متى تزحفُ الصّحراءُ على أرضِ الرّواية؟
الصحراء كتيمة وكفضاء وكمكان في الرواية الجزائرية. كيف تجلّت وحضرت بكلّ موروثاتها وتضاريسها وحكاياها وطقوسها في المتن الروائي الجزائري؟ ما الّذي ميز/ويميز الفضاء الصحراوي عن فضاءات أخرى تحضر وتكون في الرواية. وهل الصحراء، وجدت/أوجدت سياقها الجمالي والفني والمكاني والأدبي في النص الروائي الجزائري كما يليق برحابة جغرافيتها وتاريخها وموروثها، أم أنّ حضورها كان قليلا عكس اللازم والضروري في المتن السردي الجزائري مقارنة مع حضور فضاء المدينة مثلا، أو فضاء البحر والريف في الرواية الجزائرية منذ البدايات وحتى روايات الجيل الجديد.
استطلاع/ نــوّارة لـــحــرش
حول هذا الشأن «حضور فضاء الصحراء في الرواية»، كان ملف عدد اليوم من «كراس الثقافة» مع مجموعة من الكُتاب والنقاد والأكاديميين، الذين تناولوا المسألة كلٌ حسب زاوية و وجهة نظره، وحسب ما رأته/واستشرفته حدقته الفنية للصحراء وأدب الصحراء.

عبد الحفيظ بن جلولي/ كاتب وناقد
حضرت الصحراء كشكل في الرواية الجزائرية
لا يمكن للأدب أن ينفصل عن المكان، ذلك أنّ الذات الكاتبة لا يمكن أن تروي بمعزل عن المكان الّذي تعرفه وتتجلى فيه، ومن ذلك الصّحراء، ذلك الفضاء الممتد في الفراغ واللامحدود، والّذي أصبح شكلا من أشكال الأدب يتسمّى هذا الأخير باسمه لخصوصيته، والرّواية أقدر الأجناس على حمل المخيال الصّحراوي.
كل موضوع له جانبان، الشكل وما وراء الشكل حتى لا أقول المضمون لأنّه مفهوم نافر من الفنّية والإبداعية، فإذا استطعنا كتابة الشكل (شكل الصّحراء)، فإنّه يبدو لي، من الصّعوبة بمكان أن نكتب ما وراء شكل الصّحراء، وهو ما يسمّيه إبراهيم الكوني بـ»روح الصّحراء» أو «التكوين الوجودي للصحراء» لأنّه يمثل العلاقة الخفية الجوهرية بين الذات الكاتبة والصّحراء، كانت جدّتي تقول: «بأنّ البيت الّذي يفرغ من النّفس ينهدم ويخرب»، والمعنى ليس في ابتعاد الإنسان عن المكان أو التخلي عنه، ولكن في فقدان تلك العلاقة الجوهرية مع المكان، لهذا كان الشاعر العربي يعود إلى الطلل لكي يستنسخ منه روح المكان. إنّ سؤال الصّحراء يطرح بالضرورة طبيعتها، فهل هي مكان أو فضاء؟
هناك فرق جوهري بين المكان والفضاء، ولعلي أنطلق من مقولة إبراهيم الكوني من أنّ «الصّحراء هي المكان الوحيد الّذي يفتقد إلى شروط المكان»، في رأيي، سبب ذلك الفرق الشاسع بين الصّحراء/الفراغ كبنية لا محدودة والمدينة/العمران كبنية محدودة.
يبدو لي أنّ حضور الصحراء في الرواية الجزائرية يطرح بعض الإشكاليات منها على الأقل بالنّسبة لي، إشكالية العلاقة مع الفضاء، حيث هناك كينونتين، الكينونة في الصّحراء أو الكينونة بالميلاد، والمخيال الحامل للصّحراء أو الكينونة بالمخيال، أيضا إشكالية أخرى تتعلق بالتحول في المفهوم الأنثروبولوجي للصّحراء على أساس الاختلاف بين العمران والفراغ.
بالنسبة للكينونة في الصّحراء فإنّ العلاقة مع الفضاء تتسم بالترابط الوجداني الّذي يخلق نوعا من الإحساس بالقرابة مع الفضاء ومن ثمّة التداخل بين الذات الكاتبة والفضاء، ويتم ذلك عبر التواصل والشفافية، وهذا لا يعني البتة أنّ المخيال الحامل للصّحراء لا يملك الشفافية والتواصل، ولكن عند الكينونة في الصّحراء يتمان بيسر وسهولة لتحقق شرط التعالق الرّمزي مع الفضاء.
