المصادر التي أولت عناية بآثار التيفاشي لم تذكر لنا المدّة الأولى التي قضَّاها التيفاشي بالمشرق في طلب العلم ، لكنها تشير إلى عودته إلى مسقط رأسه وتوليه منصب القضاء أيام الدولة الحفصية، ثمّ تشير إلى رحلته الثانية إلى المشرق وتؤكد على أنهّا كانت رحلة طويلة قطع خلالها التيفاشي أصقاع أرمينية والعراق وبلاد فارس ولعلها الرحلة التي مكنته من توسيع معارفه في علم المعادن والجواهر والأحجار الكريمة التي باتت من اختصاصه الذي عرف به في تراث الحضارة العربية الإسلامية وصار أحد الأعلام المبرزين فيه ، ويؤكد ذلك مؤلفه الشهير " أزهار الأفكار في جواهر الأحجار ".
* بقلم الدكتور عبد الله حمادي/ الحلقة الثانية و الأخيرة
وتشير المصادر كذلك إلى عودة ثانية للتيفاشي إلى القاهرة وتصدُّره لتدريس العلوم وتولي القضاء والعمل على خدمة سلاطين مصر إلى أن توفي بالقاهرة عام 651 هـ / الموافق 1253 م وقد ناهز السبعين من عمره ودفن بمقابر باب النصر بالقاهرة؛ وهي المقابر التي دفن بها العظماء من أمثال ابن خلدون وابن هشام النحوي صاحب كتاب " المُغني اللبيب ..." الذي قال عنه ابن خلدون " مازلنا ونحن بالمغرب نسمع أنه ظهر بمصر عالم في النحو أنْحى من سيبويه " ، أمّا العالم الأريب ابن منظور صاحب معجم لسان العرب فهو من توَلَّى تهذيب كتاب التيفاشي " سرور النفوس بمدارك الحواس الخمس " الذي حققه الدكتور إحسان عباس،  ونشر في المؤسسة العربية للدراسات والنشر بيروت، لبنان 1980
   إنّ التيفاشي الذي عاصر كبار العلماء في العصر الموحدي بالمغرب، وعاصر كبار أبطال الأمة العربية وأعلامها في عهد صلاح الدين الأيوبي، كان من المحظوظين في انتسابه إلى هذا العصر ؛ إنّه عصر يفورُ بتيارات متعددة في التصوف الشرعي والبدعي وفي علوم الدين، وعلوم اللغة والتاريخ والحكمة، والطب والفلك وغيرها.. فقد كان عصر التيفاشي عصر الحسن بن الشاذلي وابن عربي الحاتمي وابن دقيق العيد والعزّ بن عبد السلام ... وغيرهم؛ إنّه عصر انتصار الخليفة الموحدي المنصور بن عبد المؤمن بن علي على الإسبان في " معركة الأراك " ، وانتصار الظافر صلاح الدين الأيوبي على الصليبيين في " معركة حطين " إنّ عصرا كهذا لجدير بإنجاب ابن خلدون والتيفاشي وابن هشام اللّخمي وغيرهم من عمالقة العلم واللغة ، ومن حسن حظ التيفاشي أن ترث دولة الموحِّدين في بلاده الدولة الحفصية (8)  ويرث محط رحاله العلمي القاهرة سلاطين المماليك فيغرف من ميراث حضارة المشرق والمغرب ما أورى زِناده ومكنه من البروز في مختلف أنواع العلم والآداب، فمن التخصص الدقيق في علم الجواهر إلى الدراية التامة بطبوع الفن الموسيقي، إلى الفنون الغرائبية المستوحاة من أدب الرحلات وارتياد الآفاق التي عاشها وعايشها ، وتفنّن في معاينتها ورصدها في مُصنّفاته الدّالة على أمانته العلمية والتقصّي في الوصول إلى غاياته.
أمّا منجزاته العلمية الغزيرة فقد تراوحت بين الجوانب العلمية المحضة والجوانب الأدبية الإبداعية التخييلية ؛ فالتيفاشي من علماء الجيولوجيا والمعادن ، كما له مؤلفات في الطب والأدوية والطب الجنسي، وله مؤلفات في أدب السياحة والرحلات وارتياد الآفاق ، و مؤلفات في علم الأنواء والأرصاد الجوية وله مع ذلك مؤلفات في فنون الأدب شعره ونثره وله مؤلفات في الموسيقى وعلم الألحان ؛ ومن أشهر هذه المصنفات  التي ذكرها مؤلف كتاب " هداية العارفين " :
1 – كتاب "أزهار الأفكار في جواهر الأحجار" الذي اعتنى بتصحيحه وتحقيقه الدكتور محمد يوسف حسن والدكتور محمود بسيوني خفاجي ونشر في دار الهيئة المصرية العامة للكتاب عام 1977 . وهو كتاب مكرس لعلم الأحجار الكريمة والجواهر يظهر من خلاله التيفاشي المؤسس الكبير لمثل هذا العلم الجديد في الحضارة العربية الإسلامية . يقول في مفتتح كتابه :" هذا كتاب غريب عجيب الجمع، عظيم النّفع ضمّنته ذكر الأحجار الملوكية التي توجد مُعظمها في خزائن الملوك وذخائر الرؤساء ممّا لا يُستغنى عن اقتنائه ملك كبير ولا رئيس خطير لِمَا يشتمل عليه من عظيم المنافع وعجائب الخواص .ولم أُشرك بها ذكر شيء من الأحجار المتداولة في أيدي العوام .."
