هل تمّ توظيف المدينة في المتن الرّوائي السردي الجزائري بشكلٍ يليق بفضاء المدينة، أم ظلّ توظيفا شاحبا وليس ذا شأن ولا في مستوى ومكانة المدينة، عكس الحال مع مُدن وعواصم العالم التي حُظيت بحيزها السردي المُستحق في روايات كُتّابها. وهل إشكالية التمدن لم تستوفِ حقها في النصّ الروائي الجزائري كما هو الحال في المراكز الحضارية الكبرى؟ أيضا كيف هو حال وصورة المدينة في النصّ الروائي الجزائري؟ لماذا هي محتشمة وحضورها خافت؟، ما السبب في هذا، ما العائق وما المانع في أن تكون صورتها حاضرة في المتن الروائي بشكل مكثف وإن بمستويات متعدّدة ومختلفة، لماذا هذا الغياب للمدينة في الروايات الجزائرية؟.
استطلاع/ نـــــوّارة لــحـــرش
وهل حقا -كما قال الدكتور ختالة- لم تتعامل الرّواية الجزائرية بحب مع المدينة، ولم يكن حضورها في المنجز السردي حضورا فيزيائيا يعبر عن عظمتها وتميزها. أم لأنّ القراءات المعرفية والجمالية حول المكان –كما يقول الناقد بن جلولي- هو ما نفتقده كركيزة معرفية حول المدينة تتيح لنا بعض الفُسح الإنارية لقراءة المدينة كمكان يمكن استلهامه تخييليا وإعادة إنتاجه روائيا. كما يمكن أن يعود الأمر -حسب قوله دائما- إلى عدم توّفر دراسات حول سوسيولوجبا المكان.
حول هذا الشأن «المدينة في الرّواية الجزائرية»، كان ملف عدد اليوم من «كراس الثقافة»، مع مجموعة من النقاد والأدباء.

عبد الحميد ختالة/ كاتب وناقد –جامعة خنشلة
الرّواية الجزائرية احتفت بالريف أكثر من المدينة
اقترنت الرّواية أوّل ما ظهرت بالمدينة البرجوازية كما يرى جورج هنري لاري، إذ بقيت العلاقة بين المدينة والريف متأرجحة في مساحة الرفض، إلاّ أنّ الظاهر أنّ الرّواية الجزائرية قد احتفت بالمكان الريف أكثر من اهتمامها بأفضية المدينة وهو سؤال جدير بأن نطرحه على جنس أدبي تعملّق في الفترة الأخيرة، رغم أنّ حيرة النقد الجزائري حول هذا السؤال كانت قد أُثيرت بصوت هادئ منذ فترة، حينما نقل «عبد الفتاح عثمان» عن «الطاهر وطار» قوله: «لقد عبّر الأدب الجزائري قصّةً وروايةً عن الحرب التحريرية أحسن تعبير، لكن في عالم واحد هو عالم الريف، حتى لكأنّ الريف وحده هو الذي خاض الثورة، ولكأنّ المدينة ظلّت طوال تلكم الفترة نائمة لا تحيا سلبًا ولا إيجابًا، وقد ظلّ كلّ هذا نقطة ضعف في أدبنا».
نالت بعض المُدن العالمية حضوة كبيرة لدّى أشهر الروائيين، فكانت مدينة «دبلن» محور اهتمام روايات «جيمس جويس»، واهتمت روايات «بروست» بمدينة «باريس»، كما احتفى «نجيب محفوظ» بجزئيات القاهرة وشوارعها، وهذا كلّه كان جديرا بأن يجعل المدينة الفضاء الجميل للرّواية، والشِّعرية الناطقة لها، إلاّ أنّ الّذي حدث في الرّواية الجزائرية مختلف كثيرا، إذ تكاد تغييب ملامح المدينة وجمالياتها في المُنجز السردي الجزائري إلاّ ما كان تلميحًا أو هو حضور شاحب لا أنس فيه، حافظت فيه الرّواية على مسافة تضمن لها توجسها وقلقها من المدينة، بل ولم تؤثر رواية «بان الصبح» لبن هدوقة وهو يغازل العاصمة، ولا رواية «الزلزال» التي ضمنت لشخصية «بولرواح» تنقله المكثف في قسنطينة، ولا رواية «طيور في الظهيرة» لمرزاق بقطاش رسمه لتقاسيم مدينة الجزائر، حيث بقيَّ حضور المدينة باهتا في الرّواية الجزائرية عَدا في بعضها من مثل ما نقرؤه لمحمد ديب أو واسيني الأعرج في روايتي «وقائع من أوجاع رجل غامر صوب البحر» و»مصرع مريم الوديعة»، أو ما أثثت به الروائية أحلام مستغانمي مدينة قسنطينة في روايتها «ذاكرة الجسد»، أو تلك المدينة الغامضة والقاتلة في روايتي عز الدين جلاوجي «سرادق الحلم والفجيعة» و»راس المحنة».
