القيم التي يضيفها الشِّعر العربي الجديد يستمدها من التراث الصوفي

يتحدث الباحث الأكاديمي الدكتور ياسين بن عبيد، عن الحداثة العربية -في مشروعها النقدي- والتي تنظر إلى الشِّعر نظرة تجريدية. وعن الأداء الصوفي وما إذا كان يُوفر الشّعرية؟ وعن الشّعر الّذي نتساءل هل يكتفي بنفسه في النص أو المناخ الفني الصوفي؟ وعن ثنائية/إشكالية الشّعر والحرية. وعن شؤون أخرى ذات صلة.

   حاورته/ نـوّارة لـحـرش

للعلم الدكتور ياسين بن عبيد، شاعر وأستاذ وباحث مختص في الفكر الصوفي والتصوف، له مجموعات شعرية مطبوعة في الجزائر، ومجموعة كتب ومقالات باللغتين العربية والفرنسية منشورة في الجزائر وفي الوطن العربي، كما له إصدارات ترجمية في الأدب وفي القصص الموجه للأطفال، صدرت بباريس عن دار النّور ودار البراق اللبنانية.

تقول: «إنّ الحداثة العربية -في مشروعها النقدي- تنظر إلى الشِّعر نظرة تجريدية». هل توضح أكثـر؟
ياسين بن عبيد: نعم. تنظر الحداثة العربية -في مشروعها النقدي- إلى الشِّعر نظرة تجريدية. فتضع له عياراً بنائيًا تقيمه على اِنصراف الشاعر إلى البنية الخفية، على أساس من تجربة متصلة الرّوح بواقع تخييلي تنسجه شبكة من العلاقات الداخلية، ومن الصيغ المجردة التي يكون الشِّعر صورة علنية لها. قد يتلبس بالشِّعر مع ذلك أجزاء من واقع آخر غير هذه البُنى، تُشوّه عليه حقيقته وتموه الطريق إليه. لذلك ينبغي حده بِمَا هو خالص من عناصر، وعدم الخلط بينه وبين القيم التي لا يمكن اِحتسابها في بِناه. وفقًا لذلك، فأنجح التجارب الشِّعرية هي تلك التي تتجه إلى «الفصل بين الشِّعر من جهة، والدين والأخلاق والسياسة من جهة ثانية، والتوكيد على أنّ الشِّعر تجربة ذاتية».
لا يهمنا -اِبتداء- من هذا الرأي اِزدواجية الخطاب الحداثي فيه، فالحداثة في نسختها المقلوبة تعتبر أنّ كلمة «ذاتية» في المقياس الفني تعني الفن المتخلف»، ولكن يهمنا منه رائحة التأصيل لفهم جديد لطبيعة الشِّعر ووظيفته، والأسلوب التطبيقي على نصوص لا نوافق دعوى اِنسجامها مع ما في هذا الوعي بالتجربة الشِّعرية من إثارة، وما يعني ذلك من مفارقة لكينونتها وسيرورتها.
فمثل هذا الرأي لا بدّ أن يقوم على أساس وظيفي يجمع بين التاريخ والنقد، أي يكشف عن المؤرخ في الناقد، وعن الناقد في المؤرخ، ولكنّه في منتهاه التطبيقي نتيجة لمقدمات إيديولوجية لم تول الاِعتبار الجمالي والبُعد الإنساني مستحقهما من العناية.
ليس هناك ادِّعاءٌ بأنّه رأي لم يطرقه النقد العربي القديم، خصوصًا في مرحلته التأثرية، فقد قال به أبو الحسن الجرجاني (ت.366هـ) في (الوساطة) وهو وإن راعى فيه النموذج النقدي الهلينستي (الإغريقي الروماني) القائل بالمثالية الجمالية التي يكون فيها السمو أعظم المناقب الأدبية، فإنّه أراد به ما هو اليوم أساس لرأي برادلي Bradley (ت.1924) في موضوع (الشِّعر للشِّعر)، الّذي خُلاصته أنّ التجربة الشِّعرية (غاية في ذاتها تستحق ما يُبذل فيها على وجهها، وأنّ قيمتها الشِّعرية هي ذلك الاِستحقاق الذاتي وحده، وقد يكون للقصيدة قيمة خيالية)، وأين هذا مِمَا تجري فيه الحداثة مجرى التنظير لأدب يُقاطع الاِعتبارات الجمالية بمفاهيمها المتكاملة؟
ولعلّ في ظاهر عبارة الجرجاني ما دعا -لشيء من الإيهام فيها- إلى العدول بها عن مراده، وإلى اِستغلال فسحة في التعبير تطاوع على التفلت من مقتضيات السياق، وعلى التحلل من مسؤولية الإحالة الأمينة، والتأويل الموافق، فمن قوله: (.. والدين بمعزل عن الشِّعر) تستأنف خالدة سعيد: (.. فإنّ الشاعر متى أدخل الفلسفة أو العِلم، أو التعليم الأخلاقي، أو الديني أو السياسي في شعره فسد شعره..).
