الحلقة المفقودة بين المجهودات الفردية و إستراتيجية المؤسسات
كيف هو واقع الترجمة العلمية في الجزائر؟ ولماذا تعاني من الندرة أو القِلة، ما الّذي يجعلها لا تصل إلى المأمول منها والمرجو؟ هل يرجع هذا إلى ضعف المؤسسات الموجودة التي لا تملك إستراتيجية واضحة لتشجيع الترجمة العلمية؟ أو إلى قلة المترجمين العلميين في الجزائر، أم إلى عزوفهم عن الاشتغال في هذا المجال لسبب من الأسباب؟. أيضا هل يمكن القول أنّ الترجمة العلمية/العجلة الأكبر لتحقيق التقدم والتنوع التكنولوجي، مُتأخرة ومتذبذبة مقارنة بالترجمة الأدبية التي تهتم بترجمة الأدب.  هذه الأسئلة وغيرها يطرحها "كراس الثقافة" للنقاش، ضمن ملف هذا العدد "الترجمة العلمية في الجزائر"، مع عدد من الباحثين الأكاديميين الجزائريين المشتغلين في حقل الترجمة، وبعض عمداء كُليات الآداب واللغات والترجمة. ففي الوقت الّذي يرى فيه الدكتور تحريشي، أنّ الترجمة العلمية في الجزائر ضرورة حتمية لنقل التكنولوجيا وتحقيق التطور العلمي لدى الباحثين والمشتغلين بالعلوم، ووجودها يسهم في رقي المؤسسات العلمية والتكنولوجيا على مستوى نظيراتها في العالم.
إستطلاع/ نوّارة لحـــرش
يرى الدكتور داود أنّها لم تعرف تطورا ملموسًا وذلك لمختلف الأسباب، على الرغم مِمَا بذلته الدولة من مجهودات ومِمَا وفرته من موارد مادية وبشرية. في حين يرى الدكتور جديدي أنّ الجهود الفردية على قلّتها لا تجد صدى بسبب عِدة عوامل وعراقيل تقف حجرة عثرة في سبيل تفعيل الترجمة العلمية في بيئتنا الأكاديمية والثقافية. من جانبه الدكتور جلولي، يقول أنّ معظم من يقوم بالترجمة اليوم حتى في مجال الآداب والعلوم الإنسانية هم أناس لا علاقة لهم بالترجمة كتخصص وإنّما هُم هواة يتقنون اللغتين اللّغة الأم مصدر الترجمة واللّغة الهدف التي يُترجم لها أو العكس. أما الدكتور بويجرة فيرى أنّ الفعل الترجمي في الجزائر لا يخضع للهواية أو للرغبة بل تمليه حاجات أخرى قد تكون أيديولوجية أو مادية.

محمّد جديدي/أستاذ وباحث في الفلسفة والترجمة -جامعة قسنطينة2 عبد الحميد مهري
الترجمة العلمية هي أضعف حلقة في الترجمة عندنا على شحّها
في البدء لا بدّ من استهلال يُشرّع لنا القول بضرورة الترجمة -بجميع أنواعها الفلسفية والأدبية، القانونية والعلمية- وحاجتنا الماسة لها اليوم على اعتبار انقسام العالم إلى متقدم ومتأخر، وليس هناك من معيار في هذا التمييز سوى العِلم بِمَا هو مُنجز في الاكتشاف والاختراع وبما هو منتج علمي وتقني نظريًا وتطبيقيًا. وإذا كُنا بحكم ضعفنا الاقتصادي لا نُنتج حاجتنا من الطعام فنستورده كذلك وبحكم تأخرّنا الفكري والعلمي والتقني، لا مناص لنا من ترجمة المنجز العلمي للعالم المُتقدم. لكن وعلى الرغم من هذه الضرورة وعلى الرغم أيضا من إنشاء المُجمع الجزائري للغة العربية سنة 1986ـ والّذي من بين أهدافه "ترجمة أو تعريب المصطلحات المتداولة في العالم المعاصر"ـ إلاّ أنّ آثاره لا تبرز ميدانيًا فضلا عن هنّات أشار إليها الكاتب والمترجم السعيد بوطاجين في كتابه "الترجمة والمصطلح: دراسة في إشكالية ترجمة المصطلح النقدي الجديد" الصادر عام 2009. بيد أنّ الغرض العلمي للعمل الترجمي لا يحظى بوعي كبير على الرغم من أهميته لدى نخبنا الأكاديمية والسياسية بسبب صراعات إيديولوجية طغت على مصلحة منظومتنا التعليمية منذ أولى سنوات الاستقلال ولا يعرف جدية وفاعلية لدى صُناع القرار، إذ لو كان كذلك لاتضحت إستراتيجيتها ميدانيًا كما هو الشأن لدى مجتمعات ومع ما لها من تقدم نسبي إلاّ أنّها تحاول إيلاء مسألة الترجمة العلمية خاصة عناية قصوى، أقصد بعض الدول الأوروبية والآسيوية.
