بهذا، لم تكن مخيّرة في أن تُعيد إلى واجهة النقاش، كغيرها كثير ممّا يُكتبُ ولا يزال يغذي راهن الجدل الثقافي، موضوعاتٍ لا تنفك تشغل هذا الراهن  كالحداثة والمعاصرة والتقليد والإبداع وعلاقة كلّ ذلك بالكتابة، وخلف كلّ هذه الموضوعات مصير الإنسان الآخر(الشرقي) وعلاقته بشرط الحرية بِما هي اِنعتاق من قيود الذات المستلبة سياسيًا واجتماعيًا واقتصاديًا، وبِما هي تحرّر من قيد النموذج الغربي المهيمن الّذي لا ينفك يقدم نفسه بديلاً حصريًا عن القيد الأوّل المحلي.
وحول هذا المعطى تحديدا جاء في مقدمة الكتاب ما مؤداه: «لعل ما تحمله هذه المواضيع الحساسة من إشكالات، يكمن أساسًا في محاولتها الإحالة إلى خطورة ما يمكن أن تخفيه ممكناتُ تمرير القناعات الإيديولوجية التي تُرافق وعينا السلبي بها بالنصوص المُؤسِسة للثقافة الغربية من خلال اعتبارها نماذج إنسانية غير قابلة للاِختراق من جهة، وغير قابلة للتدليس من جهة ثانية. ولعلها، بذلك، تستطيع أن تزحزح رؤيتنا العقلانية لِمَا يمكن أن تحمله هذه النصوص ومواقف أصحابها من تخطيء أو تزييف أو تلاعب ببديهيات المعرفة الإنسانية وبمسلماتها العلمية لتحقيق هدف فكري وإيديولوجي محض لا يكون، في هذه الحالة، غير ترسيخ تصورات الاِستلاب وإدامة صيرورته في بنية الثقافة العربية وهي تواجه تحديات جديدة أملتها إكراهات قرن جديد قطعنا خُمسَه الزمني من دون أن تتجلى مظاهر اِنعتاقٍ جديرة بهذه التحديات وبما تطمح إليه الشعوب العربية من حرية».
المُلاحظ أنّ المقالات التي ضمها الكِتاب، كُتبت بغير أسلوب البحث العلمي الجاد، وبغير أسلوب الصحافة المستقصية عن الحقيقة، وبغير أسلوب المؤرخين العازمين على تسجيل الحادثة التاريخية كما يُراد لها أن تُسجّل. بل كُتبت بأسلوب آخر، بعيدا عن الرتابة، وأطر المحاججة التقليدية، أو الجماد الّذي يكتسي عادة الكُتب البحثية، وهذا ما تم الإشارة إليه في مقدمة الكتاب، إذ جاء هذا التوضيح: «المقالات كُتبت بأسلوب تداعٍ حرٍّ منطلق من رغبة جامحة في تجاوز عراقيل المكوث بالفكرة أمام جدار المعوقات النظرية والأسلوبية التي ترغمها على الدخول قسرا في قالب جاهز من القوالب السابقة أو في غيرها. إنّها محاولة كتابة تنبني، في العديد من فقراتها، على اِنزياح الدلالات بِمّا يمكن أن تضيفه من أدوات إقناع خارجة عن الأطر الحجاجية التقليدية، وبما يمكن أن يحمله المجاز من ممكناتِ حفرٍ متأصل في مضمرات ثقافية وتاريخية يحملها ظاهرُ هذه الموضوعات لتمرير ما قد يقف عنده النصُّ بأساليبه التقليدية وهو في أقصى حالاته تداولاً. إنّ لغة هذه المقالات لغة مفارقة تُشاكس المعايير الأسلوبية المقننة في طرح أهم القضايا وأشدها خطورة على الثقافة العربية. وهي بذلك تحاول أن تُجانب العديد من الخطابات الفكرية والثقافية العربية المعلقة بين دكتاتورية المنهج وسلطة الإيديولوجيا التي تحملها المقاربات الفلسفية والفكرية الراهنة وهي تحاول أن تعيد صياغة المواقف الجذرية للثقافة العربية  المعاصرة».
المقالات التي توزعت على مدار 166 صفحةـ، جاءت لتضيء  الكثير من الإشكالات والموضوعات، ولم تكن تريد نصرا أو ضجيجا. وهذا ما أكده الدكتور رابحي بقوله: «هي لا تدّعي اِنتصارا على عقلانية متلبّسة بالمرجعيات الفكرية والفلسفية الكبرى التي تحملها منظورات الثقافة المعاصرة ويحملها المثقفون الجادون همًّا أكاديميًا يؤرق الباحثين والقُراء النموذجيين، بقدر ما تريد أن تفهم طرائق التلبيس والتخطيء التي تضمرها العديد من الخطابات الأدبية والفلسفية والمواقف الفكرية والسياسية المتخفية خلف مظاهر الإبداع الأدبي والإقناع الفكري والفلسفي للعديد من المفكرين والمبدعين الغربيين الذين تعوّدنا على التعامل معهم باِعتبارهم نماذج إنسانية صارخة، إن من حيث الأبعاد الفكرية أو من حيث الأدوات المنهجية وإجراءاتها».
نوّارة لحــرش

الرجوع إلى الأعلى