هذا يُحيل بشكلٍ ما إلى فكرة أدونيس الجدلية حول الشّعر والثورة.
ياسين بن عبيد: تمامًا. يُؤكد ذلك ما في اِندفاع أدونيس إلى المصالحة بين الشِّعر والثورة -بالمعنى الماركسي على المستوى النظري، وبالمعنى الانتمائي العلمي في التطبيق- يقول شارحًا الجدل بين الشِّعر والثورة: (الشِّعر رؤيا فِعل، والثورة فِعل رُؤيا)، فما الّذي جعل الدين والأخلاق مفاهيم تقعد بالشِّعر وتنهض به الثورة؟
كما تُؤكده مفارقة الاِنحياز إلى النص الصوفي رغم مرجعيته التي لا تنفصل عن كونها دينية في المقام الأوّل، وغير ذاتية بالمفهوم الحداثي. فالتصوّف عند أدونيس (حدسٌ شعري ومعظم نصوصه نصوص شعرية صافية، ولهذا فإنّ القيم التي يضيفها الشِّعر العربي الجديد أو يُحاول أن يضيفها، إنّما يستمدها من التراث الصوفي العربي في الدرجة الأولى، ومن قيمه تجاوز الواقع إلى الحرية أي إلى اللاعقلانية. لذلك (لا تمكن محاسبة النص الصوفي عقليًا فهو وليد تجربة لا مدخل فيها للعقل وأحكامه). هذا مع صعوبة القفز على تفاعلات التجربة الصوفية والأثر الشِّعري الدال عليها. ومع اِستحالة عزل الخصائص الجمالية التي هي مخزون الأداء الصوفي عن المعنى الديني الناهض بها. أكيد أنّ الهوة تتسع في هذا الفهم لروح النص الصوفي باِعتباره إطاراً لتجربة منبثقة من دين، بين تصور يُلغي الدين لأنّه خصيصة لاغية للجمال، وبين إلحاح على مصداقية الأداء الصوفي لأنه يوفر الشعرية ويبقي عليها فيما يغالب التجارب من أسباب المحو والإثبات.
هل الأداء الصوفي يوفر الشّعرية؟ وهل يكتفي الشّعر بنفسه في النص أو المناخ الفني الصوفي؟
ياسين بن عبيد: لا يبدو منطقيًا التحيز إلى ما يُسميه جاكوبسون باِكتفاء الفن بنفسه في النص الصوفي وهو نص ديني لم يعرفه الضمير النقدي إلاّ كذلك. ولا يبدو نزيهًا -من وجهة نظر منهجية- إفراغه من طاقاته الإيحائية، وحالات السمو التي يختزن شاراتها وقرائنها، بالقول إنّه يتجاوز الثابت الديني الّذي تُسيجه النصوص بتأويلها الأحادي، وتغلق دونه حدود التعددية والاِنفتاح.
هكذا وجه الإشكال في هذا التأصيل للظاهرة الشِّعرية، قائم بتطرف على المجاورة بين المفاهيم المتباعدة حقيقةً وتصوراً، وعلى التنافر العضوي بين العناصر الحيوية للمنجز الشِّعري وهي أكثر ما تكون اِنسجامًا وقربًا.
يُحيلُ هذا الاِضطراب التنظيري إلى اِرتباك أكيد في الاِقتراب من الظاهرة الشِّعرية من خلال تراث المتصوفة، به تتأكد صعوبة الظفر بالحقيقة الصوفية بعيداً عن فضائها السلوكي، على خلاف ما يغري به البريق الدلالي على المستوى الشكلي القريب. كما تتأكد به اِستحالة التأسيس للجديد اِنطلاقًا من فراغ نظري أشبه بالعدم، لأنّه كذلك في الحالة التي يُواجهنا بها الإقصاء الحداثي لكلّ التجارب السابقة واللاحقة لمجرّد أنّها صورة لواقع موجودا أو متخيلا. ثمّ يمشي هذا الاِندفاع مع الشاعر الناقد سعدي يوسف خطًى أخرى، فيقرر بوضوح (أنّ القصيدة السياسية تعد قمة الوعي الإنساني).
لكلّ ذلك لم يكن التركيز على الضدية القيمية في هذا التصور اِختياراً بريئًا. بل ليس فيه أقل من البحث عن بديل جمالي يُوافق تأثر الحداثة برؤى فنية لا تعدل بها شيئًا مِمَا يختزنه الجهد النقدي الموروث، والتجارب الشِّعرية، ما دار منها في فلكه وما كان بعيداً في تمثلاته.