للأسف يتضح هذا في غياب خطة إستشرافية لوضع هياكل وهيئات أكاديمية وعلميةـ أقصد مراكز ومؤسسات عمومية للترجمة على شاكلة ما هو موجود في بعض الدول العربية وغير العربية، تتكفل بالعمل الترجمي العلمي بحيث يشكل إطارا مرجعيًا يُوفق بين جهود المُترجمين الجزائريين في المجالات العلمية ويعمل على موازناتها وتحكيمها وأيضا على مواءمتها وتقريبها من جهود مترجمين عرب كان لهم السبق في القيام بتجارب رائدة ومشجّعة على النهل من علوم الغرب المتقدم؛ لاسيما في فروع بعينها كالطب وعلوم الأحياء. وما تجارب سوريا والأردن إلاّ خير دليل، بينما لا تزال الجهود الفردية على قلّتها عندنا لا تجد صدى بسبب عِدة عوامل وعراقيل تقف حجرة عثرة في سبيل تفعيل الترجمة العلمية في بيئتنا الأكاديمية والثقافية. وربّما أهم العراقيل غياب إرادة سياسية حقيقية في نقل العلوم والتكنولوجيا الغربية من مختلف لغاتها ولاسيما الإنجليزية والألمانية والفرنسية إلى لغتنا العربية ويعود في تصوري هذا الغياب لإرادة سياسية إلى صراع إيديولوجي لغوي مُبطن خفي، يقف ووقف وراء عمليات عِدة للتعريب والنتيجة نعيشها اليوم في تعليم ــ كالطب مثلاــ يتأرجح فيه الطالب بين مسار يُفرض عليه بلغتين وقس على ذلك باقي الفروع العلمية والتقنية الأخرى، الشيء الّذي أفرز أو أنتج عقدة نقص بارزة لدى نخبتنا العلمية تجاه لغتها العربية ورفضها حتى الاعتراف بإمكانية مثلا تدريس العلوم أو القيام بتجارب بحثية باللّغة العربية، إذ نادرا ما نجد طبيبا أو مهندسا أو باحثا في العلوم الدقيقة أو علوم المادة يعبّر عن آرائه بلغة عربية بخلاف ما هو موجود عند الباحثين في دول عربية أخرى من مزدوجي اللّغة، حيث يعبرون عن أفكارهم بلغة عربية فصيحة على الرغم من معرفتهم الجيّدة باللّغة الأجنبية. هذين فيما أعتقد، أهم عاملين متسببين في ضعف وتراجع الترجمة العلمية عندنا أما ما قد يكون من عوامل وصعوبات تقنية أخرى، وهي موجودة بالتأكيد، سواء في إمكانية نحت المصطلح العربيّ المُقابل للمصطلح الأجنبي أو تعقّد هذا الأخير بما يستوجب إيجاد بديل عربي دقيق ومُلائم في حال تعريبه وتقريبه مِمَا قد نجده لدى مترجمين عرب آخرين. لكن كلّ هذا أظن سيجد حلولا له يتوافق عليها المختصون في الترجمة العلمية، إذا كانوا فعلا متمكّنين من اللغات من جهة ومن الثقافة العلمية الواسعة وليس في مجال تخصصهم فقط.