لم تتعامل الرّواية الجزائرية بحب مع المدينة، ولم يكن حضورها في المنجز السردي حضورا فيزيائيا يعبر عن عظمتها وتميزها، إذ يكتب الروائي عن المدينة التي ولد بها وعاش في شوارعها وتلطَّف نسائمها فأحبها وسكنته قبل أن يسكنها، وهذا أحسبه سببا وجيها في شحوب وجه المدينة في الرّواية الجزائرية، إذ ينحدر المجتمع الجزائري من تخوم المدن أو من قراها وأريافها، متى سكن الجزائري المُدن إلاّ بعد خروج المستدمر منها؟، وبقيت أشباحه تسكنها فكانت المدينة مُعادلا للتشرّد والضياع واللا أصالة والغموض.
لم تُثِر المدينة في الجزائر نشوة الكتابة لدّى الروائيين لأنّها تفتقد للعمق والسحر والهيمنة، لم تتمكن المدينة من تحييد أفضية الريف والقرية في المخيال الروائي، إمّا لأنّ الروائي الجزائري لم يعشق مدنه بعد لأنّه يراها متجمّلة لغير ثقافته وانتمائه، أو لأنّ هيمنة مكان المولد والمنبت لم تتغير في جيل من الروائيين هم وافدون على المدينة، والأمل معقود على روائيي الجيل الآتي من أجل الالتفات إلى شعرية فضاء المدينة، فالمكان الممسوك بواسطة الخيال لن يظلّ مكانًا مُحايدًا، خاضعا لقياسات وتقييم مسّاح الأراضي، لقد عِيشَ فيه لا بشكل وصفي، بل بكلّ ما للخيال من تحيّز، وهو بشكل خاص في الغالب مركز اجتذاب دائم  كما يرى صاحب جمالية المكان.

عبد الرزاق بوكبة/ كاتب وروائي وناشط ثقافي
هل نملك مدينة بالمفهوم الحضاريّ حتّى نقارب حضورها وغيابها في المتون السّردية
لا تستطيع المدينة أن تتكرّس خطابًا ومكانًا ومناخات وفضاءات في المتن السّردي إلاّ إذا سادت ثقافة فنّ العيش في الجغرافيا، التي يكتب فيها ذلك المتن، إلى جانب سيادة الرّوح الدّيمقراطية بمفهومها الواسع، الّذي يشمل الأسرة والشّارع وأنظمة الحكم، لأنّ غياب ذلك يؤدّي في «اللاشعور السّردي» إلى هيمنة النّبرة النضالية في الكتابة، بما يعطي للذات في بوحها وهذيانها وتخبّطاتها أولوية في الانكتاب على حساب ملامح المكان.
في السّياق، هل نملك مدينة بالمفهوم الحضاريّ أصلا حتّى نقارب حضورها وغيابها في المتون السّردية؟ إنّ مدينة أجهضت فيها الفضاءات المنتجة للحكي مثل المسرح والسينما والساحة والحديقة والسوق، تغيب في الحياة، والدّليل أنّها تنام مع غروب الشمس مثل دجاجة قروية ناهيك عن غيابها في السّرد، وإذا حضرت في بعض المتون، فمن باب رصد تجلّيات الغياب/التغييب.

محـمّد بن زيان/ ناقد
حضرت المدينة بكيفيات مختلفة ولكن الحضور المنشود لم يتحقق
صورة المدينة في المنجز السردي وبالتحديد الرّواية مقترنة بإشكالية المكان ككلّ في نصوصنا، والعلاقة المُرتبكة معه هي كالعلاقة مع اللّغة. علاقة تفصح عن إشكاليات الهوية والذاكرة والتاريخ المطروحة. والحضور المُحتشم لصورة المدينة مُرتبط بِمَا ترسب وتراكم وبِعدة عوامل لا يتسع الحيّز ولا يسمح سياق الملف بالتفصيل فيها. فتاريخيا عرفت مُدننا تحوّلات وكان تشكلها الحديث مرتبط بزمن كولونيالي نفذ مخطط هندسة استبعاد الأهالي عن المركز وحصرهم في الهامش فكان العنف هو المحدّد للارتباط بالمكان.
