يفتح «كراس الثقافة» لهذا العدد، ملف «التنمية الثقافية»، بكلّ إشكالاتها وإرباكاتها وبمختلف مستويات الطرح والنقاش. فكيف هو يا ترى حال التنمية الثقافية في الجزائر؟ وهل يمكن الحديث حقًا عن تنمية ثقافية جزائرية وهل نملك استراتيجية، أو خريطة استراتيجية خاصة بها. ما الّذي يمكن قوله في هذا الشأن مُقارنة بالتنمية الثقافية في بلدان أخرى، حيث ساهمت التنمية الثقافية في تحقيق النمو الاقتصادي لهذه البلدان. حول هذا الشأن يقول، الدكتور عبد القادر رابحي «لعلّ ما تحيل إليه كلمة التمنية الثقافية هو توفير الإمكانات المادية لتحقيق الثقافة التي لا يمكن أن تتطور بدون هذه الإمكانات. ولا يمكننا أن نرتجي مردودا ثقافيا يؤثر في الواقع الاجتماعي ويدفع بعجلة التنمية الاقتصادية إلى الأمام، من دون توفير أدنى الشروط التي تضمن تحقّق الفعل الثقافي في حدوده الدنيا على الأقل».
أمّا الأستاذ عبد الحفيظ بن جلولي، فيرى أنّ وفق بعض المعايير، يمكن الحكم على غياب التّنمية الثقافية إلاّ من بعض المظاهر التي تُحسب ظاهريًا لصالحها لكنّها في الواقع تعتبر مجرّد حالات معزولة عن معيار التّنمية الثقافية الحقيقي، كونها لا تؤدي الوظيفة التّنموية الدّافعة نحو مستوى التطور.
من جهته يقول الدكتور عبد الحميد ختالة، «أنّه لا يمكن للتنمية الثقافية أن تكون ذات قيمة دون إسهام مجموعة من الأنساق السياسية والاقتصادية والتربوية، وتغييب أي طرف من هذه الأنساق قد يزيد في عُمق الهُوة، نظرا لطبيعة العلاقة المُعقدة والمُتكاملة لكلّ هذه الأنساق فترتبط التنمية الثقافية حينها بالتنمية الشاملة حيث تمثل وسائلها وأهدافها خيارات المُجتمع بشقيه السياسي والمدني، مع ضرورة فهم أنّ لكلّ ثقافة خصوصيتها وهويتها». أمّا الدكتور عبد الحميد بورايو، فيؤكد في هذا المعطى على أنّه «إذا ما كانت التنمية الثقافية مُرتبطة أشدّ الارتباط بالتنمية الاقتصادية والاجتماعية فإنّ هذه الأخيرة تُعاني من انعدام التخطيط الواضح وغياب الاستراتيجية الطويلة المدى والمُتكاملة، وهو ما يؤثّر سلبًا على التنمية الثقافية، فنجدها تُعاني عمومًا من غياب استراتيجية واضحة، وانعدامٍ للخطة الثقافيّة على المدى الطويل والرؤيا الشمولية».

عبد القادر رابحي شاعر و ناقد  و باحث أكاديمي

 