إذن إذا ما توافرت الإرادة السياسية ضمن نظرة استشرافية تتعلق بتطوير البحث والتنمية وإحداث إصلاح عميق في المنظومة التربوية، عبر إنشاء هيئات وأجهزة تحضُن جهود الباحثين المختصين في العلوم والفاعلين في ميدان الترجمة العلمية، فمن الأكيد أنّ هذه الأخيرة ستنتعش وسيكون لذلك أثر إيجابي على البحث وعلى التعليم بصورة عامة.

محمّد تحريشي/كاتب وناقد وعميد كلية الآداب واللغات بجامعة بشار
تكاد تكون الترجمة العلمية في الجزائر مجهودا فرديا
جاء في كتابي أدوات النص: "إنّ الترجمة فعلٌ حضاري يعكس تلاقحاً ثقافياً بين نمطين من المستويات الفكرية للنشاط الإنساني، ويعكس أيضاً رغبة أكيدة للاستفادة من التجارب الإنسانية ومحاولة نقلها إلى اللّغة الأم للمجتمع من دون المساس بروح النص، وفي الوقت نفسه مُراعاة خصوصية اللّغة المنقول إليها النص.‏ وتعدّ الترجمة أيضاً عملية نقل المدلولات من لغة إلى أخرى، إنّها عملية عبور للمفاهيم والأفكار بوساطة الدوال الخاصة باللّغة المنقول إليها. ويكشف هذا الفعل عن عوامل تحفيزية تنبع من عدم استقلالية الثقافات والتي تقوم على التفاعل وتبادل التأثير لإثراء التجربة الإنسانية. فالحضارات تُـبنى بالتراكم".‏
الترجمة العلمية في الجزائر ضرورة حتمية لنقل التكنولوجيا وتحقيق التطور العلمي لدى الباحثين والمشتغلين بالعلوم، ويسهم وجود هذه الترجمة في رقي المؤسسات العلمية والتكنولوجيا على مستوى نظيراتها في العالم، وتردم المسافة أو الهوة بين الجزائر والدول المتقدمة. إنّ الحديث عن هذا الموضوع يدفعنا إلى الإسقاط التاريخي ونكون مجبرين إلى الإشارة إلى واقع الترجمة في العصر العباسي هذا النبراس الّذي يدق في عالم النسيان، والشيء بالشيء يُذكر، فإنّ رئيس دولة عربي، رحمه الله، كان يفرض على كلّ طالب دكتوراه مستفيد من منحة إلى الخارج، ضرورة ترجمة رسالته للدكتوراه وكتابين مرجعين في تخصصه إلى العربية؛ وبذلك، وفي مدة قصيرة، استطاع هذا البلد أن يُحقق قفزة نوعية في العلوم والتكنولوجيا.
تكاد تكون الترجمة العلمية في الجزائر مجهودا فرديا ومغامرة غير مضمونة النتائج، فالتراكمات المعيشة والخبرات المكتسبة جعلت مشروع التعريب بعمومه، وتعريب العلوم يتقدم خطوة ويتراجع خطوتين، واقتصر في أحايين قصيرة على ترجمات لمؤلفات ليست جديدة في ميدانها وربّما قد تكون متجاوزة معرفيا وعلميًا. ثمّ إنّ الأستاذ أو الباحث يكون قد تمكن من اللّغة الأجنبية التي تسهل عليه الوصول إلى المعلومة مباشرة؛ خاصة وأنّ بعض الترجمات لم تُوفق في تعريب المحتوى العلمي، أو أنّها وجدت نفسها أمام ترجمات عربية اعتمدت مدونات إنجليزية جعلت المقابل والمكافئ اللغوي يتعدّد.