تتجلى الصّحراء متعالقة مع المخيال المنتج للنص، لا تتأسس محجوبة ولا محتكرة، لأنّ المخيال مشترك جمعي، ومن هنا نقف على أهمية المنجز الروائي الّذي تناول الصّحراء كتيمة أساس، إذ تناولها السايح لحبيب والسعيد بوطاجين وعبد القادر ضيف الله، ففي «تلك المحبة» للحبيب السايح ترد جملة سردية تقول: «قدرنا هنا في الصّحراء أن نكبر قبل أواننا»، نكبر قبل أواننا لأنّ الصّحراء تضعنا أمام تحدي الصّغر فينا، فنضطر إلى مجاراتها في الكبر منسجمين مع الانبساط الأسطوري لعالم الرّمل، فتسكننا مخيالا ونسكنها كينونة: «أدرار لا تسكن قلبي، ولكن تلك هي المحبة»، يمكن قراءة هذه الجملة في مستويين: فالرّوائي السايح لحبيب ألغى الآلة الصانعة للمحبة والتي هي القلب وأسند صناعتها إلى الصحراء، وذلك لارتباطه بها حيث أمضى سنينا فيها، أمّا المستوى الثاني فالجملة تبيّن لنا التمييز بين علاقتين بالصّحراء، فالجملة هنا استكشافية وتوضيحية، حيث الكينونة في الصّحراء لا تحتاج إلى ذلك كونها متعالقة رمزيا مع المكان. أمّا السعيد بوطاجين ففي روايته «أعوذ بالله» يحيلنا إلى الهجرة من المحدود إلى اللامحدود، حيث مجموعة
من المثقفين تنتقل إلى الجنوب في رحلة استكشاف ومحبة: «أنا حفيد البلاغة، لذا يمّمت شطر الصحراء»، فالبلاغة هي بلاغة الهجرة والعودة إلى الجذور (الحفيد) والانتقال من المحدود إلى اللامحدود.
أمّا الكينونة في الصّحراء فقد تمثلت عناوينا تعجّ بالأسطوري والطّقوسي وحفاوة الميلاد على ذرّات الرّمل، ففي رواية «وادي الحنّاء» تتحرّك جميلة طلباوي داخل الفضاء الصّحراوي لتعود أدراجها إلى أدرار حيث تحيك نسيج الحكاية، وورود «وهران» يمنح أدرار بعدا استقطابيا، أمّا احتياج الحنّاء إلى الماء، فيحمل رمزية بلاغة الاحتياج في الصّحراء، فالاحتياج في الصّحراء وظيفي ينسج خيوط الصّبر.
كما يبدأ الرّوائي الصديق الحاج أحمد روايته «مملكة الزيوان» منذ المرحلة الرّحمية بالنسبة للشخصية الرئيسة، وهو ما يكشف رمزية العلاقة الجنينية التي تربط الذات الصحراوية بصحرائها.
العودة إلى الصحراء هي عودة إلى البدايات، فهي عراء، وصفها عبد القادر ضيف الله بـ»عراء الصمت»، والعودة إليها هي عودة إلى بداياتنا العارية. المدينة تزاحم الصّحراء، تدفع بالرّمل إلى الفناء، لكن الصّحراء ما زالت تناور لتستمر، وفي هذه المناورة خلق للمخيال العابر للذوات، وذلك هو تجلي الصّحراء النافر من التستر إلى العراء، ومن التكتم إلى الإفصاح.