التنمية الثقافية لا يمكن أن تتوقف عند التصوّرات النظرية التي يغرق فيها المثقفون
لعلّ ما يتبادر إلى الأذهان حينما نتحدث عن التنمية الثقافية هو الرجوع إلى التنمية أولا بما يمكن أن تحيل إليه هذه الكلمة من مدلولات مرتبطة بمتطلبات مجتمع هو في حاجة إلى العديد من الإمكانات المادية المتعلقة بمحيطه الّذي يعيش فيه، وبجغرافيته المحلية التي يندرج فيها. الثقافة جزء أساسيّ من هذه المتطلبات التي تتم الواحدة منها ولا تتحقّق من دون تحقق الأخرى. فلا يمكننا تصوّر تطوّر حسّ سينمائيّ مثلا، في غياب هياكل مادية تحتضن السينما وتطوّر هذا الحس. كما لا يمكننا تصوّر تطوّر فعل القراءة الّذي هو أرقى أفعال الثقافة وأكثرها تحضّرا من دون توفّر الكِتاب بصورة دائمة ومتجددّة، وخاصة في المراحل الأولى لحياة الأجيال. كما لا يمكننا تصوّر تطور العديد من التخصصات الإبداعية كالنحت والرسم وغيرهما من الفنون الأخرى من دون توفّر الحاضنة المادية والمعنوية التي تدفع بتنمية الحس الثقافي.
إنّ مسألة التنمية الثقافية، بما تطرحه من ظلال مفاهيمية متعدّدة ومختلفة حدّ التناقض، لا يمكن أن تتوقف عند التصورات النظرية التي يغرق فيها المثقفون وهم يقدمون خرائط طريقٍ لِمَا يجب أن يكون عليه الفعل الثقافي كما يريدونه هُمْ. ولعلّ في ذلك نوعًا من النظرية الاستعلائية الأبوية التي تريد أن تنحت التصورات والمشاريع بِمَا يتلاءم مع أطروحاتها السياسية أو الإيديولوجية، وتعميمها في شكل مقولات جاهزة أو تعليمات قابلة للتنفيذ في الخريطة الاجتماعية. والجميع يعلم أنّ تصورات كهذه مآلها الفشل المصحوب بهدر الإمكانات المادية كما أثبتت التجارب في العديد من الدول.
لقد أصحبنا في غير حاجةٍ إلى تعريف الثقافة بِمَا هي وجود باقٍ وراسخ للفرد حين يغيب الفرد، والمُحرّك الحقيقي للمجتمع نحو الوجهة الأكثر عقلانية والأكثر إبداعًا حين تغيب عن المجتمع معالم مرحلة، أو تغمض أمامه حقبةٌ، أو يُبأبئ في وجهه التاريخ.
ولذلك، فإنّ مسألة تنمية الثقافة لا يمكن أن تنفصل عن تنمية هذه الأبعاد في راهن المسألة الثقافية، وتحيين أبعادها الإبداعية في راهن الحياة الاجتماعية. ولعلّ ما تحيل إليه كلمة التمنية الثقافية هو توفير الإمكانات المادية لتحقيق الثقافة التي لا يمكن أن تتطور بدون هذه الإمكانات. ولا يمكننا أن نرتجي مردودا ثقافيا يؤثر في الواقع الاجتماعي ويدفع بعجلة التنمية الاقتصادية إلى الأمام، من دون توفير أدنى الشروط التي تضمن تحقّق الفعل الثقافي في حدوده الدنيا على الأقل.
ولعلّ أولى الاستراتيجيات وأنجعها لتحقيق تنمية اقتصادية ناتجة عن الفعل الثقافي هو تعميم تصّور عملي يأخذ بعين الاعتبار كلّ هذا الثراء الثقافي التي تزخر به الجزائر، ويعيد للإمكانات البشرية المتمثلة في المبدعين دورهم الحقيقي في التعبير عمّا يختلج في نفوسهم من إمكانات إبداعية هي أبعد من أن تحتويها مسطرات عمل مرحلية ضيقة، أو تصورات سياسية محدودة، أو ارتباطات إيديولوجية تحاول رهن الثقافة والإبداع في زجاجة الفكرة المغلقة بإحكام.
لقد ارتبطت الثقافة بالنشاط الاقتصادي منذ القِدم، وليس أجلب لتطورهما معًا من عدم الزجّ بهما، وخاصة بالثقافة، في صراعات الإيديولوجية تتنافى مع تطورهما معًا، بل تقوّض كلّ مجهود طموح للمبدعين في المجال الثقافي.

