أثار تتويج، الكاتب والروائي الجزائري كمال داود في الآونة الأخيرة، بالميدالية الكبرى للفرونكفونية، التي تمنحها الأكاديمية الفرنسية للأدب والفن (تُمنح مُكافأة لشخصيات فرنكوفونية، ساهمت في الحفاظ على اللّغة الفرنسية وإشعاعها).جدلا لغويا من خلال موجة من التعليقات والتعليقات المُضادة في مواقع التواصل الاجتماعي وفي الجرائد. وهذا ليس بالغريب في المشهد الثقافي الجزائري، إذ مع كلّ تتويج للأدب الجزائري المكتوب باللغة الفرنسية، ومع كلّ مناسبة تخص الهّوية اللغوية في الوطن، إلاّ ويتجدّد هذا السِجال والصراع اللغوي. ما يؤكد في كلّ مرة أنّ هذا السجال الّذي تعيشه الجزائر منذ الاستقلال وإلى يومنا الحاضر، والّذي يتجدّد من فترة إلى أخرى، سيظلّ مطروحا بأشكال مختلفة، وبالحِدّة التي تصل أحيانا إلى حد تبادل التُهم والطعن في الهُوية اللغوية بين المنتصرين للغة العربية والمنتصرين للغة الفرنسية، خاصّة بين نخبة البلد من كُتاب ومثقفين وإعلاميين.فهل يُعقل أن تظل ظاهرة الصراع اللغوي تتكرّر بمناسبة وبغير مناسبة؟وكيف يُنظر لقضية اللّغةوسِجالاتها وصراعاتها وكذا التباسات الهُوية اللغوية؟
إستطلاع/ نــوّارة لحـــرش
حول هذا الشأن «السجال اللغوي في الجزائر»، كان ملف عدد اليوم من «كراس الثقافة»، مع مجموعة من النقاد الدكاترة والمترجمين، وقد اختلفت وتباينت الآراء ووجهات النظر.
يوسف بن يــــزة/ أستاذ العلوم السياسية بجامعة باتنة1
الأصل في صراع كهذا أنّه ظاهرة صحيّة يؤدي إلى ثراء اللغات
في تقديري فإنّ هذا الصراع يخفي في جانب مهم منه سباقا محموما حول مناطق النفوذ في الفعل السياسيّ والاقتصاديّ وحتى الثقافيّ، وهو قائم في الأساس من أجل قيم مادية يحوز عليها البسطاء من الناس وهم جنود في ميدان العراك اللغوي، بينما يجني المُخططون والمُنظرون له قيمًا معنوية تتمثل أساسا في تمدّد رقعة التأثير في الأحداث وتوجيه السياسات، وعلى المدى الطويل تحبل التجربة بمكاسب حضارية ثمينة.
إنّ الأصل في صراع كهذا أنّه ظاهرة صحيّة يؤدي إلى ثراء اللغات ومواكبتها تطور المجتمعات وتمكنها من نواصي شتى العلوم، يحدث ذلك عندما يكون الصراع بعيدا عن مناطق النفوذ التي ذكرتها، وتشتغل عليه طبقة راقية فكريا تقيه من الانحراف نحو العنف اللفظي والتصفيات القائمة على التصنيفات الجندرية، وهذه هي الآفة التي تعاني منها الجزائر حاليا حيث انخرط في هذه (الهوشة اللغوية) عوام الناس وكثير من سفهائهم وأعطوا للأمر أبعادا خطيرة سِمتها التنابز بالألقاب وتبادل الاتهامات العنصرية وغيرها.. الأخطر من ذلك كلّه هو اختراق الظاهرة للمؤسسات التربوية ومؤسسات التنشئة الثقافية والسياسية وتسلل أفكار منحرفة عن اللغات إلى الفئات الهشّة عبر وسائط التواصل الاجتماعي وهذا جانب مخيف أيضا لأنّه يتغذى على أفكار مسبقة تتعلق مثلا بأحداث سياسية تجري في مناطق معينة أو بأحداث قديمة مثل الفتوحات الإسلامية أو الاستعمار الفرنسي وغيرها.. كلّ هذه عوامل مغذية للصراع اللغوي بطريقة غير سوية وهذا ما يُفاقم من حجم المشكلة.