وعقب استرجاع الاستقلال تعرضت المدينة إلى تبديد لأرصدتها، تبديدا بلغ الذروة في السنين الأخيرة، تبديدا أعدم معنى المدينة كبؤرة توليد للفعّالية، فالمدينة منظومة قيم ومعايير وليس تشكلات إسمنتية فقط.
وهناك مستويات وزوايا مُتعدّدة في تمثلات الكُتّاب ولهذا فالصورة ليست نمطية. وكلّ تعاطي مُرتبط برؤى وبتقنيات. حضرت المدينة بكيفيات مختلفة فحضرت في ثلاثية ديب الأولى لما حضر الهامش في مدينة تلمسان وحضرت قسنطينة وعنابة في رواية «نجمة» لكاتب ياسين كما حضرت قسنطينة في «الزلزال» لوطار، وحضرت العاصمة في نصوص هادي فليسي ومرزاق بقطاش وحميد عبد القادر وفي رواية «حارسة الظلال» لواسيني الأعرج وحضرت وهران في نصوص لجمعي عبد القادر وأمين الزاوي ورواية «شاهد العتمة» لبشير مفتي.... ولكن الحضور المنشود لم يتحقق. ونظرا لعدم اطلاعي على كلّ ما نُشر أبقى مُتحفظا في التعليق ومقيدا بما أمكنّني مطالعته.
لكن حضور المكان ليس بحشد أسماء مواقع ومعالم وشوارع، بل حضور شحنة روح المكان، حضورا يُعيد صياغة وبنينة المكان وتوليد تجليات أخرى بمعمار موازي ولقد انتبه بعض النُقاد إلى علاقة معمار رواية نجيب محفوظ مع معمار الحارات القاهرية التي كتب عنها.
غياب المدينة مرتبط بعوامل مختلفة من بينها الحمولة الثقافية والمعرفية للمبدع، ولا يمكن تفسير الغياب والتغييب بعلاقة مرتبكة إذ حتى لو كان ذلك فمن الممكن أن ينتج عنه نصًا يقول ذلك الارتباك ولنا مثال في علاقة كامي مع وهران.
والعلاقة مع المدينة مُركبة ولهذا صورتها تتعّدد بتعدّد العين التي ترصد نبضاتها وكما لابنها رؤيته وأحاسيسه وكلّ ما شكّل ذاكرته ومخياله فإنّ للوافد ما تشكّل من تَمثّل قد يفتقده ابنها. وتَمثُّل المكان مرتبطٌ باستيعاب خصوصياته الأنثروبولوجية والإلمام بمميزاته المعمارية ومعرفة مناخه وخفايا هوامشه وسراديبه... فقد يحضر المكان حضورا مقترنا بالاحتضار إذا افتقد الكاتب ما يُكثف به حيوية المكان، وبين النصّ والمكان ترابطا فاللّغة مسكنٌ وجودي بتعبير هايدغر.

عبد الحفيظ بن جلولي/ كاتب وناقد
الحافز الّذي يفتح أمام الروائي الأفق المديني غائب
المدينة الجزائرية خارج النص، هامش مفهومي يُحيل إلى مشهد سينمائي جزائري يُمثل الصّراع بين الرّيف والمدينة، ورفض الرّيف لصالح هذه الأخيرة، هذا المشهد مثّله الرّاحل حسن الحسني في أحد أفلامه حين انتقل رفقة العائلة إلى العاصمة واستقرّ بها لمدّة لكنّه لمّا عزم العودة إلى الجذور رفض ابنه الرّجوع معه قائلا: «أنا ما نرجعش للدوّار»، يضعنا هذا المشهد أمام حقيقة المدينة خارج المفهوم الجمالي الذي يُكرّسها كقيمة لها أبعادها التي تتحقق من خلالها ذهنيا ومن ثمة تخييليا، إذ رَفْضُ العودة إلى «الدوّار» لا يعتبر انتصارا للمدينة ولكن يمثل عُمق الجهل بها، فإدراك الابن للمدينة يعتبر إدراكا نزقيا، وهو ما يقدّمه الفيلم كعلامة على مدى الوعي بالمدينة.
