حين تنقلب الشخصيات على الكاتب
قرأت لعلي مغازي شاعرا، قبل أن أقرأ له روائيا في «ستة عشر من عشرين» المنشورة عن دار ميم 2018، وكنتُ تفاجأت بقصائده التي تنزّ شعرا، وقلقا، وحلما، وتفاؤلا. لكلّ هذا لا أرى مشكلة في اِنتقال الكاتب من الشِّعر إلى الرواية أو من الرواية إلى الشِّعر، أو إلى أيّ نوع أدبيّ آخر مادام الكاتب يملك موهبته واِشتغاله الدائم على اللّغة وقلقه؛ وذلك ليقيني أنّ التجربة هي ما يقود قوارب الكاتب إلى شاطئ قولٍ كثيرا ما يتفاجأ به هو نفسه قبل الآخرين. ثم إنّ اِنتقال الكاتب من نوع أدبيّ إلى آخر ليست مسألة إشكالية إلاّ في تناول بعض الأقلام لها، وكأنّ الشّعر قدر، وكأنّ النثر سجن؛ فكم كتب كثيرٌ من الكتّاب في المسرح، والمقال، والمحاولات، والرواية... بينما اِقتصر إبداع كثيرين على نوع واحد من الكتابة. كلّ ذلك -في رأيي- تراكمٌ جميل يضيف ولا يضيّق على الآخرين. هذا وإنّ تزاوج الشّعر والنثر ليس جديدا لاسيما في الأدب الجزائريّ، وأكاد أن أجزم أنّ براعة مالك حدّاد ما زالت -في حدود معرفتي- غير مسبوقة، وستظلّ منبعا ثرّا لا يتجاهله كاتب -على الأقلّ في الجزائر- إلاّ ويكون قد خسر كثيرا.
طبعا عرّجت على هذه الحقيقة لأنّ علي مغازي شاعر يكتب الرواية، وهو شاعر يملك ناصية القصيدة الجميلة، والجديدة في متن الشعريّة الجزائريّة وله في الشّعر «جهة الظّل» 2002 و»حبيباتي» 2009. وصدر له سنة 2017 «حبيباتي بالتّصوير البطيء» في نسخة إلكترونيّة، ويكتب مغازي القصة كما في تجربته «حبيباتي بالتّصوير العكسيّ» الصادرة عن دار بوهيما هذا العام.
ما يتّضح لي من هذه التجارب أنّ مغازي كاتب قلق، ولا يكفّ عن التساؤل والتّجريب، فهو صنو النحّات يشكّل من الطين ما لا ينتهي من التّصاوير والحالات، لذلك تجده يحوّل بيسر كلّ جملة أو مفارقة إلى كتابة أدبيّة، ولذلك أيضا كان بمقدوره أن يكسر كلّ الأطر التي قد يضعها ناقد مولع بالتّقسيم والفصل؛ بعد أن جرّب القصيدة، والقصة، والرواية. وسبر الدروب الخفيّة الموصلة إليها جميعا، أو قارئ نمطيّ لم يسبر روح اللّغة واِكتنازها بملح السؤال ودم الخيال.
يقلب علي مغازي في روايته «ستة عشر من عشرين» تقنيات الرواية ليس لأنّ شخصيته الأساسيّة اِمرأة تروي تفاصيل حياتها الغريبة وحسب، «هي الفتاة السيّئة الحظ والسمعة» ص17 بل لأنّه يحوّل الكاتب والراوي شخوصا في يدها بعد أن اِعترف لها في تصديره للكتاب أنْ «نفسُك في كلّ حرف». فهي تملي عليه دقائق حياتها الغاصة بالألم والرفض، والغضب والقهر الّذي تعيشه المرأة مزدوجا وهي تحكي قصتها: «قصتي المليئة بآفات الحزن ونشوة النّسيان، بالعنف والغدر والمآسي، بالعبث والكفاح، بالأيادي الرطبة والأسئلة المستفزة، بالزيف، بالخبل، بالمجون...» ص 44. فمن حقها إذًا أن تناقش معه كلّ المسلّمات التي من المفروض أن يظهر عليها عمل روائيّ: «هل التّعريف بالشخوص يدخل ضمن صلاحيات السياق؟ «ص 227 هكذا بسذاجتها التي في رأيي برع مغازي في نقلها عبر السجّل اللغوي الّذي تنطق به، وبما حاولت أن تبدو عليه من معرفة تماما كامرأة لم تدللها الحياة، وبالمقابل لم تتركها دون محاولة للتّعلم حتى لتبدو حكيمة، لعلّ ذلك ظهر في نضج الرسالة التي بعثت بها للراوي/الكاتب محمود الساهي وهي تخبره أنّ تلك الشهور من الاِعتراف قد مكّنتها من قبض حريتها. في ثنايا لغة سونيا  سنجد الكثير من البذاءة والعنف الّذي تحدّجه بكلّ قوة وهي متوائمة معه لأنّها تعرف أنّها لم تملك أحسن منه.