وهل يعقل أن تظل ظاهرة الصراع اللغوي تتكرر بمناسبة وبغير مناسبة؟. في الحقيقة إنّ تحسس الخطر الناجم عن هذه المشكلة هو فعل واع يشغل المثقفين الإيجابيين الذين يدركون حجم الخسائر والمزالق المُمكن حدوثها بسبب عدم استيعاب القضية في أطرها العادية، لكنّني أعتقد بأنّ التشخيص لا يكفي، بل وجب البحث عن حلول خارج دائرة اللّغة، فهذه الأخيرة لم تكن يومًا موضع صراع، إلاّ إذا اقترنت بالمعطى الإثني أو الديني مثلا، ولذلك وجب البحث عن الحلول في هذه المجالات بالذات، حيث من غير المعقول أن تُقدس لغة مُعينة وتُدنس لغة أخرى لسبب أو لآخر، ومن غير المعقول أن تنساق اللّغة مع التراتبات الاجتماعية لتصبح للفقراء لغة وللأغنياء لغة أخرى..
إنّ ما ينقصنا فعلا هو الإدراك بأنّ اللّغة هي مجرّد أداة للتواصل وأنّ اكتساب اللغات وتعدّدها هو فعل حضاري يغذي فضيلة الانفتاح على الآخر وتقبله والاستعداد للتعامل معه، أمّا على المستوى المجتمعي فإنّ تعدّد اللغات وإدارة تنوع الألسن واللهجات بطريقة رشيدة سيثري الثقافة المحلية، وينشئ المعابر الثقافية والاقتصادية بين التكوينات المختلفة للمجتمع الواحد، ويقلص من كمية وحِدًة صراعات النفوذ المستندة إلى اللّغة، فعندما لا تكون هناك حدود وهمية بين اللغات تصبح هذه الأخيرة مُلكًا مُشاعًا لا يستطيع أحد الانفراد به.. وهذا هو المطلوب.

فيصل الأحمر/روائي ومترجم–جامعة جيجل
الصراع اللغوي يهيمن على الخطاب الفكري والسياسي
يظل الخطاب الفكري والسياسي في الجزائر حبيس الصراع اللغوي لأسباب تخفى حتى تكتسي طابعا ميتافيزيقيا (بمعنى أنّه يصبح يقينا غير قابل للمراجعة)،إذ يرى المُتتبع لأصول المسألة بأنّه لا توجد أيّة مرحلة مر بها تاريخنا المحلي إلاّ والصراع اللغوي يلقي بظلاله على زمرة هامة من المسائل المُتداولة، وإذا كان تطويع اللّغة في مراحل مضت قد مثل محلا للمقاومة الثقافية فإنّه اليوم أصبح شبكة عنكبوتية لا ينجو منها إلاّ المحظوظون. كنت قد ترجمت منذ سنوات كتاب «الجزائر الفرنسية بعيون أحد الأهالي» للكاتب الجزائري الشريف بن حبيلس الّذي كان يشغل منصب قاض في الشمال القسنطيني، والّذي كان يُحاضر ويدرس باللغتين العربية والفرنسية، ما مكنه من تحرير كتاب جميل باللّغة الفرنسية، وهذه حالة كانت متكررة في جزائر الأمس، ولكنّها أصبحت اليوم حالة نادرة يُشار إليها بالبنان.
على يد أخرى يُمكننا تتبع الأمر بالتعريب وإشاعته في خطاب الحركة الوطنية في الجزائر والّذي كان وسيلة للمقاومة الثقافية في المرحلة الاستعمارية، وهو أمر يجتمع فيه مجموعة هامة من المفرنسين الأقحاح من رجال الحركة الوطنية: مصالي الحاج، فرحات عباس، حسين آيت أحمد، أحمد بن بلة...وكلّهم كان يكتب ويخطب بالفرنسية، وبعضهم كان لا يجيد العربية أصلا –كما هي حال فرحات عباس مثلا-.. ما لم يمنعهم من الأمر بالتعريب ووصية الأجيال المقبلة به كسبيل للاستقلال المعنوي عن المستعمر.