فمعنى اِستهداف الدين والأخلاق أنّهما يمثلان قيمًا لا تتصل في منظور الحداثة بالنفس كما بها يتصل الشِّعر، ولا تعد فعلاً في الإنجاز الحضاري الّذي الشٍّعر طرف فيه. وتعاطيها لا يقوم على اِستقلال الخيار -أي على الحرية ولكن على اِستجابة إلى مفروض فكري واجتماعي-إيديولوجي بمعنى آخر- ليس الشِّعر أسلوبًا فيه ولا تفسيراً له.
ولأنّها تضيق على الفن مجال خصوصيته، وتفتح مداخل التنافذ بين أجزاء تركيبية تُسيء إلى وحدته، وتُميع أسباب اللذة فيه، إذ الاِفتراض أنّ الوحدة في الفن والأدب تتجسد (في بنية واحدة كليًا ويتحدّد على ضوئها موقع العمل. ففي اللحظة التي نعجز معها على الإحساس الطبيعي التلقائي بتلك الوحدة في عملٍ ما، فإنّ ذلك العمل يغدو عاجزاً عن أن يكون جماليًا وفنياً بالمعنى الحقيقي). فكأنّه رأي في الجمال يقتربُ في تجريده الفن من مقومات الحياة من ما يقوله التعبيريون expressionnistes. ولما كان يعوزه الوضوح في تحديد عناصر التجربة الشِّعرية، لم يجد بداً من الإصرار على الخصومة بين الشِّعر وبين سائر المواضعات للاِنتهاء إلى أنّه وليد تجربة ذاتية لا يتخللها من الغيرية سبب.
وليس يكتفي في تفسير الحرية باِستدبار ما تختزنه مضادات الشِّعر، بل يجب اِتخاذ هدم معانيها أسلوبًا منهجيًا في تحديد ملامحه، والمضي في هذا التطرف إلى «الأصالة الفنية» التي لا تؤمن بقيود الأعراف، ولا تقيم مثالها الجمالي إلاّ على ما فيه (تحطيم للنموذج، للشكل السائد، وما يُنتجه عن طقس له ملامحه المتميزة).
فليس لذلك معنى لإذن إلاّ أنّ منجزاً شعريًا لا يقفز على جدليات التجربة (الدال والمدلول/الشكل والمضمون)، أعني يتجاوز التجارب الذاتية إلى مؤثرات أخرى، لا يدخل دائرة العناية بالفن كما تفهمه الحداثة.
وسواء أكانت هذه التجارب اِمتداداً لغيرها في أنطولوجيا الشِّعر، أم كانت أصلاً إبداعيًا بدأت تارخًا فنيًا اِمتدَ منها إلى الأعقاب، فإنّ موقعها في الحركة الشِّعرية العربية لا يهم، ما دامت بهذا المستوى من التأثير في تحديد المفاهيم.
الكثير من الشِّعر حقّق الشرط الجمالي للفن
وماذا عن الحرية. الشّعر والحرية. هذه الثنائية الإشكالية؟
ياسين بن عبيد: هو في كلّ حال تحديد ماض في اِتجاه مرتجل مغلق، يأبى الثنائية وإن على وجه الاِحتمال، إذ يرى الشِّعر قرين الحرية، زكا في أجواء التحلل من القيم ومواجهة النماذج القارة في الفكر، والأخلاق، والأعراف باِعتبارها قيودا ماتعة. فلو أُخضِع هذا الحكم إلى النسبية، أعني لو اِستنطقت قرائن التجربة الشِّعرية خارج الذات، لكان ثمّة فضاء للجمال حتّى فيما تناول الدين والأخلاق من شعر، لأنّ الواقع البيبليوغرافي يُؤكد ذلك. فكثير من الشِّعر قد حقّق الشرط الجمالي للفن بوصفه مصنوعًا (من تجارب هي بالضبط من نوع التجارب اليومية التي نكتسبها بطُرق أخرى).
