ووري الثرى بعد عصر يوم أمس الاثنين جثمان «الملاك الأبيض» و أيقونة الموسيقى الأندلسية و المالوف، المطرب حمدي بناني، بمقبرة سيدي عيسى بعنابة، بحضور أهله و عدد من أصدقائه و أحبائه، في أجواء سادها الحزن و الأسى، تاركا خلفه، رفيق دربه الذي فارقه لأول مرة، الكمان الأبيض ينتحب في صمت، و ساحة فنية في حداد و رصيد كبير من الإبداعات و المشاريع الفنية المميزة، على غرار ألبوم غنائي جديد كان ينتظر بشغف إضفاء لمسات الشيخ الأخيرة عليه، و جولة فنية كان يتوق للقيام بها عبر ربوع الوطن، لكسر حصار كورونا الذي دام شهور، و الالتقاء بجمهوره الذي كان يحبه كثيرا و كرس عمره و جهده و وقته لإرضائه، لكن الموت كان أسرع بكثير.
* إلهام طالب
الفقيد، كما أكد للنصر مدير الثقافة لولاية عنابة الأستاذ إدريس بوذيبة، في اتصال هاتفي، توفي فجر اليوم الثلاثاء بمستشفى ابن سينا بعنابة الذي نقل إليه في 6 سبتمبر الفارط، إثر إصابته بوعكة صحية مفاجئة، و مكث بالعناية المركزة إلى غاية رحيله ـ الفاجعة التي صدمت جميع الجزائريين و خلفت حزنا عميقا في الساحة الفنية التي لا تزال في حداد بعد رحيل عميد الموسيقى الصوفية الشيخ عبد الرحمان حصروري و  قبله الشيخ درسوني.. و كأن العمالقة قرروا الرحيل تباعا.
و قال ابن المرحوم كمال، بأن والده ، رغم بلوغه 77عاما، لم يكن يعاني من أي مرض مزمن أو أعراض تؤكد إصابته بكوفيد 19، لكنه أصيب بوعكة صحية قبل أسبوعين تقريبا و ارتفعت حرارته كثيرا، ما جعله يقرر نقله إلى مستشفى ابن سينا بعنابة ، فمكث بمصلحة العناية المركزة للعلاج، و كان جميع أصدقائه و أقاربه يتوقعون أن يتماثل إلى الشفاء قريبا، لكن حان أجله ، فلا مفر، رحل فجأة فجر أمس، تاركا في القلوب غصة و وجع كبير و فراغ لا يملأه أحد.
أغنية «أنا عاطفي»الفرنسية صنعت انطلاقته

