في مزيج من التّوريات المفجعة، يقارب «الحبيب السائح» أوجاع المجتمع الجزائري وتاريخه وثقافته بضمير حيّ حدّ الانشطار (أولئك الذين يغطون للتلفزيون العمومي ولجرائد حكومية كنت أراهم جديرين بالرثاء؛ ذلك أنّه لا هامش لهم غير ما هو رسمي؛... وهم يعرفون أنّ ما حرروه سيخضع لرقابة تبدأ من مدير التحرير... إلى ضابط الأمن) ص196. إنّه يثير الأسئلة التي تحمل الشك أكثر من اليقين، ويعيد صياغة اليقين عبر السؤال، ويؤسس لكشف الثقافة التي يرزح الفكر الجزائري تحت وطأتها، باستثارة المضمر وسحبه إلى مستقبلات الإدراك الواعية أزمتَها.
د. آمال كبير
العنوان
لا يقف جدل العنوان في هذا النص عند إمكانية السؤال الّذي لم نجد له إجابة حقيقية في الرواية، ما يثيره تشكيل السؤال بهذه الكيفية هو صياغة الاستفهام دون الإحالة إلى الجهل بالإجابة، فأوّل ما يصادفنا غياب الإحالة الترقيمية(؟)، فهل يمكن أن يكون الكاتب قد نسي وضعها، أم أنّها سقطت عنوة لتقلب الدلالة من ترقب الخبر إلى يقينيته؟
استخدم الكاتب الاسم الموصول (من)؛ فـ(من) ليست علامة استفهام، لكنّها تدل على علَم معروف، متوار خلف التمويه الاستفساري الّذي يؤدي إلى تحوير (من) العاقلة إلى (من) الاستفهامية، دون إقرار معنى الاستفهام في عنوان يحيل إلى نص لا يكشف فحواه، فالكاتب يعرف القاتل لكنّه لا يجيب عن السؤال، فالمعلوم لا يحتاج إثباتا، لكن لا أحد يمكن أن يطالبه بالكشف عن نفسه علنا (... حضنت وجهي بين يدي أبحث في ظلمة عينيّ عن لغة أخرى غير التي بها أحرر وبها أوصل إلى قارئ ينتظر غير الّذي يعرفه...) ص 43.
صيغة محيرة تقود إلى انتفاء شرط أساس في علاقة الضحية بالمجرم في هذه الرواية، فكلاهما يمثل قطبا معترفا بأهميته وبقيمته وبثقله في المجتمع، لكن المشكلة تكمن في الصراع الدائر بين هذين القطبين اللذين يرمز (أسعد) إلى أحدهما، ويرمز (من) إلى الآخر، فهو علَم مستتر خلف سلطة المقابل القابل للنفي، فهل يحقق فعل القتل هذا النفي، وهل يختفي القطب الثاني بفعل السيطرة القمعية للمعلن المجهول؟ (- قد يكون التحقيق نزيها، برغم أنّنا منذ الآن نعرف أنّه ستعترضه موانع سياسية. لذلك فإنّ ملفه... لن يذهب إلى مداه.
-هل ترون أنّ هناك جدوى من التحقيق في ظل إجراءات تكبح الرأي؟
-... لن نطمئن إلى إجراءات تكييف هذه القضية والبتّ فيها بحكم موافق لطبيعتها) ص 60.
المشكلة التي يحيل إليها العنوان تكمن في حالة الصراع الدائم بين طرفين يريد أحدهما أن يكون مركزا، بينما يجب أن يجعل الثاني هامشًا حتى تتحقق مركزيته، فإذا كان المثقف قد قتل من أجل تهميش فئة كاملة، فمن قتله؟ من هو المجهول الّذي لا تتحقق مركزيته إلاّ بإلغاء المثقف؟ (-ضحية أخرى لشبح الظلام وسط هذه الحال من الفشل والضياع المعمّمين! فهل من جدوى بعد للموت من أجل مبادئنا!) ص71.
تقوم العتبات على التمهيد للمعنى المراد التعبير عنه في النص، وقد أشار الكاتب في عتبته المقتبسة من كلام (فرويد) إلى استحالة السعادة (يصعب عليّ الاعتقاد بوجود بشر في جنان سعيدة لا يعرفون العنف أو العبودية) ص 06.
هذا النفي يتأسس من خلال محطات يمر بها البطل لكشف المؤامرة التي تعرض إليها الأستاذ، وإلى تغييب كلّ ما يمكنه أن يحقق العدالة أو يكشف القاتل (اغتياله تراجيديا ولا يمكن قبولها... الأمر الّذي يحملني على الاعتقاد بأنّ هذا الفعل عمل تعسفي) ص 81.