إذا وضعنا هذه الصورة في مقابل ثنائية القطبين التي صارت حالنا عليها اليوم فهمنا أنّ الرأي الشائع حول الجذور التاريخية للصراع اللغوي في الجزائر هو صنيع مرحلة الاستقلال أكثر من كونه تركة المرحلة الاستعمارية.
لقد تحوّل الثراء الثقافي إلى إشكالية، وتحوّل التاريخ إلى فخ، وتحوّلت الفرنسية التي هي تركة حرب كما قال كاتب ياسين إلى مرآة مشوهة لوجوه الجزائريين.

محمّد بن ساعو/ باحث أكاديمي -جامعة سطيف2
الأبعاد الايديويولوجية والهوياتية  والسياسية وراء الصراع
انطلاقا من مقولة «ليفي ستراوس»: «إنّنا حين نقول الإنسان... فإنّنا نعني اللّغة، وحين نقول اللّغة... فإنّنا نقصد المجتمع»، يتحدّد لنا بأنّ هذا الإبداع الإنساني -المتمثل في اللّغة- ليس مجرّد وسيط تواصلي، بل إنّه يشكّل عنصرا أساسيا في الهوية، يعكس العقل الجمعي ويحقق الوحدة والانسجام والتقارب بين الناطقين بنفس اللسان. كما أنّ اللّغة هي الوعاء الحاوي لأنظمة التفكير والإدراك التي تحدّد انتماء الفرد أو الجماعة إلى هوية بعينها؛ وبهكذا تصور، فإنّ أهمية اللّغة تتأتى من الأدوار المنوطة بها ومدى قيامها بأكبر قدر من الوظائف التواصلية والعلمية والهوياتية.
تنزلا إلى الحالة الجزائرية، وبالنظر لخريطتها اللغوية نجدها متنوعة سواء على مستوى النص الدستوري أو في فضاء الحياة العامة، فدستوريا الجزائر ثنائية اللّغة (عربية–أمازيغية)، وفي الأوساط الاجتماعية يتحدث الجزائريون العامية، الأمازيغية والفرنسية؛ وبالتالي فإنّ الوضعية اللسانية الجزائرية تجسّد تنوعا لغويا رسميا ومجتمعيا.
يبدو أنّ التعدّد اللغوي مظهر إيجابي، فهو يعكس التنوع الثقافي والحضاري في الجزائر، لكن لا يمكن الحديث عن مسألة التنوع والتعدّد اللغوي بمعزل عن البعد الإيديولوجي والهوياتي والتوجيه السياسي أيضا، فهذه الاعتبارات وغيرها أسهمت في إحداث سجال لغوي كبير قد يتبدى في بعض الأحيان على شكل صراع لغوي خطير.
بقيت سياسة التخطيط اللغوي في الجزائر منذ الاستقلال عرجاء، حيث أظهرت تخبطا كبيرا للسلطة في التعامل مع المسألة اللغوية، بداية بتبني سياسة (التعريب) التي كانت عشوائية وغير مستلهمة من رؤية أكاديمية، وبالتالي فإنّها لم تكن مؤسسة بقدر ما كانت نزوة سياسية، ضف إلى ذلك الاحتقان الّذي انجر عن سوء إدارة المسألة الأمازيغية في جانبها اللغوي، ناهيك عن مخلفات الاستعمار، كلّ هذا أجج الصراع اللغوي في الجزائر، ونقله من مستويات أجهزة الدولة إلى النُخب والأوساط الاجتماعية.
لقد أخذ الصراع اللغوي مظاهر متعدّدة، حيث أقحمت فيه العربية والأمازيغية والفرنسية، ومؤخرا الحديث عن العامية (لضرب العربية الفصحى حسب البعض) والإنجليزية (لكسر شوكة الفرنسية حسب آخرين)، وفي خضم هذا الجو المضطرب أصبح الحديث على أنّ الصراع بين اللغتين الوطنيتين العربية والأمازيغية يخدم اللّغة الفرنسية، في حين يذهب البعض إلى أنّ التمكين للأمازيغية هو تهديد للعربية –وهذا الأخير رأي مردود في نظرنا-.