ولعلّ ما يُؤكد هذه الأطروحة هو وضع المدينة في رواية «ريح الجنوب» لعبد الحميد بن هدوقة، حيث «نفيسة» تمثلت قيم المدينة لا من حيث هي حركة ووعي يؤسّسان لثقافة ونظام الحي والشارع وعناصر الحداثة، ولكن من خلال مواجهة القرية بالمدينة، أي صراعية البدو والحضر، وهو ما لم يجعل للمدينة في الرّواية السالفة الذِكر ذلك الثقل المعرفي والوجودي داخل أقبية النصّ، وهو خلاف ما قامت عليه الرّواية المشرقية وخصوصا عند «نجيب محفوظ» حينما قدّم الحارة فكانت القاهرة هي التي تنبثق في وعي المُتلقي.
منذ أسبوع وفي خلال نقاش حول الرّواية والمكان في أدبنا الجزائري مع القاص والكاتب الصحفي بشير عمري، ذَكَرَ لي بأنّني في روايتي «وعلى الرمل تبكي الرياح» حاصرت المكان وصفا، إلاّ أنّني لم أتمكن من استنطاقه، أي حوار علاماته، وهذا حسبه يعود إلى عدم توّفر دراسات حول سوسيولوجبا المكان، وذكر عنوان «عبقرية المكان» لجمال حمدان، وحينها تيقنت من أنّ الرّوائي المصري يقتحم المكان لتوظيفه فنيًا مُتسلحا بمثل تلك القراءات المعرفية والجمالية حول المكان، وهو ما نفتقده كركيزة معرفية حول المدينة تتيح لنا بعض الفُسح الإنارية لقراءة المدينة كمكان يمكن استلهامه تخييليا وإعادة إنتاجه روائيا.
يبدو لي أنّ رواية «الزلزال» للطاهر وطار قدّمت ما يشبه الحفر السوسيولوجي للمدينة من خلال حركة الشّخصية الرّئيسة «بولرواح» في المكان قسنطينة، فمن خلال العودة إلى قسنطينة بعد غياب يستكشف عملية التحوّل المهولة التي أصابت بنيات المدينة، وبالتالي عمل الطاهر وطار على تتبع حركة المكان من خلال تحوّلاته البنيوية، وهو ما أتاح له القبض على ناصية تقديم المكان كهوية مدينية تسمح للمُتلقي بإعادة اكتشاف المدينة ذاتها، وهو ما لمسته وأنا أعيد قراءة رواية «وداعا بشار» للفرنسية «راشيل خان»، بحيث قوة المكان في رأيي تظهر من خلال قدرة الرّوائي على منح أفق التلقي فرصة لاستحضار المكان في مرحلة أولى ثم إعادة اكتشافه في مرحلة ثانية، فالمتخيل يوسّع من مساحة إدراك المكان، ومنه تعتمد الأمم الراقية على إعادة ترتيب أوراق مدنها وأمكنتها، والتاريخ يذكر أنّ برلين أُعيد بناءها من خلال الصّور الفوتوغرافية، أي من خلال المتخيّل.
لا أظن أنّ علاقة الرّوائيين الجزائريين بالمدينة سيّئة وحذرة ومرتبكة لأنّهم من أصول ريفية، ولكن الحافز الذي يفتح أمامهم الأفق المديني غائب، وهو يتمثل في المكوّن المعرفي، أي المدينة كنص سوسيولوجي يجعلها متاحة كعادات وتقاليد وحِراك اجتماعي ناهض ومؤثر، وأيضا كنص أنثربولوجي يدرسها كعلامات ويفككها كأنظمة ورموز.

اليامين بن تومي/ كاتب وباحث - جامعة سطيف
تجربة كتابة المدينة في الرّواية الجزائرية قليلة جدا
أتصور أنّ هذه المسألة التي نطرحها للنقاش «الرواية والمدينة» تُعيد علينا بحث الموضوع من الأساس، حيث نُعيد تصويب طرح الإشكالية؛ هل نملك ما نسميه بالمدينة أصلا؟ لأنّ معرفة الأسس يجعلنا نتعرف على جميع المسالك الأخرى التي نناقشها. وبالتالي فالمداخل التأسيسية التي نبحث من خلالها المسألة ذات مدخلين: تاريخي وسوسيولوجي، ذلك أنّ هذا الكيان الذي نَصِفه «بالمدينة» لهو متعدّد ومتنوّع، بدأت ترتسم ملامحه في بعض النصوص الجزائرية منها نص «الزلزال» للطاهر وطار.