لكن ما هي القضية المركزية التي يحملها النص بما يجعلها تتجاوب مع العتبة، الكاتب كما يبدو لا يتعمق في مفهوم السعادة بالنسبة إلى المجتمع الّذي ينطلق منه عارضا قضيته المتمثلة خطيا في الاغتيال، إنّه يرمز إلى أنّ السعادة لا تتحقق إلاّ بالعدالة مادامت إمكانية السلام مفقودة (- بدأ يُشاع عن القاتل أنّه منحرف وعن الأستاذ أنّه من المثليين...
-ثق! ملف التحقيق سيسكت عن أسباب الاغتيال الحقيقية. وإجراءات المحاكمة ستشوبها لطخات ظل وشك...
- ولكن لماذا فقط وبالتحديد ناشط في التنسيقية بدرجة أستاذ؟) ص101.
المجتمع الجديد
الرواية تضع يدها على مسارات التحوّل التي طالت الفكر الجزائري، حتى صار أفراد المجتمع الواحد غير قادرين على توحيد مواقفهم تجاه القضايا المصيرية التي يتعرض إليها الوطن، ويتزلزل بفعلها المجتمع، ما يحدث هو أنّ الالتباس حول الأفعال الدخيلة على طبيعة المجتمع خلق فئات مشكّكة، متصارعة مع ذاتها ومع الآخر، وجعل إمكانية قبول هذا بذاك فعلا غير قابل للتحقق (... يا حضرة المفتش! أنا أعرف لماذا أنت تقودني إلى محافظتكم الوسخة... الأستاذ ليس مشهورا في وسطنا مثل سفيان. ولكنّي أعرف ما كان لسفيان من علاقة مع الأستاذ... تستطيع أن تقول إنّ سفيان هجرني إلى الأستاذ.) ص105.
لكن ما يهمنا هو كيف استطاع الكاتب أن يضع هذه الأطراف جميعا على منصة الكتابة؟ وكيف جعل منها جميعا سببا وضحية للجرم المشهود، وهو اغتيال المثقف؟ (-لن ينخدع العمال إلى ما لا نهاية بديماغوجية مسؤولي مركزيتهم النقابية ووعود الحكومة المخلفة عن إعادة هيكلة ما تبقى من القطاع العمومي بما يضمن استمرار مناصب العمل الموجودة وموافرة غيرها.
اختفى وجهه خلف شعار الإذاعة الوطنية. تواصل صوته.
- التنسيقية ليست حزبا. إنّها تجمع لكلّ الدّاعين إلى التغيير السلمي) ص187.
فشل المثقف
ينشغل الكاتب أحيانا عن القضية الرئيسة ممررا أفكارا تصب في مجرى الخبر العام، الّذي يخدم فكرة الرواية من بعيد (-الطاعون والاستعمار شيئان متلازمان. وعبقرية كاتبك تكمن في أنّه استطاع أن يفصل بينهما ليغطي بالأوّل على الثاني!) ص 175. ففكرة (كامو) تندرج ضمن سياق يتآلف مع موقف البطل من قضية (أسعد المروري)، في سياق اعتقاده بأنّ القاتل يجب أن يكون امتدادا للمستعمر.ما يخلص إليه الكاتب في الأخير فعلي ومستمر؛ إنّه الفشل الّذي يُمنى به المثقف في المجتمعات المهزومة فكريا ومعنويا (يومه الأربعاء نهض رستم آخر من سريري... فارغ الذهن والرّوح من أي توقيت، من أي صورة، من أي هم، إلاّ من فشلي اللاذع) ص214. هذا الفشل الّذي ينسحب من المجتمع وإليه (ووسط زحمته توهمها حشرا حركة الراجلين على رصيفيه والفضوليين عند الفترينات والشبان الخياطين عند مداخل البنايات المتسخة بآثار التلوث والعابرين حذرا...) ص 218.
تتشابك الكلمات في سياقها اللغوي، لتعبر عن خليط بشري يكاد أن يكون عاديا للوهلة الأولى، غير أنّ رجع القراءة والتأويل يكشف عن اختيار منمق لمناظر بعينها، تنتهي جميعا بالبطل إلى تقرير الانتحار الجماعي للمثقف، بفعل الاستسلام القسري المبرّر بعدم إمكانية امتلاك سلطة التغيير (-ما الجدوى إذا من حياتنا؟...- لم أختر أنّ أولد في هذا الزمن لأرى كلّ هذا الظلم. هذه الجرائم والحروب. ثمّ أذهب إلى عدم!.
-اغتيالات. تصفيات. أي طبيعة هذه التي تحوّل الديانات والأيديولوجيات ومقتضيات الدولة إلى رعب وقهر!) ص223. 

الرجوع إلى الأعلى