عندما تقود الثقافة القاطرة الاقتصادية المستدامة
لم يعد خافيا على أحد أن المجتمع الإنساني عرف تطورات مذهلة خلال السنوات الخمسين الأخيرة من القرن الماضي  إلى غاية يومنا هذا   ومن نافلة القول أيضا أن المعرفة أصبحت دعامة رئيسية من دعائم تقدم الأمم والباعث على الحراك الفكري والاجتماعي إذ يطلق على العصر الحاضر "عصر المعرفة" أو ""مجتمع المعرفة"
*  السيدة سامية مرزوقي / كاتبة وإعلامية /متصرف مستشار
لقد جاء مجتمع المعرفة بديلا لمجتمع الصناعة بمفهومه التقليدي والذي يعتمد على رأس المال والمواد الخام، في حين أن التطور الهائل لتكنولوجيات الاعلام والاتصال وتقنيات البرمجة والذكاء الاصطناعي على غرار الحواسيب والأنترنيت قد أوجد مخارج جديدة للفكر الإنساني أهمها على الاطلاق التدفق الرهيب للمعلومات وتجاوزها كل الحدود الجغرافية للبلدان وحتى الحدود الكونية ، فتم التأسيس لمعارف تعتمد على جمع المعلومات وتصنيفها وتخزينها واسترجاعها وبثها لأكبر عدد ممكن من الأفراد وضمن أقل وقت ممكن ،أي بمعنى آخر إنتاج المعرفة ونشرها وتوظيفها بكفاءة في كل مجالات النشاط المجتمعي  كالاقتصاد والسياسة والثقافة والمجتمع المدني والحياة الخاصة أيضا .
من هذا المنطلق فإن ما يميز مجتمع المعرفة هو جعل الانسان كفاعل أساسي (على عكس المجتمع الصناعي والذي يضع رأس المال والمواد الخام كدعائم أساسية) باعتباره مصدر الابداع الفكري والمعرفي والمادي، كما أنه و هو أي الانسان، الغاية المرجوة من التنمية البشرية ويمتاز "مجتمع المعرفة «بمجموعة من السمات أهمها:

• تقليص قيود الزمان والمكان وانتفائها في الكثير من الأحيان وهذا ما أحدثته "ثورة الأنترنيت " إن صح التعبير
• الاندماج بين مجالات المعرفة المختلفة وبروز مساحات معرفية جديدة مما أدى الى نشأة مصطلح جديد هو مصطلح " القيمة المعرفية المضافة"
• إيجاد نماذج جديدة للتسيير الاقتصادي والثقافي ومنهجيات علمية جديدة في كل المجالات
• التغيير الجدري في مفهوم العمل وآلياته ومهاراته مما أدى الى بروز مجموعة جديدة من الوظائف المرتبطة بتكنولوجيات المعلومات والمعرفة