عبد الحميد ختالة  كاتب  و ناقد  و باحث أكاديمي

 

التنمية الثقافية من دور المؤسسة إلى التثقيف الذاتي
إنّ الّذي يجب أن نتفق عليه بدءً هو تحديد نوع المُمارسة الاجتماعية التي نُطلق عليها مُصطلح النشاط الثقافي، إذ لا يخفى على الجميع أنّ الفعل الثقافي في الجزائر أصبح مشوبًا ببعض المُمارسات التي أفسدت على الكثير الفهمَ السليم لِمَا يُسمى ثقافةً، فانحصرت النشاطات الثقافية في بعض الكرنفالات الغنائية والولائم الباهتة التي لا تعكس العمق العرفاني والوجداني للفعل الثقافي، إنّ هذا الأخير ليس فقط وجاهة تشريفية لبعض أفراد المجتمع على حساب الأغلبية المُشّكِلة لفسيفساء المُجتمع الجزائري، وهنا يُطرح السؤال عميقا، هل ما يُقدّمه المشهد الثقافي في الجزائر يُشكّل بحق الهُوية المعرفية والتاريخية والثقافية للمجتمع الجزائري؟ هل نجح المشهد الثقافي في الجزائر في تقديم صورة مُتكاملة للثقافة المادية وغير المادية التي يتمتع بها الإنسان الجزائري كغيره من شعوب العالم؟
صحيح أنّ الفعل الثقافي في أي مُجتمع يُراهن على المُتغير كما يُراهن على الثابت، إلاّ أنّ الثابت الثقافي في الجزائر أصبح مُغيّبا بشكل غريب ما أفقد جيلا من الشباب هويتهم الثقافية سواء كان ذلك على المستوى المادي أو على المستوى اللامادي (الروحي)، وأجد أنّ السبب يعود إلى إبعاد الرؤية الأكاديمية العارفة بتمفصلات الهُوية الثقافية وإستراتيجية الفعل الثقافي عن التخطيط والاستشراف في مجال الثقافة، إذ لا يستقيم أن تستقل إدارة الثقافة عن البحث الأكاديمي والتصوّر العالم من أجل رسم خطة إستراتيجية يصبح المشهد الثقافي فيها فاعلا في صناعة المجتمع، بل ولديه الأدوات التي يسهم بها في إحداث تنمية اقتصادية واجتماعية يظهر أثرها.
يأخذنا الحديث عن التنمية الثقافية في الجزائر إلى قراءة الواقع الثقافي، هذا الواقع الّذي صادر هموم المُثقف التي كان يجب أن يعيشها لتُعوض بأخرى ساذجة جدا، إذ يعيش المُثقف في الجزائر صراعا بائسًا من أجل التمثيل المُؤسساتي للثقافة ما حال بينه وبين الدور المنوط به، وهذا من أسباب ضعف المؤسسة الثقافية التي انكفأت على نفسها بجهود فردية خالطها التسرعّ والرؤية الأحادية وإقصاء واضح للتعدّد والتنوع والاختلاف، فقدمت لنا صراعًا عقيمًا أكثر مِمَا كان يجب أن تقدمه من فن وعِلم يرتقي بالإنسان، نحن اليوم بحاجة مُلِحة إلى تخطيطٍ مُحكم للعمل الثقافي من أجل أن يتوافق مع المُنجز والمنشود المحلي ويتكيف مع الثقافة العالمية، كما يضطلع بالمؤسسة الثقافية اليوم أن تعمل على ترميم هذا الشرخ الّذي أصاب الهُوية الثقافية في المجتمع قبل أن تفقد بوصلتها في عالم يُدافع فيه كلّ شعب على منجزه الثقافي وهُويته الحقيقية.
لا يمكن للتنمية الثقافية أن تكون ذات قيمة دون إسهام مجموعة من الأنساق السياسية والاقتصادية والتربوية، وتغييب أي طرف من هذه الأنساق قد يزيد في عُمق الهُوة، نظرا لطبيعة العلاقة المُعقدة والمُتكاملة لكلّ هذه الأنساق فترتبط التنمية الثقافية حينها بالتنمية الشاملة حيث تمثل وسائلها وأهدافها خيارات المُجتمع بشقيه السياسي والمدني، مع ضرورة فهم أنّ لكلّ ثقافة خصوصيتها وهويتها ولا ينبغي الوقوع في خطأ مُحاكمة ثقافة المجتمع الواحد بمعايير الزمن والمكان والعِرق والعقيدة، كما وجب العمل على تأصيل فعل التثقيف الذاتي في الأفراد من خلال هيكلة المجتمع وتأطيره في جمعيات ثقافية ينتقل فيها الفِعل الثقافي من العمل المؤسساتي إلى العمل التطوعي الذاتي، ويبقى دور مؤسسة الثقافة تأطير فعاليات الثقافة في المجتمع.