لا تتوقف هذه الراوية الشريكة عن تذكير الكاتب بآراء النقاد وحرصهم على ضرورة وجود مقاييس تهديهم في الرواية إلى قراءتها بما تتطلّب المناهج إلاّ أنّها تبدو غير متيّقنة من كون تلك الشروط سرّا من أسرار نجاح الحكاية التي يعيش فيها لحدّ الآن (المؤرخ –كما اِعتبرته- والفتاة) داخل زمن الحكاية في الواقع وفي النّص ص13.
بسمك خطّين مختلفين حاول الكاتب فصل مستويين من الحكاية، وهو ما ترويه «سونيا» عن نفسها، وما ترويه عن الكائنات الفضائيّة، والكائنات الأرضيّة، والكائنات الوهميّة كما قسّمت البشر الذين صادفتهم في رحلتها القاسية. لتبحر بنا في براثن طفولتها التي نكشف معها مستورات هذا المجتمع المقهور تحت رحمة الحاجة والجهل والظلم كما تعيشه اِمرأة وحيدة لا دثار عليها سوى جسد ينهشه من اِشتهى وكم كانت تريد «المساعدة..أية مساعدة كانت. بينما الوجوه ظلّت حولي صمّاء مسطّحة.» ص28
تحتاج سونيا لمغادرة كلّ هذا كي تحب، كي تعترف بكلّ ذلك الخيال الّذي أظن أنّ مغازي الشاعر كان له القاسم الأوفر فيه، حتى وهي تحوّله إلى مجرّد شخصية في عالمها: «لم تضع بعد ما أنجزناه طيلة أشهر معا، من فصول ومشاهد روائية كثيرة» فلنقرأ هذه الصورة حيث يحضر الرسم كما فنون أخرى قوّى بها الكاتب روايته: «كفّاه على شكل سلّة بها كلّ البيض» ص247. وما أكثرها تلك الصور الشاعرية داخل الحكاية الاعتراف.
أظن أنّ نظرة الكاتب إلى ضرورة إشراك المرأة في الحياة بتحريرها من اِغترابها برضاها في أن تكون متاعا هو ما ألزمه بأن يتقاسم معها هذا الدور الّذي يعرف أنّه ليس من السّهل أن يتنازل الكاتب عنه. فالمرأة عندما تقترب من معاش الرّجل تجعل الحياة اِقتساما فلا تكون مجرّد حمل يضيّق عليه حياته، بل معا يملآنها بالألوان والسّحر أي بالحياة؛ فقد وجدت سونيا الحلّ لمشاكل كثيرة بين الأزواج كأنّ تعلّمهم الحكومة طرق معاشرتهم ومعاملتهم لبعض.
إنّ «ستة عشر من عشرين» في رأيي رواية مليئة بالشّعر، وبالموسيقى، وبالسينما، وبالألوان وبالسياسة أيضا وبالتاريخ الّذي تختزله مآسينا اليوم. وأحسب أنّ علي مغازيّ كان مباشرا في تسجيل مفاجأة سونيا له بالرّحيل إلى فرنسا، وتقمّصها المعلن للجزائر،  فهل اِحتاج الكاتب إلى هذا التّوضيح؟ أم خاف من قارئ لا يهتم بما بين السطور وما يتخفّى تحت هدب الكلمات التي فعلا جسّدت لغة جديدة حيّة وبسيطة لأنّها لغة من عمق الحياة الجزائريّة؟
إنّ «ستة عشر من عشرين» في خلدي كتابة قد أثبتت أنّ جيلا من الكتّاب عارف باللّغة الحبلى بالتّجربة البعيدة عن الوظيفيّة، غير المعابة في تجارب أبعدت القارئ عن قراءة الأدب الجزائريّ إذ إنّه لا يجد فيه ضالته من تلك اللّغة «الأخرى»، اِكتملت ملامحه الواثقة من حلمها وتجربتها.
فـ.ياسمينة بريهوم

الرجوع إلى الأعلى