والحديث عن هذه النقاط يجرنا حتما الى الحديث عن الاقتصاد كنشاط مجتمعي، فتطور المجتمع إلى مجتمع المعرفة أفضى أيضا إلى اقتصاد المعرفة واضعا بذلك نهاية لكل الممارسات والتصورات والنماذج القديمة والمرتبطة بالفكرة التصنيعية وفتح الباب واسعا أمام نموذج اقتصادي جديد متفتح على مجتمع معرفي بامتياز
إن اقتصاد المعرفة في الأساس يقصد به أن تكون المعرفة هي المحرك الرئيسي للنمو الاقتصادي. واقتصادات المعرفة تعتمد على توافر تكنولوجيات المعلومات والاتصال واستخدام الابتكار والرقمنة وعلى العكس من الاقتصاد المبني على الإنتاج، حيث تلعب المعرفة دورا أقل، وحيث يكون النمو مدفوعا بعوامل الإنتاج التقليدية، فإن الموارد البشرية المؤهلة وذات المهارات العالية، أو رأس المال البشري، هي أكثر الأصول قيمة في الاقتصاد الجديد، المبني على المعرفة. وفي الاقتصاد المبني على المعرفة ترتفع المساهمة النسبية للصناعات المبنية على المعرفة أو تمكينها، وتتمثل في الغالب في الصناعات ذات التكنولوجيا المتوسطة والرفيعة، مثل الخدمات المالية وخدمات الأعمال.
إن الطوفان الهائل للمعلومات والمعارف وثورة الأنترنيت وبروز مجتمع المعرفة ومنه اقتصاد المعرفة، ساهم بشكل كبير في إيجاد منتجات ثقافية جديدة باعتبار أن الثقافة هي أيضا نشاط مجتمعي أساسي يعتمد على الأفكار والابداع والابتكار مما استوجب إيجاد أسواق جديدة لهذا النوع من المنتجات الإبداعية والابتكارية فبرز مصطلح الصناعات الثقافية والإبداعية وبدأت تأخذ حيزا كبيرا في الاقتصاديات العالمية واتساع أسواقها والطبقة المستهلكة لها  وكذا مداخيلها التي أصبحت تعد وتحصى بالتريليونات من الدولارات، وقد أثبتت هذه الصناعات في أكثر من بلد وفي أكثر من أزمة مالية على احتلالها الصفوف الأولى ضمن الصناعات التي توجد التوازنات الضرورية للاقتصاديات المنهارة، بل تعدت إلى دفع عجلة التنمية بوتيرة قوية جدا، حيث قادت في أكثر من بلد قاطرة التنمية ثم التنمية المستدامة فأصبحت بذلك أحد مميزات اقتصاد المعرفة الذي يعتمد على التدفق الهائل للمعلومات ووسائل التواصل التكنولوجية والتي أدت بدورها إلى زيادة الكميات المنتجة بشكل غير مسبوق، وهو ما سمح أيضا لشرائح واسعة من المجتمع بامتلاك القدرة على الوصول إلى هذه المنتجات واستهلاكها أو ما يعرف بالاستهلاك الجماهيري للإنتاج الضخم.
إن الأرقام والإحصائيات التي ما فتئت تنشرها مختلف المنظمات و الهيئات الدولية ذات المصداقية العالمية لا تترك أي مجال للشك أو الريبة في أهمية الصناعات الثقافية والإبداعية في دفع النمو الاقتصادي للدول وللكيانات بل، وقد تحولت في بعض الدول كبريطانيا و ألمانيا على سبيل المثال وليس الحصر كحل للأزمة المالية التي تتخبط فيها ،كما أصبحت في بلدان أخرى على غرار الصين مثلا ، المورد الأساسي في تجارتها الخارجية مما جعل منظمة كمنظمة اليونسكو ترى في الصناعات الثقافية والإبداعية مخرجا وحلا للأزمة المالية والاقتصادية العالمية التي بدأت تتنامى منذ 2011 وبالتالي فإن الصناعات الثقافية والإبداعية أصبحت حتمية اقتصادية وحضارية لا مفر منها .
من خلال كل ما تقدم فإن التوجه نحو الصناعات الثقافية والإبداعية أصبح ضروريا لمواكبة التطور المعرفي والمجتمعي، فالمسألة ليست مسألة خيارات اقتصادية متاحة يمكن تجاهلها أو الاستغناء عنها أو قناعات سياسية ونخبوية، يمكن أن تكون مرتبطة بأشخاص أو توجهات حزبية أو نظام سياسي معين يمكن تجاوزها بسهولة، وإنما هي حتمية حضارية تندرج ضمن السياقات التاريخية لتطور المجتمع الإنساني والذي بلغ ذروة التقدم من خلال ما يعرف حاليا بمجتمع المعرفة. من هذا المنطلق ظهر أول استعمال لمصطلح "الاقتصاد البنفسجي" في 19 ماي سنة 2011 بفرنسا، بمبادرة من جمعية DIVERSUM حيث يعنى به " الاقتصاد البنفسجي" هو ذلك الفرع من الاقتصاد والذي يتكيف مع التنوع البشري في سياق العولمة، حيث يرتبط بالبعد الثقافي في إعطاء قيمة للسلع والخدمات، ومساهمة هذا الفرع من الاقتصاد في التنمية المستدامة. حيث إنه يركز على القيم الثقافية الموجودة في السلع والخدمات، مما يؤدي إلى مزيد من الاهتمام بدور الأنشطة الفنية والثقافية، وبالتالي جعل الاقتصاد في حالة جيدة.
الاقتصاد البنفسجي هو تحالف بين الاقتصاد والثقافة، لإضفاء الطابع الإنساني على العولمة للتوفيق بين التنمية الاقتصادية والاستدامة. إنه مجال واعد بكونه نموذجا قائما على التنمية الثقافية للخروج من الأزمات الاقتصادية، وتوجيه الاقتصاد المستقبلي، وكذلك تجديد الأنشطة الإنتاجية. إن مساهمة الاقتصاد البنفسجي في خلق البيئة الثقافية المتنوعة الثرية يجعلها محور الارتكاز في تحقيق غايات التقدم والرفاه.
  ومن هنا نعيد ونكرر أن الصناعات الثقافية والإبداعية والاقتصاد الثقافي والاقتصاد البنفسجي لم تعد خيارات على مختلف مستوياتها وإنما هي حتميات حضارية واقتصادية أملاها مجتمع المعرفة الذي نعيش فيه.

المراجع:
• كتاب الصناعات الثقافية والإبداعية / سامية مرزوقي /دار المثقف باتنة /2018
• كتاب صناعة المعلومات وبناء مجتمع المعرفة /إبراهيم بريم/دار هومة /2016
• اﻻﻗﺘﺼﺎد اﻟﺒﻨﻔﺴجي: اﻷهداف واﻟﻔرص The Purple Economy: Objectives & Opportunities ﺑﻠﺑﺷﻳﺭ ﻫﺟﻳﺭﺓ ، ﻏﺯﻳﺑﺎﻭﻥ ﻋﻠﻲ ، ﺑﻠﺑﺷﻳﺭ ﭬﻭﺭﺍﻳﺔ
مجلة الأسواق والمالية/ المجلد 07/ العدد 02(2020) /ص من 230 إلى 246

الرجوع إلى الأعلى