كما أنّ كثيراً من الشِّعر التجريدي عَرِيَ من الفن ولم يصب منه حظا، وما اعترضته فكرة الدين والأخلاق، ولكلا النموذجين أساس من كيفية الإنجاز الجمالي.. هي وحدها الفيصل. فالكيفية- كأحد حدود الجميل عند كانط، وهي أربعة تحدد بوضوح مفهوم الجمال بالتركيز على آليات التجربة الفنية. فإذا أخذت في هذا المستوى من النقاش في الاِعتبار، أفرغت دعوى الفصل بين الشِّعر والدين والأخلاق من عيار موضوعي على الكينونة الحقيقية للشِّعر، لأنّ الحكم حينذاك لطريقة التأليف بين عناصر التجربة الشِّعرية، لا إلى مجرّد وجودها وتركيبها، وهو ما تقوله الفلسفة المثالية في تفسير الجمال بمعنى إدراك العلاقات بين الأشياء والأجزاء. فليس من شك في أنّ الجمال يُقاس بدرجة الاِنفعال به، والتأثر والتأثير به. فإذا حقّقت الأخلاق وسواها هذا المستوى من الحضور في الحالة الشِّعرية، فقد أصبحت أصلاً جماليًا لا يجوز إلغاؤه، بل يأخذ قراره في الفهم النظري والتأصيل المنهجي على أنّه (الوحدة الأكثر اِنسجامًا ما بين الذات والموضوع، بين الفرد وما هو اجتماعي..)؛ وعلى أنّه (أساس الإبداع في أي مجال من مجالات النشاط الإنساني، وهو في الوقت نفسه معيار للجميل في الحياة وفي الفن).
كيف يُقاس الجمال شعريًا؟ وهل تكفي اللّغة والمفردات؟
ياسين بن عبيد: إنّ الإصرار على النظر والقياس والحكم في تحديد درجات الجمالية وكينونتها من الأصل، أسلوب عقلي يُجنب الشِّعر أن يكون له وظيفة جمالية، والشاعر أن يكون مسؤولا أخلاقيًا عمّا يكتب كما يذكر بنظرية القدامى في تمثيل التناسق بين أجزاء الوجود الّذي النسبة القائمة بين الأعداد صورته الظاهرية، وهو منحى في تفسير الجمال يتناقض مع الروحي والمثالي الذي تريد افتراضات الحداثة داعية له. وعلى ذلك، فالشِّعر في ماهيته التجريدية هذه صورة للمُطلق لا ينسجم مع الحسية التي تُحيل عليها، أو تبدو من خلالها مظهراً قريبًا، قيم الدين والأخلاق، فـ(في الشِّعر يستخدم العقل الصوت لا لذاته، وإنّما كيما يعبر به عن إدراكات وتصورات مثالية).
وفي قصر الشِّعر على أحادية البنية تحجيم له يفضي حتمًا إلى تحويله عن طبيعته، فالتجربة الإنسانية التي يفترض أن يعبر عنها، أكبر في عناصرها السوسيولوجية، والسيكولوجية، والأخلاقية من أن يستعلي الشِّعر عليها، لأنّها –بدءاً- أصل لوجوده، ومسلك في تفسيره، أليس (مجال رؤية الفنان شاملة شمول الحياة، ووظيفته هي أن يجسد الخبرة أو التجربة الإنسانية.. هذه التجارب -الاجتماعية، الأخلاقية، الدينية- هي في الأساس المادة الخام بين يدي الفنان، فتتحوّل من خلال العمل الفني إلى تشكيل جمالي له قيمته المستقلة وأهميته الخاصة، وما نتاج الفن وثماره غير تلك التجربة).
هذا الأسلوب في البحث يتناول من الشِّعر العربي -خصوصا القديم، لمرجعيته- مادة غزيرة متفاوتة المستويات، متباعدة المسافات الزمنية والنفسية والدلالية، ولا يألو جهدا في الانحياز إلى ما يشهد لأطروحته بالصواب، والقفز على ما ينقضها ولو جاءت به الرواية، وصح به النقل.
فعلى أساس من تكثيف جمعي لإنتاج شعري مرتبك رواية وموضوعا، تم في غياب المناهج التي تتيح إمكان الدرس المحايد، وتضمن إلى حد ما وضوح الرؤية في كثير من الملابسات التي تحوطها الذاتية من كل مكان، كانت الثنائية النقدية الملحة على فك جدلية ظاهر التجربة الشعرية وداخلها، وكانت الوسيلة الانحياز إلى نماذج شعرية منفصلة عن تجربة أصحابها العامة، وأسماء شعرية منفصلة عن نسق الحركة الأدبية العام. فكيف يمكن الإخلال بالتوازن المضموني للمادة الشِّعرية لما يُراد الوقوف على ظاهرة مسومة فيها لأنّها لا تستتب كذلك إلاّ في فسحة التجربة الشِّعرية؟
وما دام الأمر هكذا فإنّه يمكن ملاحظة ما في هذا المنهج من خلل يبدو أساسا في إلغاء المسلمات النقدية انطلاقا من جزمه بصحة مسلماته، وبأن ما يراه في النموذجية الشِّعرية صحيح لا ينبغي الاِعتراض عليه. فالمنهج الّذي لا يجمع مفارقات القضايا قاصر بلا شك، لا تعني الاستعانة به شيئا لأنّها لا تستنطق مظان الإثارة في مواضع النظر، ولا تضمن من هنا وقوفا على حقيقة جمالية منشودة.

 

الرجوع إلى الأعلى