2 – كتاب "المُنقذ من التَّهْلكة في دفع مضار السمائم المُهْلكة" وهو تصنيف في الطب ويُعتمد لمعالجة الأمراض الباطنية .
3 – كتاب " الدرر الفائقة في محاسن الأفارقة " وهو عبارة عن مشاهدات التيفاشي أثناء زيارته إلى أرض النوبة والسودان وجنوب مصر ومعاينته لطبائع المخلوقات في القرن الإفريقي أو ما يُعرف بالساحل الإفريقي .
4 – كتاب " رجوع الشيخ إلى صباه في القوة على الباه " وهو كتاب نادر في تأليفه اعتنى فيه التيفاشي بما يمكن تسميتة بالتربية الجنسية ، ومثل هذه التصانيف وأخرى " كالروض العاطر " و " الحِصن الحصين " وما إلى ذلك، كان لها الرواج الشائع فيما يعرف بالثقافة الشعبية التي استعصت على الرقابة الرسمية أو الدينية  واحتلت مكانا على الأرصفة رغم الحظر والتحريم .مُصرّة على تبليغ رسالتها المسكوت عنها . وذكر بروكلمان أنّ مصدر التيفاشي في هذا التصنيف يمكن أن يكون كتاب الجاحظ " العِرس والعروس " .
5 – كتاب " سجع الهديل في أخبار النيل " وهو مرجع اهتم فيه التيفاشي أثناء مشاهداته وقراءاته بنهر النيل وجغرافيته وفيضاناته وما يُزرع على ضفافه وهو ما يمكن أن يطلق عليه بالثقافة السياحية .
6 – كتاب " سرور النفس بمدارك الحواس الخمس "  وهو الكتاب الذي هذّبه ابن منظور صاحب معجم " لسان العرب " وقام بتحقيقه الدكتور إحسان عباس ونشر في المؤسسة العربية للدراسات والنشر ، بيروت 1980 . ويقول عنه القلقشندي إنّه كتاب في وصف البلدان ولو أنّ عنوانه لا ينمّ عن ذلك .
7 – كتاب " الشفا في الطب عن المصطفى " يظهر أنّه كتاب فيما يُعرفُ بالطبّ النبويّ الشريف .
8 – كتاب " قادمة الجناح في النكاح " وهو كتاب يتحدث عن العلاقات الجنسية بين المرأة والرجل ، وهو من الثقافة التي أولاها علماء ذلك العصر أهمية وعناية .
9 – كتاب " الديباج الخُسْرُواني في شعر ابن هانئ " وهو عبارة عن شرح أدبي لديوان الشاعر ابن هانئ الأندلسي الذي قال في حقه المعز لدين الله الفاطمي " كُنَّا نريد أن نُفاخر به أهل المشرق " .
10 – دُرّة الآل في عيون الأخبار ومُسْتَحْسن الأشعار " من المؤكد أنه كتاب في فُكاهات الأسمار ومُذْهبات الأخبار والأشعار والنوادر والأمثال .
11 – كتاب " نُزهة الألباب فيما لا يوجد في كتاب " ويظهر أنه من جنس أدب الرحلات .
12 – كتاب " متعة الإِسماع في علم السماع " وهو كتاب في فنّ الموسيقى، أو علم السماع والألحان، وهو الكتاب الذي توجد منه نسخة بخط المؤلف في المكتبة العاشورية والذي يعكف على تحقيقها كما علمنا الأستاذ رشيد السلامي التونسي . وفي هذا الكتاب النّادر يظهر فيه اطلاع التيفاشي الكبير على علم الألحان وخاصة الأندلسية منها والمغاربية ، ولعل التيفاشي في هذا المخطوط هو أول من نبّه إلى الدور الموسيقي الكبير الذي اضطلع به الشاعر ابن باجه مؤسس المدرسة الأندلسية الموسيقية التي عمد فيها إلى إحداث الخلطة التاريخية الفريدة من نوعها بين الطبوع الموسيقية المسيحية الإسبانية والعربية الإسلامية الأندلسية وخرج بما عبّر عنه التيفاشي في مخطوطه :"... إنّ أهل الأندلس في القديم كان غناؤهم إمّا بطريقة النّصارى وإمّا بطريقة حُداة العرب ولم يكن عندهم قانون يعتمدون عليه إلى أن تأثلت الدولة الأموية وكان ذلك زمن الحكم الرّبضي فوفد عليه من المشرق ومن إفريقية من يُحسن غناء التلاحين المَدَنية فأخذ النّاس عنهم إلى أن وفد الإمام المُقدم في هذا الشأن علي بن نافع المُلقب بزرياب غُلام إسحاق الموصلي على الأمير عبد الرحمان الأوسط فجاء بما لم تعهده الأسماع، واتّخذت طريقته مسلكا وتُنُسِيَ غيرها إلى أن نشأ ابن باجة الإمام الأعظم واعتكف مُدّة سنين مع جوارٍ مُحسنات فهذّب الاستهلال والعمل ومزج غناء النصارى بغناء المشرق واقترح طريقة لا توجد إلاّ في الأندلس مال إليها طبعُ أهلها فرفضوا ما سواها " .   13 – كتاب " فصل الخطاب في مدارك الحواس لأولي الألباب " وهو الكتاب الذي ألفه بالعراق كرد للجميل لصاحبه على الحفاوة التي حظي بها عنده ،وتقول المصادر إنّه موسوعة علمية من الطراز الرفيع تقع في حوالي أربعين مجلدا وتتناول مختلف العلوم والتاريخ والآداب .

الرجوع إلى الأعلى