إنّ نهاية السبعينات دفعت بالكثير من المعربين في التخصصات العلمية إلى تلقي العلوم باللّغة الفرنسية، ومن ثمّ أصبحوا مزدوجي اللّغة، في حين كان الفريق الآخر الّذي يتلقى العلوم باللّغة الفرنسية أحادي اللّغة. ومع ذلك واجه الطلبة في الجامعة الوضع بردة فعل أفرزت حركة تعريب واسعة؛ فأرسلت وزارة التعليم العالي بعثات أساتذة إلى بلدان عربية، ولكن مع مرور الوقت لم تعد هناك حاجة للترجمة العلمية مع تطور تكنولوجيات الإعلام والاتصال التي قصرت المسافة بين الباحثين في الجزائر ومصدر المعلومة.
إنّ الترجمة العلمية هي إرادة سياسية وسلوك منهجي تؤطره ترسانة من القوانين لتجسيد هذه السياسة نحو نقل تكنولوجي سلس وسهل يسهم فيه كلّ الشركاء لتبادل الخبرات العلمية للسيطرة على التفاوت العلمي بين القدرات العلمية في الجزائر، ولا يمكن ذلك إلاّ باكتساب مهارات علمية جديدة، والتي تختصر الوقت والجهد والمال لتحقيق نهضة علمية وتطور تكنولوجي.
تخضع الترجمة العلمية لمتطلبات السوق، ولابدّ لها من سياسة تسويقية وترويج ودعاية للكشف عن خصوصية هذه الترجمة، وبذلك تسهم في وجود متلقٍ يتعاطى مع هذا المنتوج ماديًا ومعنويًا وبذلك تكتمل السلسلة بين الناقل والمنقول له. إنّ الترجمة العلمية تـتأرحج بين الجانب التجاري والجانب العلمي وقِلة المترجمين في الجزائر، ونحن إذ نتحدث عن هذا الموضوع نشير إلى أنّ هناك الكثير من البحوث العلمية والدراسات الأكاديمية الجزائرية أُنجزت باللّغة الأجنبية تحتاج إلى ترجمة إلى اللّغة العربية، في حين يبقى السؤال مطروحًا هل تعتمد الجامعة الجزائرية إستراتيجية معينة في مجال الترجمة العلمية أو أنّها تعتمد على الاقتراض من اللّغة الفرنسية حصرا.

محمّد داود/ كاتب وباحث أكاديمي. معهد الترجمة -جامعة وهران
المؤسسات لا تملك إستراتيجية واضحة لتشجيع الترجمة العلمية
لعله من البديهي القول أنّ الترجمة هي من العوامل المُساعدة والمُحفزة على النهضة العلمية والحضارية للدول والأمم، وقد أدرك خُلفاء الفترة العباسية هذا البُعد الجوهري وأسسوا بيت الحكمة لترجمة العلوم والفلسفة اليونانية، ووضعوها تحت إشراف خيرة المترجمين ممن انخرطوا في هذا المشروع الكبير. وكان من نتائج هذه الجهود أن تطورت العلوم في العالم العربيّ والإسلاميّ في تلك الفترة، كما أسهمت هذه الترجمات في نقل تلك المعارف إلى أوروبا، مِمَا ساعد هذه القارة على النهوض وإقامة دول على أُسس قوية.