بوداود عميّر/ قاص ومترجم
الكتابات عن الصّحراء في الجزائر قليلة ولا تواكب زخمها
رغم المكانة الأساسية التي تتبوّؤها الصحراءُ الجزائرية ودورها في بلورة ملامح وجه الوطن، ماضيًا وحاضرا ومستقبلا، على جميع الأصعدة؛ علاوة على تواجدها وحضورها القوي من خلال تراث أصيلٍ، متعدّد، زاخر ومتنوّع، بلغاته، ولهجاته وثقافاته؛ لكنّها تبدو غير متواجدة، أو حاضرة بشكل محتشَم، داخل المشهد الأدبي الجزائري، بهذا الزخم، وهذه المكانة التي تحتلها؛ ما عدا بعض الأعمال القليلة، والتي لا تشكل في اعتقادي عيّنة، حتى لا أقول محاولة تأسيس، لما يمكننا أن نسميه أدبًا جزائريًا يُعنى بالصحراء: بفضائها، بتراثها، بجغرافيتها، بهموم قاطنيها، بتطلعاتهم، وبصراعهم مع الطبيعة القاسية أحيانا. وعندما نتحدث عن أدب الصحراء في الجزائر، يجب في اعتقادي الأخذ بعين الاعتبار جملة من المعطيات الموضوعية، للاقتراب أكثر من فهم وإدراك الخصوصية السردية لهذا الأدب وملامحه:
أولا: لا يعني أبدًا كما قد يتبادر إلى الأذهان لأوّل وهلة، أنّ أدبَ الصحراء، يهمّ فقط الكتّاب والمبدعين القاطنين في هذه البقعة الجغرافية؛ هكذا تبدو الصحراء غائبة تمامًا، في نصوص وكتابات العديد من الكُتّاب الذين ولدوا وترعرعوا في الصحراء الجزائرية؛ ياسمينة خضرا مثلا، الّذي ولد وترعرع بالقنادسة في الجنوب الغربي الجزائري، وهو الكاتب العالمي، المعروف عنه غزارة الإنتاج بإصداره أزيد من 40 رواية، سواءً تلك التي كتبها باسمه الحقيقي محمد مولسهول أو باسمه المستعار الحالي؛ بين هذا التراكم المنتَج، والّذي للأسف، لا نكاد نعثر على ملامح الصحراء وفضائها في أعماله الروائية؛ إلى جانب كتّاب آخرين، ولدوا وترعرعوا في الصحراء الجزائرية، يعيشون الآن في الغرب، مثل مليكة مقدم، بيار رابحي وغيرهم.
ثانيا: اختيار الإقامة والمعيشة في فرنسا والغرب عموما، لا يعني القطيعة مع الأصل ومع المكان؛ ولعل خير مثال على ذلك الكاتب الليبي إبراهيم الكوني، الّذي يعيش الآن، كما هو معروف، في أوروبا؛ والّذي وُلد ونشأ في كنف عائلة من الطوارق في الصحراء. والحاصل أن معظم أعماله الروائية تتناول الصحراء كتيمة أساسية؛ ولأنّ تناولَه للصحراء صادقٌ وعميق، استطاع أن ينجح في تأسيس كتابة صحراوية قائمة بذاتها، واستطاع أن يُبلغ صوتَ الصحراء إلى العالم وأن ينجح في ذلك؛ من خلال الترجمات العديدة التي حَظيت بها أعمالُه، ومن خلال أيضا نيلِه جوائزَ أدبية مهمة في العالم العربي وأوروبا. يمكننا أيضا وفي هذا السياق، أن نشير إلى تجربة الكاتب الفرنسي الكبير جان ماري غوستاف لو كليزيو، الفائز بجائزة نوبل للأدب؛ والّذي عاش في كنف الصحراء، وأقام بين أهلها، وغامر صوب وديانها وكثبانها الرملية، هكذا كتب عن معايشته بعيدا عن الكتابات الوصفية المبتذلة أو الإيكزوتيكية، ليصدر لنا سنة 1980 رواية رائعة، تحمل عنوان «صحراء» Désert؛ وفي سنة 2008 سينال جائزة نوبل للأدب بفضل هذه الرواية، التي اعتبرتها الأكاديمية السويدية أنّها تقدم «صورا رائعة لثقافة ضائعة في صحراء شمال أفريقيا».  
يمكنّنا كذلك أن نشير إلى تجربة مهمة جدا،عاشتها الصحفية والرحالة إيزابيل إيبرهارت، التي تركت مدينةَ جنيف السويسرية وعائلتَها الارستقراطية هناك، في محاولة البحث عن عوالم أخرى تتجسّد فيها السكينة الروحية والآفاق الرحبة، عبرت عنه إيزابيل إيبرهارت قائلة: «... سأحقق مشروعا جريئا وهو أن أرحل إلى الصحراء وأبحث عن السكينة وعن المغامرة في آن معا، تلك أشياء تتلاءم وغرابة طبعي... أنا التي لم يسعْها أبدًا العيش الرغيد داخل المدنية الأوروبية...»
