«إلى آخر الزمان»... نساء مُعنَّفات ينشدن الحب في مقبرة

قد تكون أفضل وسيلة للتآلف مع الموت، ربطه بقيمة ما، كالحب. هذا ما يضع المُشاهِد لفيلم «إلى آخر الزمان» للمخرجة ياسمين شويخ في مواجهة مباشرة مع أسئلة معنى الحياة والوجود، لكن ليسَ بطريقة درامية بحتة، إنّما بنوعٍ من الكوميديا السوداء.
المكان مقبرة. الزمن رتيبٌ يسيرُ ببطء بين رحلة الحياة والموت. المَشاهد الأولى للفيلم تكشف عن إيقاع قريةٍ صغيرة، لا تظهر في البداية، يعيش سكانها المعزولون عن العالم بجانب مقبرة وزاوية «سيدي بولقبور». هناك يوجدُ علي (جلالي بوجمعة)، بوجهٍ نحتتهُ أيامٌ طويلة من الوحدة ومن الاعتناء بالموتى في مثواهم التُّرابي، حيث تنبت الحشائشُ والأزهار وتتماهى القبور مع بعضها البعض، لكنّها وإن بدت كذلك، هي راسخة في ذاكرة الشيخ علي، هذا السبعيني الّذي قضى عمرهُ في تغسيل الموتى وحفر قبورهم وإعدادهم لرحلة الانتقال الأخير.

بعد قليل، تصل جوهر (جميلة عرّاس)، امرأة ستينية، طُردت من بيت زوجها المتوفى حديثاً لأنّها لم تنجب منه ولداً، وما هذه اللحظة الفارقة في حياتها إلاّ فرصة لزيارة قبر شقيقتها التوأم، تكفيراً عن عدم تمكُّنها من حضور جنازتها بسبب الحصار الّذي كان مفروضاً عليها خلال سنوات الزواج. يظهر على ملامح جوهر خلال رحلة الحافلة، في موسم زيارة المقابر، اليأس واللامبالاة. في حين تغني النسوة الأخريات تبرُّكاً بسيدي بولقبور ليحقق أمنياتهن. هذه الحالة ستبدو منذ الوهلة الأولى في ضياعها وهي تبحث عن قبر أختها بين القبور، وهنا يتدخل علي ليدلّها عليه، وهو الّذي لا يخطئ عنوان أحدٍ من ساكني المكان ورفقاء يومياته في صمتهم الأزلي.
في قرية تعيش على حافة الموت، ما من قدسية إلاّ للموتى، حتى أنّ الإمام (محمّد بن بكريتي) في إحدى أحاديثه إلى علي، يُبرر تمسّك الناس ببركات سيدي بولقبور، في ارتباط روحي بولي صالح سخَّر حياته لوجه الله خدمة للفقراء والمساكين. وبين المقبرة والزاويّة وبيوت القرية القليلة، تتقاطع القصص ومسارات الشخصيات انطلاقاً من العلاقة التي تنشأ بين جوهر وعلي، عندما طلبت منه أن يحفر لها قبراً جنب شقيقتها ويدلها على أحسن الطُرق لتجهيز نفسها للحبيب الأقرب: الموت. رغبةٌ تدفع جوهر إلى التعرف على نسيمة (إيماننويل) التي كانت تساعد أختها في إعداد الولائم للمعزين بعد كلِّ وفاة. وهنا يظهر جانب كوميدي في علاقة الناس بولائم العزاء. وهو ما يدفع نبيل (مهدي مولاي) الشاب العاطل عن العمل إلى التفكير في إنشاء مؤسسة تعمل على تجهيز الموتى. الموت هنا، كآخر ما يمكن الاستثمار فيه من أجل حياة كريمة.