وعندما نتحدث عن بلادنا، نجد أنّ الترجمة لم تعرف تطورا ملموسًا وذلك لمختلف الأسباب، على الرغم مِمَا بذلته الدولة من مجهودات ومِمَا وفرته من موارد مادية وبشرية. وتكفينا الإشارة إلى تأسيس المدرسة العُليا للترجمة بالعاصمة سنة 1963، أي منذ الحصول على الاستقلال، كما تمّ، فيما بعد، إنشاء عديد الأقسام والمعاهد التي تقوم بتدريس الترجمة، إلى جانب المجلس الأعلى للغة العربية الّذي يُركز في بعض جهوده على الترجمة بمختلف أنواعها. وقد اجتهدت السلطات السياسية المتعاقبة على تعميم اللّغة العربية، وكان ذلك منذ بداية السبعينات ورافقته عملية تعريب العلوم الاجتماعية والإنسانية بالجامعة مع مطلع الثمانينات، وبسبب قِلة المراجع وغياب الكفاءات العلمية المعربة كان ذلك صعبا على الأساتذة والطلبة، وأعتقد أنّنا تجاوزنا ذلك حاليًا. ومن المعلوم أيضا أنّ الجامعة الجزائرية قد ركزت على العلوم الإنسانية والاجتماعية دون الاهتمام بالعلوم الدقيقة والعلوم الطبية والتكنولوجيات، وحتى العلوم الاقتصادية والتجارية والتسيير تعاني من هذا النقص، بسبب ازدواجية التعليم في الجزائر. فالطلبة يتلقون الدروس في كلّ المراحل باللّغة العربية وفي جميع المواد، ويضطرون، لمَا يريدون التخصص في العلوم الصلبة، إلى الدراسة والتعلم باللّغة الفرنسية. وهذه مشكلة أخرى تواجه عالم الترجمة التي نجد المشتغلين بها وعليها يُركزون على ترجمة الكُتب الأدبية والفلسفية وفي التاريخ والاجتماع، لكونها لا تتطلب تمكنًا كبيرا في هذه المجالات العلمية، إذ يكفي أن يكون المُشتغل على الترجمة مُلِمًا بلغة ثانية أو ثالثة، ومُتمكنًا من أسرار تلك اللّغة ومُطلعًا على أهم مُصطلحات التخصص الّذي ينوي الاشتغال عليه ليكون له ما يريد. وبطبيعة الحال، قد يلجأ في عمله هذا إلى قواميس المصطلحات ومعاجم اللّغة لكي يتقن ما يقوم به من نقل لمادة علمية من لغة ما إلى اللّغة العربية. وبالعودة إلى الترجمة العلمية، نجد أنّ كلّ البلدان العربية ومنها الجزائر تعاني من نقص فادح في ترجمة العلوم الصلبة، وأنّ المؤسسات الموجودة في العالم العربيّ سواء في لبنان أو في قطر أو في مصر أو في الإمارات لا تملك إستراتيجية واضحة المعالم لتشجيع الترجمة العلمية إلى اللّغة العربية، لكون هذا النوع من الترجمة يتميز بصعوبة كبيرة والخوض فيه ليس في متناول أي كان، لأنّه يتطلب إلى جانب امتلاك اللغتين تخصصًا في الميدان المُراد الترجمة منه وإليه. ولكي يتحقق ذلك لا بدّ من توفر الإرادة السياسية التي تقوم بتشجيع ترجمة العلوم الصلبة، وتوفر الإرادة الفردية للمترجمين، ولكي تستجيب الترجمة إلى طموحات ما تصبو إليه الدولة الجزائرية بمؤسساتها المختلفة ولطموحات المجتمع الجزائري الراغب في النهضة والتحضر والعصرنة، أي إقامة مؤسسات وطنية تتحكم في آليات الترجمة وفي توحيد المصطلح.