و لد المطرب حمدي بناني في 1 جانفي 1943 بعنابة، وسط أسرة فنية، فوالده كان رساما تشكيليا و خاله محمد الكرد كان عازفا ولوعا بالفن، تأثر به كثيرا، و اكتشف الخال جمال صوت ابن أخته و تميزه و هو في ربيعه الـ 15، و شجعه على المضي قدما في عالم الفن الآسر و الساحر.
و في السنة الموالية أي في 1959 نظمت مسابقة إذاعية لاختيار أجمل الأصوات الغنائية، كان يشرف عليها فرنسيون، كما سبق و أن صرح الفقيد في أحد حواراته مع النصر، فشارك حمدي بناني فيها و كان الجزائري الوحيد بين المتنافسين الفرنسيين، حيث أدى أغنية باللغة الفرنسية عنوانها «أنا عاطفي»، فنال إعجاب الجميع و افتك المرتبة الأولى في المسابقة، ما زاده ثقة في نفسه و موهبته الفنية، و من هناك كانت انطلاقته الحقيقية في الفن، فأدى باقات متنوعة من الأغاني باللغة الفرنسية و كذا العربية، كما أكد في ذات الحوار.
و بخصوص احتفاظه بجمال صوته الذي لم يطرأ عليه أي تغيير منذ بداية مساره الفني، قال الفقيد بأنه لم يدخن و لم يتناول المشروبات الكحولية طوال حياته، و كان يمارس الرياضة خاصة التنس و المشي، حيث كان يقطع كل صباح، حوالي ثلاثة كيلومترات، فقد كان يحافظ على صحته و رشاقته  كما كان يحافظ على مظهره و أناقته، لأنهما عنصرين مهمين في فنه، و قد كان يقدم الموسيقى الأندلسية، و أغاني المالوف ، وفق طابعه الخاص الذي تميز به و أكسبه شهرة كبيرة ليس في عنابة، مسقط رأسه، بل عبر ولايات الوطن و  كان يزور قسنطينة كثيرا،  لأن علاقته كانت وطيدة بعائلة الفرقاني، كما أكد أمس في اتصال بالنصر المطرب سليم الفرقاني، و كان يلتقي بعميد المالوف المرحوم الحاج محمد الطاهر الفرقاني، و يستشيره في عديد الأمور الفنية، و ساعده في تسجيل أسطوانة ببيته، و كان متأثرا كثيرا به في بداياته، حسب ابنه.   
و من يذكر اللون الأبيض لا بد أن يتذكر «الملاك الأبيض» حمدي بناني، فقد كان يحيي المناسبات المختلفة و الحفلات الفنية و هو يرتدي بدلة بيضاء أنيقة، و يحمل كمانا ناصع البياض يليق بها و به، و لم يكن يمل في عديد اللقاءات الصحفية من الحديث عن علاقته الوطيدة باللون الأبيض و رفيق دربه الكمان الذي لم يفرق بينهما سوى الموت.
مطرب الزعماء توشح البياض في طريقه إلى العالمية
و لطالما سرد في لقاءاته بالنصر، تفاصيل محطة هامة في حياته بالكثير من الحماس، و هي رحلته إلى كوريا الشمالية في الثمانينيات، حيث قام بإحياء حفل عيد ميلاد زعيمها السابق «كيم أيل سونغ»، فانبهر بغنائه و البياض الطاغي على مظهره و أطلق عليه لقب «الملاك الأبيض»، فلازمه هذا اللقب طيلة حياته.
كما أن ابن عنابة البار،  شرف الجزائر في المحافل الدولية ، حيث شارك في إحياء عديد الحفلات و المهرجانات إلى جانب نجوم عالميين، بقارات أوروبا و أمريكا و آسيا،  و غنى للزعماء و الرؤساء و الملوك على غرار فيدال كاسترو و الملك حسين و الحبيب بورقيبة و غيرهم.
 برصيد الملاك الأبيض على مدار أكثر من ستة عقود من عمره الفني ما يناهز 40 قرصا مضغوطا و أسطوانة، تضم روائع غنائية خالدة استلهم كلماتها من كنوز المالوف، و أبدع في تلحينها على طريقته و ترك بصمته عليها و أشهرها «جاني ما جاني» و «عدالة»و «محبوبتي» و غيرها.
جدير بالذكر أن الفقيد الذي كان يسعى دائما للتجديد في إبداعاته، لم يكن يؤدي أغاني المالوف فقط، فقد تألق في أداء أغنيات فرنسية و إيطالية، و كذا شرقية، فقد كان شغوفا بالفن يقطف من كل روض أجمل الورود.
و كان يؤمن دائما بأن المالوف قادر على افتكاك مكانة عالمية مرموقة، لأنه أينما غناه،  أطرب الجمهور و الزعماء و افتك إعجابهم، مؤكدا أن المالوف لا يزال بخير، عكس ما يروج حول تقلص أعداد محبيه و عشاقه، معربا عن افتخاره بالأغاني الجزائرية التي تنهل تنوعها و سحرها من التراث الأصيل الذي تزخر به بلادنا، و المؤكد أن حمدي بناني سيظل حيا بذاكرة كل أحبائه بفنه الذي عاش به و له، متحديا كل العراقيل.

