* هل الجوائز الأدبية هي من يكرّسُ الأدباء أم الأدباء هم من يمنح للجائزة مكانتها؟
في حقيقة الأمر فإنّ الأعمال الأدبية المتميّزة هي من يمنح للجوائز الأدبية مكانتها، لأنّ الجائزة الأدبية ليس هي من يصنع الأديب، بقدر ما هي درجة من درجات التثمين لمنزلة الأديب، ولم نعرف عبر تاريخ الأدب أن أديبا يعود الفضل في بروزه وشهرته إلى الجائزة، بقدر ما كانت الجائزة هي من يحظى بتلك المنزلة حين تُمنح للأديب فتحظى بشهرته، وكلّما كانت الجوائز الأدبية مرموقة كلّما كان الأدباء الذين يحصلون عليها هم من ذوي المنزلة الرفيعة أدبيا، وقد سبق لهم وأن نالوا شهرتهم الجماهيرية من خلال المقروئية التي تُحرزها أعمالهم وبالتالي فالجوائز عادة ما تأتي لتتويج المُتوّج من قبل القرّاء والنقّاد.
لكن للجوائز الأدبية طابعها الخاص من بين الجوائز في مختلف التخصصات الأخرى، وذلك لأنّ الأدب شأنه شأن الموسيقى يخضع لعوامل تتجاوز الإجراءات النقدية ونعني بها ما يُعرف « بالذّائقة الأدبية» أو « الحساسية الأدبية « التي لا تُدرك إلاّ بالذّوق، وهو مجال تتجاوز حدوده الإجراءات النقدية التي كثيرا ما تخضع للموضوعية العلمية؛ لذا قيل قديما « وللنّاس فيما يعشقون مذاهب»؛ فهذه المذاهب الذوقية لا تخضع لمعايير النقد بقدر ما تخضر لمعايير « الذّائقة الأدبية « ومن هنا نجد في نقدنا العربي القديم كيف لم يقر كلٌّ من الخنساء وحسان بن ثابت لتحكيم النابغة في سوق عُكاظ .. فخرج الشاعر حسان بن ثابت من خيمة التحكيم التي نُصبت للنّابغة يشتطّ غضبا ويقول له أنا أشعر منك ومن أبيك ، ولمّا حكم النّابغة بالجودة للخنساء كونها أشعر امرأة انفجرت في وجهه قائلة بلغة « القُبح « بل أشعر من كلّ ذي خصية أيضا؛ أي أنها أشعر النساء والرجال ... وبعد قرون عالج هذه القضية ناقد فذٌّ يُقال له الآمدي في كتابه « المُوازنة بين الطائيين « أبو تمام والبحتري ، حيث ذكر في تقديمه لكتاب الموازنة أنّ الأمر حين يتعلّق بالأدب ليس من السّهل أن يُقرّ لك السّامع برأيك حتّى ولو كنت من جهابذة النقّاد؛ لأنّ الأمر ببساطة كما يقول الآمدي يتعلّق « بالذّائقة الأدبية « وهي حساسية ممعنة في الذّاتية  و تخضع لمقاييس الجذب والقبض، وللحسيّة الفنّية؛ قيقول الآمدي إنّه بإمكانك أن تستأنس برأي الصائغي مثلا في عيار الذهب والفضّة، وتسلّم برأيه بحكم اختصاصه، كما يمكنك أن تُسلّم للصيرفي في حكمه على سلامة الدنانير وتسلم بحكمه وكذلك للنجار برأيه بحكم حِرفيته، لكن لمّا يتعلّق بالأدب وفنونه فليس من السهل أن يُقرّ لك السامع أو المتذوّق برأيك حتّى ولو كنت من كبار المتخصصين في هذا الشأن؛لأنّ الأمر صار يتعلق بالذوق الفنّي للأشياء، وهي حساسية غير قابلة للموضوعية، بقدر ما هي خاضعة إلى الذّائقة الفردية، ومن هنا قيل « وللنّاس فيما يعشقون مذاهب» .. ولهذا لمّا سُئل البحتري عن رأيه في شعر ابن تمام قال : « جيّدُه خيرٌ من جيّدي  ورديء خيرٌ من رديئه « حتى يتجنّب الوقوع في مطب المواجهة ، ومن هنا صار تقييم الأعمال الأدبية يستلزم ، بالإضافة إلى الإجراءات النقدية ،  ضرورة مراعاة الذائقة الأدبية ، وهي بدورها تخضع لمقومات ما هو سائد ، وما هو متفق على استحسانه ، وما قد جرت العادة على إتيانه بحسب المؤتلف من القول ... لذا يكون تقييم الجوائز الأدبية يخضع لمقومات لا نجدها في الاختصاصات الأخرى...