هذا الإشكال العميق سيجعلنا نطرح سؤالا عميقا، هل الرّواية الجزائرية ذات منشأ مديني أو ريفي؟ أعتقد أنّ الرّواية الجزائرية بلسانيها العربي والفرنسي مُضَمَّخَة بالطِّين، وأنّنا كجزائريين لم تتفتح تجربتنا الوجودية إلاّ على الريف .
وعليه لا يمكن للكاتب الذي نشأ داخل محضن ريفي أساسا أن يتحدث عن المدينة، لأنّها شكل طارئٌ في بنية المتخيل الجزائري، لأنّ المدينة جزء من نظام الأزمنة الحديثة، أي جزء من العالم الجديد.
والجزائري لم ينخرط في حتمية هذا العالم إلاّ بعد أن تشكَّل وعيه بالعالم المادي، فالمدينة التي نتحدث عنها ليس بنيانا ماديا فحسب، فهي كذلك المادّة الثقافية لهذا العالم الحديث الذي لم نكن جزءا منه إلاّ لحظة الانفصالي الرهيب عن قيم العالم الريفي، حيث تُشكِّل أحداث 1988 تعبيرا جذريا عن الانسلاخ الذي بات يشعر به الجزائري لذلك.
 وبأمانة أتصوّر أنّ أهم تجربة تحدثت عن ظاهرة المدينة هي تجربة الكاتب «بشير مفتى» لأنّ الكاتب ليس طارئا على المدينة، فقد تكوّن داخلها، وتبنين ضمن مخاضاتها العسيرة ورواياته مشبعة بتفاصيل المدينة كفضاء ثقافي، وجميع إشكالياته، فحينما نتكلم عن تجربة الرّواية في المدينة لا يجب أن نبتعد عن المعاناة الوجودية للكاتب نفسه، لأنّ هناك فرق بين من يتكلم عن المدينة من الخارج ومن ينجزها من الداخل، ويتحدث عن تفاصيلها العميقة من يدرس بجد حالات التفسخ والإزداوجية التي تعانيها مدننا، لذلك نتلمس داخل التجربة الروائية لبشير مفتي معاناة الكاتب الذي يبحث عن تعويم نموذج قيمي للمدينة ككيان له خصوصية ثقافية، وما يشتغل عليه هذا الفضاء بشكل عام من انفتاح على قيم الفردانية والحرية والموسيقى.
أي أنّ «تجربة بشير مفتي» في نصوصه المختلفة: «بخور السراب « و»دمية النار» و»غرفة الذكريات» و»أشباح المدينة المقتولة» تشكل بعمق أنواعا مختلفة لأشكال الصخب داخل هذا الفضاء، فبشير يكتب عن عَرَقِ المدينة، عن جنونها وحالات الغليان داخلها، عن تفاصيلها ومُمكنات البوح والأصوات المقموعة داخل هذا الفضاء، يكتب عن أشكال الحرمان والفقر، والمعاناة التي تتفصد في جوانبها، هنا فقط تصبح هذه الكتابة نوعا من إعادة إنتاج وعي ثقافي أساسه الحرية، إنّه يكتب عن إيطيقا المدينة.
وعليه فإنّ تجربة كتابة المدينة في الرّواية الجزائرية قليلة جدا ذلك أنّ معظم الكُتاب في الجزائر هم من الأرياف أساسا، هذا لا يعنى إطلاق الحُكم، لأنّنا مجتمع حديث نسبيا ولم يرتبط بعد بهذا الشكل الحديث ارتباطا يمكن أن يفتح وعي الكتابة على المدينة، ما تزال الأرياف هي الذاكرة والنوستالجيا أو لنقل هي طفولة الكتابة عند الجزائري. وهذا ما يعكس حتى النظام البلاغي الروائي الذي يعطينا مؤشرا مُهمًا أنّ الرّواية الجزائرية ما تزال ريفية، ذلك أنّ نظام العلاقات البلاغية يعتمد بشكل جذري على العلاقات المادية التي تقوم بين المشبهات، وليس هناك أدنى احتفاء بعناصر العلامة التي تعد النظام السيميائي الّذي يحكم طبيعة الكتابة المدينية. هذا التفصيل يعكس طبيعة العلاقة الأمومية بين الكاتب والفضاء الريفي بشكل عام الذي ما زال يحافظ على سلطته في الرّواية الجزائرية. والّذي يقوم على البساطة والتشبيه والعلاقات المباشرة، في حين أنّ الكتابة عن المدينة تعتمد نظاما رمزيا وإشاريا غاية في التعقيد.