هكذا ستقرّر خوضَ مغامرة الصحراء الجزائرية، لتجوبَها ممتطية فرسا، وبلباس رجل بدوي، انطلاقا من الجنوب الشرقي إلى الجنوب الغربي؛ وسرعان ما تكتب نصوصا عميقة عن هموم واهتمامات سكان البوادي والصحراء الجزائرية، حيث استقر بها المقام في العين الصفراء، أين لقيت حتفَها غرقا، إثر فيضان وادي العين الصفراء ذات خريف من سنة 1904، وحيث يتواجد قبرُها إلى الآن في مقبرة المسلمين.
ثالثا: الكتّاب الجزائريون المقيمون في الولايات المحسوبة على الصحراء أو المتاخمة لها، قامات أدبية مرموقة لا شك في ذلك، فرضت وجودَها داخل المشهد الأدبي الجزائري؛ هي أسماء مهمة في الشّعر والقصة والرواية، غير أنّنا نكاد لا نشمُّ رائحةَ الصحراء في نصوصهم ولا نحس بنفحاتها، ما عدا بعض الأعمال القليلة كما قلت، تقف في صدارتها ربّما، رواية الصديق حاج أحمد الموسومة «مملكة الزيوان»، ورواية «تنزروفت» لعبد القادر ضيف الله، وربّما قصص وروايات أخرى، ولكنّها في الحصيلة ضئيلة جدا، لا تتناسب وزخم الصحراء، وامتداد الصحراء وأفقها، ولا تتناسب وإمكانات الصحراء الهائلة، بتراثها الثقافي وبكفاءات مواهبِها وقدراتِهم الإبداعية.

عبد القادر ضيف الله/ روائي وأكاديمي
ظاهرة الكتابة الجديدة التي تعتمد على فضاء الصحراء أصبحت لافتة
لفتت في السنوات الأخيرة، ظاهرة الكتابة الجديدة التي تعتمد على مخيال فضاء الصحراء في الرواية الجزائرية انتباه النُقاد بنقلها للكتابة الروائية من العوالم الروائية الشائعة في الرواية العربية التي تعتمد فضاء المدينة وعناصرها وأجواءها وحاراتها وضجيج شوارعها وعلاقاتها المُعقدة بين ساكنتها وامتدادها الريفي إلى عوالم روائية مختلفة تعتمد الفضاء الصحراوي المنفتح والواسع والغني بالأخبار والوقائع الأسطورية والسحرية المبنية على جُمل من المأثورات الشفوية التي تمتاز بها البيئة الصحراوية لخلق  مكونات جديدة تساهم في بناء سردي وتخييلي مختلف تتطلع إليه الرواية الجزائرية التي ظلت تراوح مكانها حينما ابتعدت عن المكان كفضاء تخييلي وراحت تـنبي على كلّ ما هو ذهني يرتبط بحكايا ترصُد في الغالب أزمات الشخصيات العَالِمة في الواقع الجزائري وهي الشخصيات المثقفة التي ترتحل من مكان لآخر من المدينة إلى القرية، أو العكس خاصة كما سجلته العديد من التجارب الروائية الجزائرية سواء المتعلقة بجيل التأسيس أو جيل التأصيل أو ما بعده، لهذا يطرح السؤال دائما عن وجود رواية فنية تُعنى  بالمدينة كفضاء تخييلي جوهري في الكتابة الروائية، تشتم منه رائحة اللغات المتعدّدة في الأحياء الشعبية مثل حي القصبة في العاصمة، أو حي السويقة في قسنطينة أو سيد الهواري بوهران، هذا الابتعاد عن المكان أو فضاء المدينة الّذي يُعد مرادفا حيويا لنشأة هذا الجنس الفني المُسمى رواية، مِمَا جعل الرواية  الجزائرية المكتوبة بالعربية تخسر أهم عنصر من عناصر تشكُلها الّذي أعطي للرواية منذ وجودها  خصائصها الفنية من خلال العلاقات المتأزمة التي تخلقها الأمكنة المزدحمة التي توّفر التعدّد اللغوي والإيديولوجي، والكرنفالي الّذي يُعد جوهر الرّواية. لهذا ينطرح السؤال التالي على المدونة الروائية الجزائرية منذ تشكلها حتى اليوم: هل توجد فيها رواية جزائرية مكتوبة بالعربية اليوم تُعنى بالمدينة كمكان أصيل وجوهري وتخييلي وفني أم لا؟
طبعا الإجابة واضحة، لا يوجد هذا النوع من الرواية أو الروايات التي تشكل هذا المنحى الّذي قد تُراهن عليه الرواية الجزائرية لتصير رواية غنية فنيًا وقريبة من نبض القارئ من خلال التعمق في واقعه  الجزائري وحتى العربي.