تتعدَّد الإسقاطات الاجتماعية والنفسية خلال الأحداث التي بعد نصف ساعة يقضيها المُشاهد بين القبور، تنتقل إلى فضاء القرية المفتوح، كبيتِ أخت جوهر، الّذي كان مفتوحاً وبلا أبواب، إلى درجة كانت تعتقد فيها أنّ أختها تشتغل عاهرة، بعد هروبها من زوج كان يُعنّفها واختيارها لمكان بعيد في هذه القرية النائية لتعيش بسلام، امرأة تصفها أختها العاقلة جوهر بالمجنونة، لكنّها كانت أعقل منها في الواقع، وهي التي رضخت للسلطة الذكورية، ولم تستطع التحرّر إلاّ بعد وفاة زوجها، وكيف كان ذلك؟ بعد طردها إلى الشارع ككائن لا قيمة له.
هذه الحكاية، تُفَكُّ خيوطها على لسان نسيمة الشابة الجميلة التي وجدها جلول (محمد تاكيرت) تبكي أمام المقبرة، المقبرة هنا تعكس رمزية كبيرة للمواساة واللجوء هرباً من قسوة الحياة، تحنو أخت جوهر على نسيمة وتصبح معاونتها في تحضير الولائم. المثير للانتباه من خلال عدة مشاهد، في لحظات الحزن أو الفرح هو تجاوز سكان القرية، على بساطتهم، للكثير من التصنيفات الطبقية والاقصائية المجحفة في حق النساء أو حتى الغرباء الوافدين إليها. ربّما للموت حضورٌ يرتبط هنا بالرغبة أكثر في التمسك بالحياة وهذا ما يجعل المشاهد يتقاسم مشاعر الحب مع علي الّذي تعلّق بجوهر، وطلبها للزواج.
الزواج الّذي يتم هو زواج نسيمة وجلول. قبلها أبدعت المخرجة في تنفيس الفيلم بخرجةٍ إلى البحر، كان فيها العشاق الأربعة أطفالاً يعيشون لحظة سعادة لا متناهية، علي وجوهر، ونسيمة وجلول الّذي أتيحتْ له الفرصة بإيعاز من جوهر ليعترف بحبه للفتاة التي وجدها وحيدة ومشرَّدة ذات يوم. حتى الإحالات الجانبية لهوامش كثيرة في خط سياق الفيلم، تتعلق بعادات اجتماعية بائدة، وإسقاطات سياسية ساخرة وخاصة علاقات إنسانية تبحث لها عن مكان؛ كلّها تتقاطع مع التجربة الشخصية للبطلة وعلاقتها بماضيها المُؤلم، كما بحاضرها المفتوح على كلّ الاحتمالات، بما فيها الحب في هذا السّن المُتأخر، لتدفع ياسمين شويخ المتفرج الّذي تربّى على الممنوع وتقديس الموت، إلى التساؤل وهل للحب سنّ؟
سِيَرٌ لشخوصٍ تعيش في هامش الهامش، منحتها المخرجة في 93 دقيقة من المشاهد الحيّة والعفوية؛ جرعات أوكسجين ومشاعر قوية جداً، لا يمكن إلاّ الاستسلام لها. وبين الجنون والتمرّد، والخضوع والرهبة، تظهر عبارة «إلى آخر الزمان» على لوحة ترقيم العربة التي يركبها علي مغادراً، لأول مرَّة، المقبرة التي قضى فيها فترة طويلة من عمره، بعد أن رفضت جوهر عرضه للزواج.
الحب يفتحُ نوافذ القلب على الحياة، حتى ونحن في اللحظات الأخيرة من أعمارنا، يمكن أن نستسلم لاتجاه رياح العشق حين تهبُّ ولا يهمُّ بعدها المآل، هذا ما تعكسه الرؤية الجمالية لهذا الفيلم.
توِّج بطلُ فيلم «إلى آخر الزمان» جيلالي بوجمعة، مؤخراً، بجائزة أفضل دور رجالي، في ختام مسابقة المهرجان الدولي لفيلم المرأة بمدينة سلا المغربية، في نسخته 12 التي نُظمت بين 24 و29 سبتمبر المنصرم، بمشاركة 12 فيلماً روائياً طويلاً يمثل القارات الخمس، وقد حاز الفيلم على إعجاب الجمهور والنقاد وهو ما عكسته جلسة النقاش التي حضرتها منتجة الفيلم كريمة شويخ. كما حاز الفيلم على جائزة الجمهور لأفلام الجنوب في دورتها السابعة ببروكسل البلجيكية. ليؤكِّد مرَّة أخرى أنَّ تتويجه بعدة جوائز منذ عرضه الأوّل، بدايةً حقيقية لمخرجة سينمائية واعدة، ينتظر منها جمهور السينما الكثير. يذكر أنَّ «إلى آخر الزمان» هو أول فيلم طويل للمخرجة الجزائرية ياسمين شويخ (سيناريو وإخراج)، إنتاج 2017. بعد فيلمين قصيرين هما «الباب» في 2006، و»الجن» في 2010، إلى جانب سلسلة تلفزيونية بثها التلفزيون الجزائري سنة 2015.
الفيلم للإشارة مرشَّح لجائزة الأوسكار في دورتها المقبلة.

خالد بن صالح

الرجوع إلى الأعلى