عبد الحفيظ بن جلولي كاتب وناقد

مجرّد حالات معزولة عن معيار التّنمية الثقافية الحقيقي
لا يمكن أن نفصل الثّقافة عن التطوّر الطبيعي للمجتمعات التي تنشد المستقبل وتعمل على تغيير وضعها وواقعها لأجل الانفكاك من إسار التخلف، فالطّرق والآليات والأدوات التي تُستغل للوصول إلى مستوى التّغيير، تعتبر مِلاك العملية التي تدير هذا الشأن المجتمعي، ومن هنا كان مفهوم التّنمية جامعا لأصول التّحديث في المجتمع وتحصينه ضدّ العوامل المعيقة لتقدّمه والحاشرة له في زمرة التخلف، والتّنمية بمفهومها الشّامل في ميدان السياسة والاقتصاد والاجتماع، وجدت معناها منذ أن حدّد الاقتصادي الفرنسي «ألفريد صوفي» دول المركز ودول الأطراف أو الدول المتقدّمة والدول المتخلفة.
تكرّس مفهوم التّنمية كآلية للخروج من بوتقة التخلف والالتحاق بمصاف الدول المتطوّرة، وفي خِضم الحِراك المحموم لإدارة عجلة التطور لم تنس الدول المتطورة أن تقدّم مفهوم التنمية الثقافية باعتباره الرّكيزة القوية لدعم منطلقات المجتمعات ذات الهدف المتعدي، أي الدول التي تستهدف الآخر لكن من خلال ترسيخ قدم ثقافتها داخل منظومة محسوبة الخطوات ومحسومة الأهداف والغايات، وبالتالي أصبح مفهوم التّنمية الثقافية مُعادلا موضوعيا لتأسيس الثقافة الغالبة، ومن هنا كان عِلم الاجتماع العربي على يد العلامة ابن خلدون واعيًا لهذا الجانب حين أكّد على إنّ المغلوب مُولعٌ أبدا بتقليد الغالب.
لا شك وأنّ العلاّمة ابن خلدون يُشير إلى جانب مُهمّ من جوانب التّنمية الثقافية، حيث يُحيلنا إلى سؤال التطوّر، أي هل نحن في مستوى الغالب أو مستوى المغلوب؟
إنّ الواقع الحالي للمجتمع العربيّ الّذي يُصنّف في خانة الدول المُتخلفة لا يجعله خاليًا من الحالة الثقافية بمفهومها التدافعي، أي الصّراعي من أجل إثبات الهُوية والذات والخُصوصية والنّموذج الفاعل ثقافيًا، وهو ما يمكن أن يُوصف في جانب من جوانبه بالتّنمية الثقافية، على أساس أنّه «لا استقامة للدّيمقراطية خارج الإطار الثقافي، والخلق الفكري الّذي هو منظار المستقبل للذين ينظرون دائما إلى المستقبل» حسب الإعلامي اللبناني غسّان تويني.
عندما نتساءل حول حال التّنمية الثقافية في الجزائر، لابدّ أن ننظر في بعض محدّداتها على الأقل، ومنها حسبما يبدو لي: مستوى المجتمع من حيث الوضع التنموي، ومن حيث طبيعة النّظام، هل هو شمولي أم ديمقراطي؟
وفق هذين المعيارين ربّما، على الأقل، نحكم على غياب التّنمية الثقافية إلاّ من بعض المظاهر التي تُحسب ظاهريًا لصالحها لكنّها في الواقع تعتبر مجرّد حالات معزولة عن معيار التّنمية الثقافية الحقيقي، كونها لا تؤدي الوظيفة التّنموية الدّافعة نحو مستوى التطور، وفي بلاد نسمع عن استهجان جائزة نوبل، ليس كجائزة ولكن كحالة تقيس مدى وجود الحِراك الثقافي الّذي هو وقود التنمية الثقافية، ليس هذا وحسب بل تعبّر عن درجة الوعي بالمسار البحثي