وعليه جاءت في السنوات الأخيرة تجربة الكتابة عن الصحراء أو ما اصطلح عليه برواية الصحراء التي  توفرها عوالم الصحراء لخلق أجواء أسطورية وغرائبية تمْتَحُ من الواقع السحري غير المعروف لدى القارئ الجزائري في الغالب حيث تنبثق الشخصيات من آفاق ضبابية كما يقول عبد الله إبراهيم وكأنّها بلا ماض فتنخرط في حركة صراع حول المفاهيم، والقيم والتطلعات، والانتماءات، والتملك والهوية والرغبات، والمُتع الذاتية، وقبل كلّ شيء مواصلة البحث عن مصير مجهول في فضاء الصحراء الواسع، الّذي يمتاز بالشّمس الحارقة وبالامتداد اللانهائي، والخوف حيث يبرز صراع الإنسان من أجل البقاء، وهذا ما نجده بصورة متفاوتة ومتنوعة عند عديد الأسماء الروائية الجزائرية، سواء تلك التي افتتحت هذا النوع من الكتابة مع نهاية الثمانينات، وبداية التسعينيات من خلال التناص، أو الدمج للعوالم الصحراوية كفضاء مرجعي يؤثث لجمالية تبتعد عن كلّ ما هو إيديولوجي وسطحي، أو تلك التي اتخذت من الصحراء موضوعا وتيمة مركزية في أعمالها، محاولة البحث عن المغايرة والتجريب.
يمثل النموذج الأوّل رواية «تيميمون» لرشيد بوجدرة التي تحتفي بالمكان بِعدِّه جزيرة للسلام من خلال حضور أجواء الصحراء كخلفية سياحية، ورواية «أعوذ بالله» للروائي السعيد بوطاجين، والنموذج الثاني نجده مُمثلا في العمل المتميز للروائي الحبيب السائح في «تلك المحبة» حيث  يبرز الاشتغال اللغوي في تعالقه مع الواقع السحري المتمثل في طقوس الإنسان الصحراوي حينما تمتزج عوالم الفضاء الصحراوي  بتاريخه، وعادات شخصياته كما تبرز ذاكرة الصحراء وتاريخها كما لو أنّها ذاكرة للوطن، أمّا العمل الآخر فنجده ممثلا عند الحاج أحمد الصديق، وهو ابن مدينة أدرار في روايته الأولى «مملكة الزيوان» التي تنطلق من رؤية داخلية ترصد حياة الإنسان الصحراوي من الداخل عبر تقاليده وعاداته، مبرزة أنماطا مختلفة في التخييل الروائي الّذي يتقاطع فيه الميثاق السيري بالميثاق الروائي محاولا رصد تحولات المجتمع التواتي، منذ الاستقلال إلى غاية بداية الانفتاح السياسي.هناك أيضا تجربة روائية أخرى خاصة بابنة مدينة بشار الروائية جميلة طلباوي في روايتها «الخابية» التي تقارب فيها فضاءً صحراويا يتعلق بالقصور وعلاقة الإنسان الصحراوي بها، وهناك أيضا تجربة أخرى متميزة لابن مدينة أدرار وهو القاص عبد الله كروم في اختياره للفضاء الصحراوي كرهان للكتابة والتميّز كعنصر جوهري في القص يؤثث عوالمه من العوالم العجائبية التي تحكيها الأساطير عن الأمكنة المتواجدة في الصحراء مثل «حائط رحمونة» وهو الاسم الّذي تتخذه المجموعة القصصية الأولى، أو «مغارة الصابوق» عنوان مجموعته القصصية الثانية، والّذي يمثل اسم الشخصية والمكان الّذي تنسج حوله الأساطير حيث يغنى النص بالتخييل والعجائبي في توليفة سردية ساحرة تنتقي عناصرها الفنية من حفريات المكان، دون أن ننسى التجربة الروائية الأولى