عبد القادر العربي/ باحث وناقد -جامعة المسيلة
إشكالية التمدن لم تستوفِ حقها في النصّ الروائي الجزائري
المدينة هي الصورة التي نأخذها من جغرافيا الواقع في حدوده المكانية المتنوعة في الرّواية، هذه الحدود ذات تفاعل نفسي وفني واجتماعي وسياسي واقتصادي لها تأثير على المبدع الذي يسرد يوميات الشخصية بالمدينة، هي ليست غائبة تماما عن النصّ السردي وتيمة المدينة ولكنّها ربطت بين طابع المدينة في صورته القديمة القريبة من القرية والمدينة في تطورها الحديث، ولأنّ الرّوائي يَحِنُّ دائما إلى المدينة في تشكلها المُرتبط بالماضي، تجلّت لنا حيثيات الأحداث بمفاهيمية الشخصية القروية التي تأتي من أعماق المشهد البدوي، وعليه فالمدينة حاضرة بطابعها الجغرافي والفني الّذي يقدمه الرّوائي. والمكتبة الجزائرية لها ما تقوله في هذا السياق، لدينا رواية «الزلزال» للراحل «الطاهر وطار»، «ذاكرة الجسد» لأحلام مستغانمي، كِلامها اختار قسنطينة، كذلك رواية «دمية تيراز» لميلس بوحفص، وحضور مدينة «البيض»، «الخابية» لجميلة طلباوي وحضور مدينة بشار بطابعها القديم والحديث. كذلك رواية «نصف وجهي المحروق» للروائي عبد القادر شرابة التي تدور أحداثها بمدينة بوسعادة، ورواية» عطر الدهشة» للروائي محمد الأمين بن الربيع وحضور مدينتي بوسعادة وقسنطينة.
هي نماذج حاولت أن تعكس الطابع المَدني بسلبياته وايجابياته بحكم آلية وجود الفِكر السردي الذي يقتبسه من الذاكرة التي بقيت ماثلة في صورة الشخصية الريفية، بالإضافة إلى أنّه لا يمكننا فصل الطابع القروي عن شخصية المدينة، من هنا أصبحت الفكرة المسيطرة على الدراسة هي غياب أجواء المدينة في حين نراها حاضرة رغم تغليب الغياب الذي يثبت الحضور في صورة تفاعل قد يصل إليه المُتلقي للنصّ في دهشة السؤال وتجلي المعنى الذي يخرج به من كلّ قراءة يحتفظ من خلالها بدلالات مكانية تجعله يفكر في زيارة المدينة، هذه التيمة التي تخضع للتطوّر الزمني برموز فكرية وأبعاد متداخلة ومُعقدة في الكثير من الحالات. ولهذا لم نطلع على نص روائي يختص تماما بتوظيف فضاء المدينة الحديث بكلّ تجلياته الفكرية والإبداعية ومتغيراته الأنثروبولوجية، ربّما لأنّ هذا العمل يحتاج إلى كفاءة فنية تحيل هذا الفضاء إلى نص إبداعي ذي رؤى جمالية لأنّ الروائي يعيش فردانية وانعكاس على الذّات أكثر خاصّة مع روايات الأدب الإستعجالي وخاصية المقارنة السطحية للمدينة، بل من المهم أن تتجه الأجزاء لتكوّن كلاً أو رمزًا وعليه تبقى إشكالية التمدن لم تستوفِ حقها في النصّ الروائي الجزائري كما هو الحال في المراكز الحضارية الكبرى «القاهرة، بغداد، بيروت، دمشق». نريد من مبدعينا ومبدعاتنا أن يلتفتوا إلى تيمة المدينة الحضارية بكلّ مكوناتها ونقرأ نصا جديرا بتسجيل الشخصية المدينية ونقله للآخر في الأطر الحداثية.

 

الرجوع إلى الأعلى