الموت يغيب أب التحليل النفسي العربي مصطفى صفوان
غيب الموت قبل يومين بباريس، أب التحليل النفسي عند العرب، مصطفى صفوان، عن عمر ناهز 99 عاما، بعد صراع طويل مع المرض، تاركا خلفه رصيدا ثريا من الأفكار و النظريات و المؤلفات التي تؤرخ لمراحل متتالية من تطور التحليل النفسي و علم النفس، فساهمت في تكوين أجيال متعاقبة.
كان الفقيد أحد أوائل المحللين النفسيين الذين التحقوا بمدرسة المحلل و الطبيب النفسي الفرنسي جاك لاكان و قراءتها التفسيرية لسيغموند فرويد و اكتشافها مجالا خصبا يجمع بين الطب النفسي و الفلسفة و الرياضيّات و الأدب و اللغويات.
‬ولد الكاتب المصري مصفى صفوان في ‮‬1921 ‬ و نشأ في الإسكندرية خلال حقبة الانتداب البريطاني‮ لبلاده، و ‬على الرغم من اعتقال والده في عام‮ ‬1924 ‬لانتمائه للتيار الشيوعي،‮ ‬مضت طفولته دون أي مشاكل ‮، ‬درس الفلسفة في الجامعة المصرية، ثم التحليل النفسي على يد الدكتور مصطفى زيور‮، و تخرج في 1934 ، و في أواخر الأربعينيات سافر إلى باريس، لمتابعة دراساته العليا، فارتبط اسمه طويلا بالمحلل النفسي الفرنسي الشهير جاك لاكان .
عاد بعد ذلك إلى مصر، و شرع في التدريس بالجامعة، لكنه تعرض إلى مشكل بسيط مع حرس الجامعة، غير أنه كان حاسما بالنسبة إليه، فقد دفعه لاتخاذ قرار العودة إلى فرنسا و الاستقرار بها، فوسع أكثر فأكثر آفاقه المعرفية و أبحاثه و احتك بأشهر الأسماء في مجاله العلمي، فسطع نجمه، و هناك ألف عددا كبيرا من الكتب باللغة الفرنسية، تمت ترجمة بعضها إلى اللغة العربية.  
 رحلة بين أحضان اللغات و الفلسفة و التحليل النفسي
 ‬ الفقيد تحدث عن محطات هامة بحياته في مقابلة أجراها معه الكاتب و الناشط السياسي بشير هلال و نشرت في مجلة «كلمن» الفصلية المستقلة الصادرة في لبنان « أمضيت طفولة عادية، بين أبٍ متنور كان يعمل في التدريس وأم كرست حياتها لتكون ربة بيت على تقليد تلك الأيام، لكنها لم تكن محجبة. و في المدرسة كنا نتعلم الانجليزية ابتداء من السنة السادسة من العمر، و الفرنسية في العاشرة و العربية منذ البدء، وكان أساتذتنا في اللغات الأجنبية من جنسيات دولها. كان تعليماً جاداً أهّلني لأتقن عدة لغات.(...) وكانت لوالدي مجموعة من الأصدقاء يمتازون بالظرف، كانوا يجتمعون كثيراً في بعض مقاهي الإسكندرية و قد حضرت بعض اجتماعاتهم عندما أيفعت. و  كان وجود المجموعة التي ضمت والدي في الإسكندرية طبيعياً، في جوٍ تميّز في البلد كله، بنوعٍ من النهضة وبانتشار شيء من إشعاع الأنوار انعكس بنشوء شلل و مجاميع اعتمدت الظرف طريقة في تناول المسائل التي كان يمكن لإثارتها أن تستدرج أوسع المخاطر لو تمت بطريقة أخرى وفي زمنٍ آخر، ومنها القدح والتجديف (..) و ربما يعود بعض اهتمامي بكل ما يتعلَّق باللغة إلى تلك الأيام و الأجواء وما دفعني إلى اختيار قسم الفلسفة لدى مباشرة دراستي الجامعية عام 1939. و شاءت الظروف أن يكون بين أساتذتي يوسف كرم، خريج فرنسا في الفلسفة اليونانية وفلسفة العصور الوسطى، وكان مُتأثراً خاصة بالفيلسوف و اللاهوتي (القديس) توما الأكويني الذي كان يَعتبر تفسيره لأرسطو قمة العقل. واحتوت هذه الفلسفة التي لا تزال بالغة التأثير على العقول نظرية اللغة الموجودة من أيام اليونان والتي كان لها دور في نشأة علم النحو عند العرب. إذ هو علم تأثر بمنطق أرسطو طاليس الذي يتلخص بأن اللغة موجودة لتقول ما هو موجود. وكان أستاذي الثاني الدكتور مصطفى زِيوَرْ قد قدم من فرنسا غداة انفجار الحرب العالمية الثانية، وكان يُدرِّسنا علم النفس، وكان الكتاب الذي يعود إليه دائماً شرحاً و تعليقاً كتاب فرويد «علم الأمراض النفسية في الحياة اليومية»، و كان ميالاً إلى استخراج أمثلة عربية مطابقة للأمثلة الفرويدية».