للقاص عبد الحفيظ جلولي الموسومة بـ»وعلى الرمل تبكي الرياح» التي ترصد أيضا علاقة الإنسان بالمكان من خلال الرابط الروحي. هذه التجارب الروائية وغيرها استطاعت أن تُلفت انتباه النقد إليها من بعد أن أعطت الرّواية الجزائرية بُعدا تخييليا جديدا ومختلفا عن بنيات التخييل السابقة التي اعتمدت في تشكيلها على فضاءات عديدة دون  التعمق فيها مثل فضاء المدينة وفضاءات وأجواء الريف عبر تمرير خطاب سياسي مرجعي سيطر في الغالب على التخييل وقوضه لهذا يمكن القول إنّ ظاهرة رواية الصحراء تُعد بحق ظاهرة متميزة يمكن مع الوقت والتراكم أن تضيف مسارا جديدا، وتشكيلا جديدا لبنية إضافية تُضاف للبُنى التجريبية في الرّواية العربية والرواية الجزائرية على الخصوص، كما يمكن أن تراهن عليها الرّواية الجزائرية كعلامة تميّز في خارطة الرواية العربية التي تفتقر لهذا الجانب المهم في تشكيل مخيالها السردي.

عبد الله كروم/ ناقد وباحث أكاديمي
على أديم الصحراء ما يستحق أن يُحكى
ألهمت الصحراء الكُتاب والمبدعين وحركت قرائحهم فجادت بنصوص مستملحة عن مكان ظل مهمشا حينا من الزمن، وحولت عوالمه المفتوحة على الأسطورة والخرافة والتيه والصمت والغيب إلى علامات ناطقة بزخم المعنى وغواية الحكاية المصبوبة في تصاميم النصوص وخرائط السرود ما جعلها تسهم في إعادة تشكيل وتفكيك المركز والفضاء الأوّل (المدينة)، ليتحوّل الهامش إلى مركز يزاحم بكشف المعتم والمعمى والمنسي، ويكسر النمط السائد الّذي شرعن للرواية كوريث شرعي ووحيد للمدينة (لوكاش وجان إيف تادييه).
لقد اهتم الروائيون الجزائريون على اختلاف توجهاتهم بمتخيل الصحراء، ووظفوا جمالياته في أجساد نصوصهم وتمفصلات سرودهم، بدءا من عتبة العنوان، مرورا بالشخصيات والأحداث والتوظيف  المشهدي، وصولا إلى لغة المكان وذاكرته وتفاصيل تفاصيله بأقلام العارفين من أبناء المكان.
وقد كان حضور الصحراء في الرواية الجزائرية المكتوبة بالفرنسية واضحا. إذ لم تغب جمالية الصحراء عن التوظيف الفني في السرد الجزائري المكتوب بالفرنسية، فقد حضرت منذ تأسيسها في الخمسينيات من القرن الماضي، ولعلّ أوّل من ضمنها عوالمه الحكائية الروائي مالك حداد عندما كتب روايته (سأهبك غزالة) (Je t’offrirai Une Gazelle) وحديثه عن المرأة التارقية ابنة الطاسيلي، ومولاي ابن ورقلة الأمير المفلس الّذي تاه في الصحراء بحثا عن غزالة لم يلحقها فمات فداء الحب.
كما وظف الروائي مولود معمري الصحراء في جسد نصه العبور (La Traversée) بمسحة أنتربولوجية وهو يتحدث عن هوية منسية وتراث أمازيغي مدفون في رمال الصحراء وجبال الأهقار، ومعمى عليه في الحضور نتيجة سيطرة الأحادية وعقلية الوحدة في سيادة اللون الواحد. ومع نفس النسق ذهب الروائي الطاهر جاووت في روايته اختراع (L’invention) سنة 1987، التي تحدث فيها عن أزمة الهُوية وتجاذباتها وعلاقتها بالتحولات السياسية وظاهرة الصحوة الإسلامية.