قالوا عن  الملاك الأبيض
المطرب ديب العياشي
ربطتنا علاقة أخوية قويَّة طيلة 60 عاما
«كانت تربطني بالفقيد حمدي بناني علاقة أخوية، أقوى من الصداقة، لأكثر من 60 عاما، كنت اتصل بابنه عندما مرض فجأة و نقل إلى المستشفى، أربع مرات يوميا للاطمئنان عليه، و كنت متشبثا بالأمل في شفائه من الوباء، لكن لا مفر من الأجل المحتوم، فجعت بوفاته، على غرار أبناء عنابة و كل الجزائريين، لقد خسرت بلادنا إنسانا متخلقا و راقيا و فنانا استثنائيا مبدعا و معطاء، و ترك فراغا كبيرا في الساحة الفنية .
ذكريات جميلة كثيرة جمعتني بالراحل، في عنابة و خارجها، لقد أحيينا معا عدة حفلات، و قمنا في 2009 بجولة فنية عبر ولايات الوطن، و رافقنا جوق فني مشترك. كان جمهوره عريضا يضم مختلف الفئات العمرية، و يعتبره مكسبه الأول، و كان يحترمه و يحرص على إرضائه، ما دفعه إلى إضفاء طابع خاص على أغانيه.
أتذكر أنه من 1957 إلى 1958، كان يؤدي أغاني غربية و كان متأثرا كثيرا بشارل أزنفور و نجوم الغناء في الغرب، كما كان يؤدي الأغاني الشرقية و التونسية في بداياته، لكن العودة إلى الأصل فضيلة، فقد عاد إلى التراث و الأصالة و نهل منهما إلى غاية رحيله.
أتذكر أيضا أنه كان بعد الاستقلال يحيي الأفراح، و في السبعينيات انضم إلى جوق موسيقي رائد كنت ضمن أعضائه أيضا و كان يغني مع مجموعة من المطربين. لقد كان أول من أدخل الآلات الموسيقية الغربية على المالوف في 1976 و دعته ليلى برابح لحصة «رصد و مايا « التليفزيونية  لتقديم تجربته للجمهور، ما ساهم في شهرته، و أود أن أشير هنا إلى أن بناني كان متواضعا و متخلقا و راقيا، لم تغيره الشهرة و لا التألق، و كان ولوعا بالخشبة و الاحتكاك بالجمهور خلال حفلاته.
آخر مرة غنى فيها أمام جمهور، كانت بمقر ولاية عنابة، عندما زارت وزيرة الثقافة الولاية و كرمته، في 25 أوت المنصرم، لقد أمسك الميكروفون و أدى استخبارا و طلب مني مشاركته في الأداء، فذكرته مازحا أننا في حفل تكريمي ، فأدى أغنية بالفرنسية خلال ذات اللقاء». 
إ.ط

صديق الفقيد و مدير الثقافة لولاية عنابة إدريس بوذيبة
كان يستعدُّ لإطلاق ألبوم جديد و القيام بجولة فنية ببلادنا وفرنسا و كندا
« كان حمدي بناني يبحث دائما عن الجديد و التجديد، سواء في يومياته أو حياته، و خاصة في المجال الفني و الموسيقي. كان يريد أن يخرج أغنية المالوف من الرتابة و طابعها الكلاسيكي، ليجعلها أكثر جماهيرية تستقطب كل الفئات،و لا تقتصر  متابعتها على النخب المتذوقة و المريدين، لذلك لم يكن متحفظا في إدخال الآلات الموسيقية الإلكترونية، لكن دون أن يتنازل عن خصوصية طابعه و صوته. و كان يحلم  أن يؤدي أغنية المالوف مع الأوكسترا السمفونية الوطنية. الفقيد الذي كانت تربطني به علاقة صداقة، كان يشتغل على ألبوم جديد مع عازفين محترفين ذوي صيت عالمي من فرنسا و الجزائر، و قد سجل أغاني الألبوم بفرنسا. في شهر أوت الفارط، دعاني حمدي إلى الأستوديو، حيث كان يضع اللمسات الأخيرة على الألبوم، ليأخذ رأيي حوله. و كان ينوي القيام بجولة فنية يقدم خلالها أغاني ألبومه في مختلف أنحاء البلاد و في فرنسا و كندا. كان المرحوم يطمح لأن يصبح المالوف عالميا،  يخترق الحدود و الحواجز، و يرضي كل الأذواق و الأسماع بمختلف البلدان و القارات».
إ.ط


المطرب العربي غزال
الفقيد كان لؤلؤة من لآليء المالوف
« أعتبر الفقيد لؤلؤة من لآليء  الفن الأندلسي و المالوف، كان إنسانا و فنانا راقيا جدا و يتمتع بخصال حميدة، و كان متواضعا في معاملته و في فنه، مثل الجزائر في المحافل الدولية أحسن تمثيل و أخرج المالوف من الطابع المحلي الضيق، و كان يمارس الفن من أجل الفن و ليس من أجل المال و جني الأرباح ، لأن الغناء ليس مصدر رزقه الوحيد، فقد كان يعمل في قطاع آخر، و حالته المادية متوازنة.
التقيت به في عدة جلسات فنية و ناقشنا معا عدة مواضيع تتعلق بالموسيقى و شيوخ المالوف و التراث الفني. و كان لي شرف المشاركة في إحياء حفل  مع حمدي بناني بقاعة أحمد باي بقسنطينة، كلل بالنجاح. إنه يؤدي المالوف ببصمته الخاصة، و بذل قصارى جهده لتطوير فنه و نقش اسمه في الساحة الفنية، رحيله مؤلم، لكن لا يسعنا إلا أن نترحم عليه و نتقدم بخالص التعازي لذويه و عشاق فنه و كل الجزائريين».
إ.ط

 

الرجوع إلى الأعلى