شاهد على انشقاقات حركة التحليل النفسي بفرنسا
يذكر أن صفوان وصل إلى فرنسا في 3 جانفي 1946 بعد الحرب العالمية الثانية، وكانت قد بدأت تصدر العديد من البحوث في اللغة بعد اكتشافات دو سوسير و علماء الأنثروبولوجيا الأميركيين والفرنسيين و سيرورتهم نحو البنيوية، خاصة كلود ليفي ستراوس. و في ربيع 1946،‮ ‬بدأ تحليلا‮ ‬نفسيا شخصيا، سرعان ما تحول على مدار الأيام إلى تحليل تعليمي‮.

 ‬شهد صفوان كلّ‮ ‬الانشقاقات التي اخترقت حركة التحليل النفسي ‬في فرنسا، بما في ذلك حل‮ «‬المدرسة الفرويدية‮»،  ‬وهو من الأعضاء المؤسسين‮ لـ «‬الجمعية التأسيسية للتحليل النفسي‮»‬،‮ ‬في عام‮ ‬1983،‮ ‬ثم  «‬المؤسسة الأوروبية‮» ‬للتحليل النفسيّ‮، ‬وعضو شرفي لجمعيات عديدة للتحليل النفسي.‬
ألف الراحل كتاب‮ «‬لماذا العرب ليسو أحرارا ؟‮»‬،‮ ‬الذي تعرض إلى إشكالية تحرير الإنسان العربي من مختلف أنواع الاستبداد و تحليل الآليات التي رسخت أركانه، ليس سياسيا فقط، بل اجتماعيا و ثقافيا و لغويا. و من أبرز مقومات بنى الاستبداد التي يعالجها هذا العمل، العلاقة ما بين اللغة والكتابة، وسلطات الاستبداد، وكذلك ما يمكن أن نطلق عليه تسمية اللاوعي الثقافي، على غرار اللاوعي الفردي، والذي يرسّخ علاقة الاستبداد ما بين الحاكم والشعب. و يتكامل عند صفوان همّ تحرير الإنسان العربي من الاستبداد، مع تحرّره من الاستلاب الذي تمارسه عليه مكبوتاته النفسية.
تألق مفكرا و كاتبا و مترجما
من أشهر كتب صفوان «‬الجنسانية الأنثوية‮»‬،‮ ‬»فشل مبدأ اللذة‮»، «اللاشعور وكاتبه‮»‬،‮ ‬ «الطرح و شوق المحلل‮»‬،‮ ‬ «دراسات في الأوديب‮»‬،‮ ‬ «الكلام أو الموت‮»، ‬ «ضيق في التحليل النفسي‮»،‮ ‬ «عشر محاضرات في التحليل النفسي»، ‬ «ندوات جاك لاكان‮»، ‬ «البنيوية في التحليل»و «نحو عالم عربي مختلف».
 كما ساهم في إثراء المكتبة العربية بكتاباته و ترجماته، وعلى رأسها ترجمته لكتاب فرويد «تفسير الأحلام»، الذي قال باحثون بأنه متفوق على الترجمة الفرنسية لكتاب مؤسس التحليل النفسي،  كما ارتبط اسمه بترجمة كتاب «العبودية المختارة» لإتيان دي لابويسي، و فاز صفوان بجائزة ابن خلدون في الترجمة في العلوم الإنسانية في 2017 عن كتابه « التحليل النفسي علما و علاجا و قضية»..
و قام الفقيد بترجمة مسرحية شكسبير إلى اللغة المصرية العامية، و كان لديه مواقف خاصة إزاء اللغة الفصحى و العامية، حيث يعتبر أن احتقار الشعب للسانه وسيلة السلطة لكسرِه، و صرح بهذا الخصوص» أعتقد أنه دون تعليم اللغة العامية، ستبقى الهوة بين الثقافة والشعب قائمة، و ستبقى عملية الخلق الأدبي مشوهة، فاللغة الأدبية مختلفة، لكنها ليست لغة ثانية، فهي خلق، لكن خلق باللغة التي تعلم الشعب قواعدها».
ق.ث

الرجوع إلى الأعلى