محمد عادل مغناجي
روى لي أحد الهداهد  كما يقول  صديقي حنا مينة: صاءَ هدهدٌ من شجرة يوما: وهذه قصّته: لم  يكن يدري هذا الفتى الملائكي أن الطيبة بحر نازف، لو كان يدري ذلك لأغلق بحره الأبديّ، قلبه وحوّره صحراء بهاء حار نضير من اليأس، لكن ليس جميلا أن تتحوّل الزرقة إلى سواد، لا أحبّ أن تتحوّل الألوان إلى اسوداد، أو أن تمسي المشاعر طرفا قصيّا، في ذاكرة الحبّ الميّتة، كان من الممكن أن يفتح جسرا آخر ليعبر الآخرون منه إليه، أو ليعبر إلى زمنه الجميل هو عبره وعبر ذاته.إنّه أي الفتى النوراني كوكب صغير، كنّ يختبئن داخله، ويتقرّبن منه لطيبته الفائضة، كأنهر من الحنان على أنياب هذا الزمن الشرّير، وكنّ يجعلنه مآويَّهنّ إذا أحسسن ببرد يأكل أجسادهن الجميلة، ويجهز على عواطفهنّ التّي تتدفّق على كلّ شيء بإذن حسنهنّ، ورقّتهنّ، وعذوبتهنّ.
كان لهنّ نجيماتهنّ المفضّلات التي  انطفأت بعد إغلاق الرائي عينه، وإغماضها عنهنّ.
لم يكن يدري هذا الهدهد  أنّ القدر يخبّئ له رقصات لم يعتد على رقصتها، وإيقاعا لم يلمسه بأذن قلبه الموسيقية، ونهاية هي بداية نهاية أخرى، حتّى ارتفعت قدماه على أوتار هذه الآلة، وبدأ في الرقص الحقيقي، وكاد أن يسقط في أبدية بيضاء لا قبل له بها، لولا أن تّداركه رحمة من ربّه.
كان يحبّ كلّ الأشياء الجميلة الورود، النّجيمات، وحتّى الزّهور البريّة جاءته عاريّة تتودّد بخدود حمراء من الخجل العذريّ والحبّ الصافي، أن قبّلني واحضنّي
لكنّه كان لا يأبه كأنه قادر على مقارعة الحسن ومصارعة الجمال، ومن يقوى على ذلك إلاّ الذّي لا يعرف قدره وأبعاده، ناطقته كلّ الشفاه القرمزية الذائبة من العسل الشّفّاف بكلام يطبّب الروح، ويرأف بالعاطفة، وبإيلافها أنفاسه الزاهية، ولكنّه مازال صامتا دخل في غيبوبته الصامتة، لحدّ الآن لم ينهض ليتكلّم بكليمة واحدة، ولو تحدّث لبكى أولاّ ولكتب الشعر ثانيا، ولعانق من يحبّه حتّى يذوب فيه، ويحنّ إلى ذاته  في ذاته.
ولكنّ لسان قلبه يقول من دون كلام:
ملكت عليّ الروح والنبض والقلبا***وهيأت لي ياروح متّكأ عذبا
وعمّرت في أفكاري سكنى غرستها***بأنفاسك الزهراء، فانتهبت نهبا
وأورثتني ذلّ الأحبة بعدما***حضنت بكفيّ الأحبة والحبّا
وأنّثت كلّ الأمنيات فاورّدت***كما شجر الأحلام، إذ ساقطت رطبا
وقد كان هذا القلب  يغلق بابه***فما  استطعن أن يظهرنه مرّة نقبا
جمع قلوب  الفراشات الكثيرات في قلبه وخرج من قلبه ليلجأ إليها لم يكن يتوقع أيضا أنها وطنه، كان في طُمته، غارقا في نهر من خيال، يأتين ويرحلن لكنها كالاسم المبني في قلبه لا تتأثر بعوامل الإعراب، ولا تظهر على جبين حبها حركة التغيير لا بالضم ولا بالنصب ولا بالكسر، كانت المدينة البنفسجية التي حلّ بها ذات يوم ولم تفارقه، وتداخلت روحه في جدرانها، وأشرقت شمس عواطفه على وردي تلالها وسهولها وأكماتها.
مأساته الطيبة، ومن الطيبة ما استغبت وفوّتت الفرصة عليه، كم حاول أن يقنعها بعد أن أشرفت القصة على الانتهاء أنه من أجلها ولأجلها، إنه كدراسة اللغة موضوعي في عاطفته إلى درجة الجنون،  كل شيء فعله من أجلها وبعد ذلك تركته.
جدلية لا يشعر بها الفلاسفة هو وحده من يعاني تساؤلاتها، يركب أجنحة الخيال ليسافر إليها ومعه بريد مملوء بالحب وريش الرقة والورود والعصافير التي ركباها على أقاصي الزمان وناما تحت طيرانها في الجو عاليا، لكنها تركته وتركته وتركته.
 ولكنني ربّت على كتفه الأخضر وواسيته، وكفكفت دموعه إنها الدنيا تعشش فيك يوما حمامة رمادية الريش ثم تحلق بجناحين قرمزيين وتنفض اللحظات المتطايرة وتشمس بعيدا عنا ثم تختفي في ظلام القلوب، ثمّ ودعته هذا ما دار بيننا فقط إلى اللقاء في غمضة عين ورفَّة حلم لا  تتجاوز صفر ثانية من الزمن.

الرجوع إلى الأعلى