والمعرفي والإبداعي الّذي يقود إلى الجائزة كتتويج فقط لمعركة ثقافية/معرفية كبرى، قلتُ في بلاد نسمع فيها عن استهجان الجائزة لابدّ وأن نعيد حساباتنا المُتعلقة بمفهوم التنمية الشامل في أهم عناصره الحيوية المُتمثل في التنمية الثقافية، والحال هذه أيضا، لا يمكن أن نجزم ونحسم الموضوع لصالح غياب التنمية الثقافية، لأنّ الفعاليات داخل المنتظم الثقافي/المعرفي الوطني تحاول أن تُحدّد موقفها وموقعها من خارطة التنمية الثقافية الكونية بالعمل المضني والجاد لأجل خلق دينامية تنموية ثقافية، والتي تبقى حبيسة المبادرات الشّخصية والذاتية بعيدا عن المؤسسية الفاعلة والمُنتجة للحِراك الحقيقي في مضمار التّنمية الثقافية والّذي أعتقد أنّه من مهام السلطة السياسية.
لقد اتّفق وزراء الثّقافة العرب في العقد العربي للتّنمية الثقافية (2005–2014) الّذي خرج من صلب المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم على عِدّة بنود من أهمّها: وضع الثقافة في محور عملية التنمية في الوطن العربي، وتعزيز التنوع الثقافي في عصر العولمة، ولعلّ المؤشّر الوحيد الّذي يدلنا على مدى التحقيق الفعلي لهذين البندين هو ما تخصّصه الحكومات العربية لمجال الثقافة، ليس في جانبها البهرجي التهريجي، ولكن في مستواها البحثي الفاعل المُتعلق بحركة المجتمع؟
ولا بدّ أن يُحيلنا عنصر العولمة إلى البحث في كيفيات تحفيز الثّقافة الوطنية وتطعيمها بما يجعلها في مستوى المواجهة والتصدي للتغوّل الثقافي العولمي، فمن المعروف اليوم أنّ رأس المال العالمي أنتج سوقا عالمية وفضاء إعلاميا كاسحا، فالإعلام العالمي أصبح مُؤثرا وفاعلا ومُوجّها لبعض سياسات الدول النامية، وهو ما يضع التّنمية الثقافية محل سؤالي النّجاعة والضّرورة، بحيث غيابها لا يكشف سِوى عن مخاطر غياب الأمن الثقافي في عصر أصبحت سماواته مفتوحة وأضحى العالم قرية صغيرة، ولهذا أكد التقرير الثاني للتّنمية الثقافية والصّادر في شهر ديسمبر 2009 على: «المعلوماتية كرافعة للتنمية الثقافية، التمويل، واستقلالية الإدارة في التعليم العالي، الخطاب الثقافي في وسائل الإعلام، الإبداع»، والجدير بالذّكر أنّه «رتّب الدول العربية ترتيبا تنازليا».إنّ مفهوم التّنمية الثقافية مُرتبط بالأساس بمعدّلات النمو في المجالات الأخرى السياسية والاجتماعية والاقتصادية، ولعلّ اقتصاد المعرفة جزءٌ مُهم في مساهمة هذا الجانب في إنتاج عوامل الدّافعية والتبادلية وبالتالي الندية في التعامل مع الدول التي أولت اهتمامًا بالغًا لهذا الجانب، لأنّ التّنمية الثقافية تشتغل على تكوين الشّخصية الثقافية ومن ثمّة تفعيلها كإطار عام لتقوية شبكة العلاقات المُنتجة للأفكار والمُحفّزة للمخيال والمُنشئة للسيادة بمفهوميها، القانوني الكاشف للهُوية الدولاتية، والثقافي الفاعل في مجال الإنسان كعامل مُحرّض على التثوير الجمالي والمعرفي للوجودية النّشطة.