سنة 1993 برزت مليكة مقدم بروايتها الممنوعة (l ‘interdité) لتقدم رؤية عكسية عن الصحراء المُهادنة، وتقلب أحجارها لتكشف العقارب والحيات اللادغة التي لا تبقى فقط في الطبيعة إنّما يتجلى داخل المساكن الحجرية والطوبية الهشة التي حملت قسوة أخرى تمثلت في قهر الأنثى، وقدمت رؤية نقدية لتقاليدها الراكدة من منظور المهفهف بنسائم الضفة الأخرى من المتوسط. وسنة 1994 كتب بوجدرة روايته تيميمون (Timimoun) التي وجدها ملاذا من بطش الإرهاب في الشمال، ويكشف حياة الهدوء في الجوهرة الحمراء بعيدا عن صخب المدن وأصوات الرصاص والمتفجرات ويبعث من عمق المكان بأسئلة وجودية غارقة في الفلسفة والتصوّف.
كما جسد ثيمة الصحراء الروائي محمد ديب بمسحة سريالية وخلفية غنوصية في عمله الصحراء بدون منعطف (le desert sans détour)، عندما ماثل بين الواقع ومآل الأوضاع المتوترة في جزائر العشرية السوداء، ليعيد للصحراء صورة التيه والضياع والوحل ورمزية اللامعنى والخوف والموت.
كما نجد فضاء الصحراء عند سراد العربية، إذ التفت كُتاب الرواية الجزائرية لثيمة الصحراء مؤخرا، وبعد ضياع الإيديولوجيا وتلاشي بريقها، ولعلّ الروائي الحبيب الساييح أوّل من اكتشف عوالم الصحراء الجزائرية عندما حتمت عليه الأزمة الأمنية اللجوء إليها فأمنت روعه، واستقبلته بصدر حنون، فكتب لها ثلاثية تمثل ولعه بكنه المكان وبكارة المعنى المُغيب فكتب على التوالي «ذاك الحنين»، «تلك المحبة» و»تماسخت دم النسيان).. وبقيت الصحراء في تمثلاته ومشهدياته وحتى شخوصه وبعض فضاءاته حاضرة في كلّ أعماله اللاحقة..
وفي مطلع الألفية الثالثة كتب الروائي السعيد بوطاجين روايته «أعوذ بالله» التي وظف فيها فضاء الصحراء منطلقا من علامات تاريخية وسياحية ودينية ليتساءل عن جدلية الإنسان مع الكون والوجود.
في سنة2007 أصدر الروائي عز الدين ميهوبي روايته «اعترافات أسكرام» التي تدخل ضمن السرد اللاحق، ليحدث عن مدينة تامنراست بشكل تنبؤي استشرافي لآفاق 2040 وما سيطرأ في المدينة المعولمة من تحولات اقتصادية واجتماعية وفنية وإعلامية.
يمكن أن نشير لرواية «نادي الصنوبر» وتوظيفات الروائية ربيعة جلطي للتراث التارقي وعميق ثقافته حول مركزية الأنثى.
من جهة أخرى، لا يمكن إغفال الصحراء بأقلام أبنائها. ففي العشرية الثانية من هذا القرن تفطن أبناء الصحراء لوعي الكتابة عن مكان يعرفونه أكثر من غيرهم، فكتبوا روايات وأعمالا تجسد الهووس بالمكان ومكوناته السردية، وممن كتب: الروائي الحاج أحمد الصديق الزيواني في عملين رائعين «مملكة الزيوان» و»كاماراد». الروائي بوفاتح سبقاق الّذي تحدث في وروايته «الإعصار» عن صحراء تقرت موظفا بواقعية مسميات الشخوص والأماكن. الروائي عبد القادر ضيف الله في روايته «تانزروفت» بحثا عن الظل، وقد أعاد للمتلقي من عتبة العنوان صورة الخوف والرهاب من صحراء التيه والقهر. الروائية جميلة طلباوي ولها عملان هما «الخابية» و»وادي الحناء» تحدثت فيهما عن ذاكرة المكان الصحراوي وتاريخه وحكاياه بمسحة من الحنين والخوف من المسوخ وعاديات الزمن وكواسر الثقافات الزاحفة على القيم والرموز والعلامات والهوية المكانية.

 

الرجوع إلى الأعلى