السؤال المطروح اليوم هل ترسيم الأمازيغية يسهم في التخفيف من حدة الصراع اللغوي أم أنّه يفتح عهدا جديدا في هذا الصراع، لأنّه وبدون شك سوف يبدأ الحديث عن حقيقة حضور الأمازيغية في الإدارة والصحافة والتعليم، وتثار العلاقة بينها وبين العربية، ومسألة الأفضلية بما أنّهما في ذات الوضعية دستوريا.
الأكيد أنّ ملامح هذا الصراع اللغوي حاولت الانتقال إلى مستويات أكبر بعد الحديث مؤخرا عن السعي لإدخال العامية إلى المدرسة، وإن كان ذلك ممارس فعلا في مدارسنا بطريقة أو بأخرى؛ وبعمق كبير يناقش الدكتور «اليامين بن تومي» في كتابه «أمراض الثقافة» مسألة التخطيط اللغوي في الجزائر، ويرجع محاولات الانتصار للهجات المحلية والدعوة لإدخالها إلى المدرسة شكلا من أشكال تكريس العشائرية والقبلية، والارتباط بالرؤى الكولونيالية التي سعت إلى إشاعة أسباب التفرق والتمزق داخل المجتمع الجزائري. وبناءً على ذلك، وبالعودة إلى مخرجات المدرسة الجزائرية يتأكد لنا أنّ المنظومة التربوية الجزائرية أسهمت هي الأخرى في تعميق المشكلة اللغوية بالجزائر.
المشكلة ليست في الثراء اللغوي والتنوع اللساني، لكنّها مرتبطة بالتوظيفات والصراعات الإيديولوجية والسياسية لمسألة التنوع، وهو ما يؤدي إلى اللاأمن اللغوي والصراع اللساني. وبالتالي فإنّ هذا الميدان واحد من المجالات الحساسة التي تستدعي رؤية عميقة مبنية ومؤسسة على العمق التاريخي مع التطلع دون استحياء إلى آفاق لغوية أرحب بالتفتح على اللغات العالمية وتبني سياسة لغوية متبصرة.

علاوة كوسة/ كاتب وناقد –جامعة ميلة
جدل فتّان وعقيمٌ معرفيا
تجتهد كثيرٌ من الأمم المُعاصرة في البحث عن مزيد من المقومات والعناصرِ المشتركة بين شعوبها، وذلك لكي تزيد قاعدةَ تماسكها وتوادّها متانةً وصلابة واستمرارية،ولكي تواجه رياحَ العولمة العاتيةَ والهدّامةَ بعضَ الأحيان،إذْ مَن لايملك مناعة ًثقافية وحضارية فمصيره الزوالُ وسطَ اجتياحات الغزو الثقافي العابر للجماعات والأفراد على حدّ سواء،وتعدّ اللغةُ أهمَّ مقوم ترتكز عليه ثقافاتُ الأمم إذْ هي حاملةُ هاته الثقافاتِ والعلوم،ووجهٌ عاكسٌ لمستوى تطوّر الشعوب،وهي أيضا وسيلةُ التواصل الأكثرُ مقدرةً على لمّ شتات مافرّقته الجغرافيا والتاريخ معا،كما يعدّ التنوعُ اللغويُّ في أي أمّة من الأمم مصدرَغنى، وثروةً لا تفنى، ويمكن لهذا التنوع اللغوي أن يكون أكثرَ مقدرة أيضا على ترجمة المشهد الثقافي المتنوع لتلك الأمم.
تعدّ الجزائرُ من أكثر أمم العالم تنوعا في اللّغة، فمن الأمازيغية بكلّ لهجاتها المنتشرة على جغرافيا هذا البلد القارة شساعة وثقافة، إلى العربية الفصيحة الحمّالةِ لجمال أمتنا،الأشّارةِ بالتنوع والغنى والمقدرة على مواكبة تطورات العصر،الأمارةِ بالتدبّر في جاهزيتها الدائمة لترجمة آدابنا وثقافاتنا وبحوثنا العلمية،كما لاننكر أنّ المجتمع الجزائري يكنّ للغات الأجنبية استعمالاتٍ واسعةً على نطاق المؤسسات الرسمية والممارسات اللغوية الفردية،لدوافعَ تاريخيةٍ وعصرية أيضا،بوصف اللغاتِ مفاتيحَ الناس على الآخَر الّذي لايمكن تصوّرُ حياة مبتورة من أطرافه الثقافية والعلمية والإنسانية أيضا.كذلك القول على الانجليزية لغةِ العصر.