فالذّائقة الشعرية على سبيل المثال لا يكفي فيها أن تكون عالما بالإجراءات النقدية للشعر، بل من الواجب أن تكون أيضا على دراية بالذائقة الشعرية وممارسة الفعل الشعري، وكذلك الشأن في عالم السرديات، فضرورة توفر الذّائقة السردية والممارسة في أعضاء لجان التحكيم الروائي فيه أكثر من ضرورة وإلاّ يكون الخلل الذي كثيرا ما ينزلق، وينتج عنه أحكاما تفاجئ القرّاء بأعمال فائزة ولكنّها دون المستوى المطلوب، لكون أعضاء لجان التحكيم لا تتوفر في كافة أعضائهم ما هو ضروري في مثل هذه المحاكمات النقدية للأعمال الإبداعية.
كما تخضع الجوائز الأدبية إلى عوامل خارجية مثل : الجهات المتبنية لهذه الجوائز؛ ومن يقف وراءها ، والجهات الممولة لها ، وهل لديها من المصداقية الأدبية والفنّية، وهل تتمتّع بالعراقة المطلوبة في هذا السياق، أم هي مجرّد مموّل يسعى من وراء ذلك لكسب الشهرة والظهور على الساحة الأدبية بمظهر الحاضن لمثل هذه الجوائز حتّى ينال من ورائها حظوة الظهور في الساحة الثقافية، مثل هذه العوامل لها أثرها المباشر على نتائج التحكيم في مثل هذه الجوائز، ولا أعتقد أن جائزة تُمنح في القاهرة على سبيل المثال تساويها جائزة تمنح في الشارقة ؟ أو جائزة تُمنح في لبنان تساويها جائزة تُمنح في الجزائر، فللجوائز منابرها كما كانت عُكاظ من قبلُ ، فخلفية الجائزة الثقافية لها دورها في تحديد مستوى الجوائز، ثمّ إنّ الجائزة في آخر الأمر ليست هي من يصنع الأديب أو يكرّسه، بل الجائزة هي عادة نتيجة تتويج كان قد سبق للأديب أن استحقه في وسط قرائه ونقاده، لذا كان تقرير الجائزة السويدية لنوبل في الآداب صادقا حين عبّر عن ابتهاجه بحصول غابرييل غارسيا ماركيز لجائزة الآداب معترفا أنّ الروائي الكولومبي ماركيز قد سبق وأن نال جائزته من قبل قرائه المنتشرين في العالم ، وجائزة نوبل جاءت اليوم لتكرّس ما بلغته أعمال ماركيز من قيمة واحترام وتقدير من قبل قرّائه في أنحاء العالم... ومن هنا يمكننا القول إن الجائزة لا تخلق الأديب بقدر ما يُكرّس الأديب مكانة الجائزة ...لذا فللجوائز أماكن معلومة ومنابر تستحق التقدير، لذا وجدنا في السنوات الماضية كيف تم اكتشاف فضيحة في إحدى جوائز بلدان الخليج التي كثيرا ما يتحكّم في منطقها  « البيترو دولار» والولاء الأيديولوجي والسياسي وحتى العرقي  أكثر من منطق الجودة الإبداعية ..فكانت الفضيحة  اكتشاف الجائزة الممنوحة أنها لعمل مسروق لم تهتد لجنة التحكيم إلى اكتشافه ، وهذه إحدى المطبّات التي تعاني منها الجوائز الأدبية التي ترعاها بلدان خليجية في السنوات الأخيرة في غياب المنابر التي كانت جديرة بمنح مثل هذه الجوائز ..

الرجوع إلى الأعلى