عبد الحميد بورايو كاتب و ناقد أكاديمي و باحث في  التراث

تُعاني من انعدام التخطيط الواضح وغياب الاستراتيجية الطويلة والمُتكاملة
إذا ما كانت التنمية الثقافية مُرتبطة أشدّ الارتباط بالتنمية الاقتصادية والاجتماعية فإنّ هذه الأخيرة تُعاني من انعدام التخطيط الواضح وغياب الاستراتيجية الطويلة المدى والمُتكاملة، وهو ما يؤثّر سلبًا على التنمية الثقافية، فنجدها تُعاني عمومًا من غياب استراتيجية واضحة، وانعدام للخطة الثقافيّة على المدى الطويل والرؤيا الشمولية. فالملاحظ أنّ المُمارسة الثقافية التي تؤطرها الدولة، وهي المسؤولة الأولى عن التنمية الثقافية، تتصف بالمعالجة الظرفية الآنية، ومركزية القرار، والتبعية للوضعية الاقتصاديّة والسياسيّة.
إذا ما التفتنا إلى المُمارسة الثقافية الْمُؤَطَّرَة من قِبَلِ المجتمع المدني، نجدها ضعيفة إلى حدّ كبير، تتوقف بدورها على إعانات الدولة، وبالتالي تعاني من نفس المشكل الّذي أشرنا إليه قبل قليل، خاصة وأنّ المجتمع المدني نفسه تُعتبر تجربته محدودة ومازالت في طور النشأة، تفتقد إلى النضج والإمكانيات والوعي بأهمية العمل الثقافي ودوره في المجتمع.
بقيت الإشارة إلى أنّ إمكانيات الخلق والإبداع على مستوى الأفراد وهو ما يدعو إلى التفاؤل، وقد نُعِدُّه استجابة عفويّة لدواعي التطور الثقافي بفعل دور المخزون التراثي والاطلاع على الإبداعات الفنية الكونية، وما يعرفه العالم اليوم من نقلة حضارية بفعل الثورة المعرفية التي يعرفها العالم والمُتمثلة أساسا في الوسائط الثقافية الرقمية، مِمَا يتيح للمجتمع الجزائري حضورا واضحا نسبيّا في الإبداعات المحلية والمسابقات الثقافية العربية، وفي التظاهرات الدولية الخ...
وتجدر الإشارة عند الحديث على مسألة التنمية الثقافية إلى ما يعترض هذه التنمية من تناقضات في المرحلة الحاليّة، تتعلق بضعف إجماع الجزائريين على طبيعة المشروع الثقافي الوطني، وهو أمر برز في الثمانينيات من القرن الماضي بوضوح، واشتدّ بعد ذلك، وبالخصوص في ما يتعلق بلغة الثقافة وتوجهها القومي (العروبي) والديني (الإسلامي) والأمازيغي. فالجزائريون مُختلفون في إعطاء الأولوية للعربية أو الأمازيغية، وفي وضعية اللّغة الفرنسية ومكانتها في المجال الثقافي والفنّي، وبخصوص مُراعاة موقف الدين من المُمارسة الثقافية الخ... وهي مسائل في حاجة إلى نقاش مُوسّع وتقريب لوجهات النظر وتكييف للمشروع الثقافي الوطني الموروث عن الفترة الأولى من الاستقلال مع الظروف الحالية لتوجهات المجتمع والنخبة وإثرائه.
بقي أن نشير في الأخير إلى علاقة السياسة الثقافية الوطنية بالمعطيات الدولية وبالمواثيق المُصادق عليها في الهيئات الدولية المعنية خاصة بالتنمية الثقافية مثل منظمة اليونسكو. لقد لعبت الجزائر دورا هامًا في صناعة المواثيق الدولية الخاصة بالثقافة ومن أهمها الاتفاقية الخاصة بالتراث اللامادي (2003)، وهي مواثيق تُؤكد على ضرورة ربط المُمارسات الثقافية وتطويرها وتدعيمها بالنظر إلى مساهمتها في عملية التنمية، وقد وضعت خُططًا لمثل هذه التنمية الثقافية، سعت وزارة الثقافة والهيئات التابعة لها إلى أن تستفيد من هذه المواثيق وأن تسهم في تطبيقها، غير أنّ تغليب الجانب الإداري وضعف إرادة الأفراد المتواجدين في مراكز السلطة الثقافية ونقص الكفاءة في التعامل مع الجهات الدولية، كانت في كثير من الأحيان عائقا دون الذهاب بعيدا في ذلك.

استطلاع/ نـــوّارة لـــحـــرش

 

الرجوع إلى الأعلى