لهذا وذاك،أتخيّل أنّ الجدل القائم حول لغة الجزائريين هو جدل فتّان،عقيمٌ معرفيا وإن توالد فليس من ذريته سوى الشتات والكراهية والتفرقة التي لانريدها لهذا الوطن الّذي لو اجتمعت لغات العالم جميعُها،ولو تحدث مواطنوه بكلّ هاته اللغات لما استطاعوا أن يوفوه حقّ ما يملك من تاريخ وحضارة وفكر وأدب.

محمّد بشير بويجرة/ كاتب وناقد وباحث أكاديمي–جامعة وهران
الجزائر وحدها يُطرح فيها هذا السجال
بداية، يجب أن نُقر صراحة بأنّ الجزائر دون غيرها من الدول تعرضت عبر تاريخها الطويل وحتى الآن إلى كثير من خُطط فاضحة للعناصر التي يزعجها أن تكون الجزائر قوية وآمنة ومطمئنة. ولعلّ ما نلاحظه من سجال بين الفينة والأخرى بين بعض النُخب في الجزائر، دون غيرها من دول العالم، حول «اللّغة» بينما في حقيقة الأمر هذه مسألة مفصول فيها دستوريا مثلنا مثل دساتير العالم، حيث إنّ الدستور الجزائري رسّم اللغتين الرسميتين للجزائر؛ اللّغة العربية والأمازيغية.
وتلك مسألة قد تفرض علينا طرح السؤال التالي: لماذا الجزائر وحدها يُطرح فيها هذا السجال دون غيرها من الدول العربية الأخرى؟.
إنّ مسألة «اللسان» هذه قد بث فيها الدستور نهائيا، وعلى النُخب أن تعتد بذلك مثل غيرهم من النُخب في العالم، مع الإشارة إلى أنّ مسألة الكتابة والنقاش والحوار نجدها تتم في الجزائر بالألسن الثلاثة العربية والأمازيغية والفرنسية.
إنّ مثل هذه المعاينة ومثل هذه التجليات التي تظهر بين الفينة والأخرى تؤكد، بما لا يدع مجالا للشك، بأنّ هناك محركين لهذا الصراع المفتعل بعد أن فشلت كلّ المحاولات التحريضية الأخرى. وعلى كلّ معني ومهتم يسأل عمن يرصد الملايير من الأموال لنشر ولتقوية اللّغة الفرنسية عبر العالم؟، ويسأل عن سبب وجود المنظمات المنضوية تحت منظمة الفرنكوفونية.
و حتى وإن حدث هناك نقاش حول حيثيات هذه المسألة فأتصور بأنّه يجب أن تنصب على الجوانب العلمية والتقنية التي تفيد البحث العلمي حتى تعلمنا كيف نقرأ أرشيف تاريخنا الّذي كتبه الآخر بالصيغ التي أرادها. مع التأكيد على أنّ الألسن الأجنبية التي تفيد منها النُخب الجزائرية ما أحوجنا إليها.
وفي هذا الخصوص أجد بأنّ تعلم الألسن القديمة مثل اليونانية و القرطاجية و البونية والرومانية أكثر أهمية في معرفة تاريخنا وقراءته من اللسان الفرنسي. فلما لا نتناقش ولا نتسابق نحو تلك الألسن فنتعلمها لنقرأ بها نصا أدبيا أو سياسيا أو نفكك بها شفرات كنوز الأمة الجزائرية التي ما زالت مدفونة تحت الرمال وفي الفيافي وفي المدافن.
مع الإشارة بصفة قاطعة أنّ كلّ الفرنسيين الأصلاء يستهجنون و يسخرون منا ونحن نتكلم لغتهم بعد أن أخرجناهم من وطننا العزيز مخزيين ومنهزمين.
لست أدري كيف لا تشمر نخبتنا المثقفة على مناقشة القضايا والمضامين المهمة المرتبطة بتاريخنا القديم والحديث لنأخذ منه العبر، ولأنّه فيه كلّ ما يجمعنا وفيه كلّ مفاخرنا، ثمّ في نهاية الأمر سنبقى مصنفين جزائريين وأفارقة وعربا في العالم الثالث.