العيد جلولي/ كاتب وناقد وعميد كلية الآداب واللغات بجامعة ورقلة
جُل ما يُترجم في الجزائر في المجال العلمي لا يُشكل ظاهرة
المتتبع لواقع الترجمة العلمية في الجزائر يُواجهه هذا الفراغ الكبير في نقص المعلومات ذلك أنّها ترجمة لها خصوصياتها ولها مختصوها، وأتذكر في ندوة عُقدت على هامش الصالون الدولي السابع عشر للكِتاب بالعاصمة تحدث المتدخلون عن الفراغ المُحزن للترجمة العلمية في الجزائر مُقارنة بالترجمة في ميدان العلوم الإنسانية بصفة عامة، فجل ما يُترجم في الجزائر في المجال العلمي من اللّغة العربية إلى لغات أخرى أو من لغات أخرى إلى العربية لا يُشكل ظاهرة تستحق الاهتمام، فالعلماء في الجزائر من أكاديميين وباحثين في المجال العلمي لا يقومون بالترجمة وإنّما معظمهم يكتبون بحوثهم مباشرة باللّغة الفرنسية وقليل منهم يكتب باللّغة الإنجليزية والأقل يكتب باللّغة العربية وأما المتخصص في مجال الترجمة فهو إما مُنشغل بالتدريس الأكاديمي وكتابة البحوث حول الترجمة كعِلم، وإما يحترف الترجمة كمهنة من خلال فتح مكتب رسمي للترجمة كالموثق والمحامي والمحضر القضائي ولا يخرج في عمله عن ترجمة الوثائق والمُستندات الرسمية والعقود والمعاهدات ولا يلتفت إلى الترجمة العلمية ولا الأدبية، ومعظم من يقوم بالترجمة اليوم حتى في مجال الآداب والعلوم الإنسانية هم أناس لا علاقة لهم بالترجمة كتخصص وإنّما هُم هواة يتقنون اللغتين اللّغة الأم مصدر الترجمة واللّغة الهدف التي يُترجم لها أو العكس.
ومن المؤسسات التي تتولى تكوين المترجمين والتراجمة والترجمة في الجزائر المعهد العالي للترجمة الّذي يتخذ من الجزائر مقرا له منذ العام 2003 وقد حدد أهدافه من خلال موقعه أنّه يضع تحت تصرف من يطلب الخدمة، فريقًا من المترجمين للقيام بترجمة كلّ أنواع الوثائق (العلمية والتقنية والأدبية وغيرها). وتعكف شعبة إنتاج الترجمة في هذا المعهد منذ إنشائها على تلقي طلبات العُملاء والمهتمين بإنجاز ترجمات لمؤلفاتهم أو وثائقهم المادية أو الإلكترونية في المجالات العامة أو المتخصصة، وتدير هذا المعهد الدكتورة إنعام بيوض التي صرحت أكثر من مرّة في الصحافة الوطنية إن "حجم النقص الموجود لدينا في الترجمة هو بحجم التخلف والفقر المعرفي اللذين نعيشهما في العالم العربي وأنّنا بحاجة إلى ترجمة كلّ شيء لأنّنا لا نملك أي شيء، وهنا تكمن ضرورة الاهتمام بالترجمة وإعطائها مكانة محورية في حياتنا".
كما يملك المعهد -من خلال موقعه- فريقًا من المترجمين التحريريين وهم على دراية واسعة بالمصطلحات التقنية والإلكترونية، ذلك إلى جانب خبرتهم الطويلة في مجال الترجمة العلمية، الأمر الّذي يجعل مخرجاتهم الترجمية في الميدان التقني والتكنولوجي، من كُتب متخصصة وكتيبات تشغيلية للأجهزة والأنظمة التقنية والإلكترونية، ومواصفات المنتجات، وإرشادات التركيب عالية الجودة.
كما أنّ وحدات بحث كثيرة في مجال الترجمة مُعتمدة من قِبل وزارة التعليم العالي مثل وحدة البحث حول الترجمة والمصطلحية التابع لمركز البحث في الأنثروبولوجيا الاجتماعية والثقافية ومن مهامه ترجمة الإنتاج الوطني الثقافي والعلمي المكتوب باللغات العربية، الفرنسية والامازيغية إلى لغات أجنبية، ومخبر اللّغة والأدب الإنكليزي والترجمة وإنتاج المعرفة بكلية الآداب واللغات بجامعة ورقلة.