ولا أريد أن أترك هذه الفرصة لأحيي القيمين على تنظيم الملتقى الدولي حول «الملك الجزائري العملاق سيفاكس» في 22 و23 سبتمبر 2018. ولماذا لا تنظم مثل هذه الملتقيات التي تبحث في الموضوعات وفي المضامين وفي الشخصيات الوطنية ولنكتب بلسانينا الرسميين اللذين رسّمهما الدستور الجزائري، لأنّ ذلك هو الأجدر والأفيد لهويتنا ولضمان كينونتنا وأمننا واستقرارنا.

محمّد بن زيان/كاتب وناقد
المعرّبون أكثر انفتاحا
لتمثل الإشكالية اللغوية في الجزائر ينبغي أن نأخذ بعين الاعتبار الخلفيات التاريخية، فالبلد تعرضت لتفكيك شامل للبنيات الثقافية خصوصا طيلة عقود الاحتلال الاستيطاني وهو ما سبق أن كان موضوع تحليل كُتّاب كمصطفى لشرف وعدي هواري...
وعقب استرجاع الاستقلال ورثت البلد الإرث المُفخخ ولم يتم التحرّر منه بل جرى إثراؤه وتكثيفه وبدل أن تصبح التعدّدية اللغوية إثراءً تحوّلت إلى تبديد لأنّ التقسيم اللغوي اقترن بتصنيف في السلم الوظيفي والمجتمعي...وبسبب هيمنة الدوغمائية غابت العقلانية والعقلنة...الإشكالية اللغوية مُركبة وسبق مثلا للباحثة خولة طالب الإبراهيمي دراستها في كِتابها عن الجزائريين ولغاتهم، كما تطرق إليها سوسيولوجيا الباحث عبد الناصر جابي والمرحوم عمار بلحسن.
الاشكالية تُطرح باستمرار نظرا للدوامة التي تسجننا رغم التحولات التي تعاقبت، في السبعينيات مثلا لما عُين لشرف على رأس وزارة التربية كتب سلسلة مقالات أثارت سجالا، وردّ عليه عبد الله شريط بمقالات جُمعت في كُتيب...وأُثير السجال مرّات أخرى، خصوصا في الثمانينيات بعد الربيع البربري...وبدون الدخول في تفاصيل لا يتسع لها الحيز، نذكر أنّ هيمنة رواسب الانشطارية بين مكونات النخبة وما تتصل به من انغلاق أيديولوجي وتاكتيك سياسي واعتبار مصلحي، فخخت وغذت بجينات الانشطار فمنع مولود معمري مثلا من إلقاء محاضرة وتكريس التنميط باختزال كاتب ياسين في عبارة «الفرنسية غنيمة حربّ»، واختزال مالك حداد في عبارة «الفرنسية منفاي» مع انتزاع الكلمات عن السياق، وهو اختزال يتضمن المصادرة والغلق.
إنّ الإشكالية اللغوية مُتصلبة بجوانب سايكو ـسوسيولوجية وبمأزق أبستمولوجي وبتأزم أنطولوجي...وهي إشكالية تتضمن كلّ إشكاليات المجتمع وتناقضات التحوّل التي لم تسوَ بتبصر وبحكمة.لكن مع ما ذُكِر ينبغي التنويه بتبلور وعي بدأت إرهاصاته منذ ثمانينيات القرن الماضي، وعي تجاوز الانشطارية والانفتاح على الآخر، والاحتفاء بالاختلاف والنزوع نحو الحوارية المُخصبة لأنّ الإبداع العظيم هو وليد التهجين كما قال أدونيس في حوار مع بختي بن عودة.
وتنبغي الإشارة إلى أنّ من يُوصفون بالمعربين هم الأكثر انفتاحا من المفرنسين، فالصحافة المُعربة مثلا تتحدث عن كُتابنا بالفرنسية بدون عُقد، أمّا الصُحف المُفرنسة فهي المُنغلقة ونادرا ما تتطرق إلى كاتب مُعرب، وهذا ما يختزل كلّ ما يمكن قوله.

الرجوع إلى الأعلى