كما ساهم المجلس الأعلى للغة العربية في الجزائر في هذا المجال فترجم العديد من الكُتب العلمية في كلّ ميادين العلوم كما يقوم بإصدار مجلة "معالم" المتخصصة في الترجمة وهي تُعنى بترجمة مستجدات الفكر العالمي ودراسات الترجمة.
كما تُعقد اليوم مُلتقيات كثيرة تُـناقش وتُحلل مشكلات الترجمة المتخصصة في الجزائر منها الملتقى الّذي عُقد في شهر ديسمبر الماضي بجامعة خميس مليانة وحمل عنوان "الترجمة المُتخصصة في الجزائر من الجامعة إلى سوق الترجمة".

محمّد بشير بويجرة/ كاتب وباحث أكاديمي –جامعة وهران
الترجمة العلمية تعتبر من أصعب الترجمات
بدءًا، يجب الإقرار بأنّ الفعل الترجمي له أهمية قصوى في الحوار الحضاري العلمي والفكري والأدبي عبر مختلف الأمم واللغات. كما يجب الإشارة إلى أنّ هذا الفعل، مثل غيره من الإبداعات الإنسانية، يخضع لآليات ولمعطيات تشجع عليه وتوفر له الكثير من الحظوظ للازدهار، أو تجعل أمامه أرتالا من الإكراهات والمعيقات. ولعل من أبرز هذه الآليات هو المناخ الفكري أو العلمي السائد في العصر، مِمَا نجد أنّ ترجمة العلوم الفلسفية والمنطق في العهود الإسلامية مزدهرة لأنّ المناخ السائد آنذاك هو فهم العلاقة بين الفكر اليوناني وحضارته، وبخاصة آلية المنطق التي تحكمه، وبين توهج الفكر الإسلامي وامتداداته.
أمّا الملاحظة اللافتة للنظر في الجزائر حول الفعل الترجمي العلمي فتختصر في القِلة وفي الشح إذا لم نقل اليبس، وأسباب ذلك، وفق منظوري الخاص، يمكن إجمالها في بعض النقاط، منها أنّ العصر الّذي نعيشه تهيمن عليه الرّوح العلمية والتكنولية التي تتجلى في كثرة منتوجاتها من طرف العالم التكنولوجي المُتقدم. هذه الرّوح تتطلب الدقة والضبط إلى الدرجات القصوى في التفكير وفي التدبير وفي الصبر والمداومة. وأرى بأنّ الإنسان الجزائري المُعاصر بات مغمورًا تحت تأثير تسارع وتيرة الحياة الجديدة المُعاصرة التي لم يكن يعرفها.
هذه المنتوجات غمرت حياة الإنسان المعاصر، وبخاصة الإنسان الجزائري، الّذي كثر استهلاكه لها بنهم وبشغف وبتعجب. ولو حاولنا أن نقف على معالم ذلك منذ 1962 حتى الآن لاحظنا بأنّ الإنسان الجزائري تغلبت عليه النزعة الاستهلاكية السريعة البعيدة عن الصبر وعن التدبر في الأمور الصعبة. فتوفر المنتوج التكنولوجي العالي الجودة، وفق كلّ جنسية، بصورة ملفتة للنظر أدى إلى عدم العناية بالنص المنتج به المادة المستهلكة. أيضا توفر العلوم التكنولوجية، وبخاصة باللّغة الفرنسية، وابتعادها عن اللّغة العربية، في الجامعات الجزائرية، أدى إلى الاهتمام بالنص العلمي المتوفر باللّغة الفرنسية. أيضا انعدام رؤية إستراتيجية للتصنيع العلمي والتكنولوجي باللّغة العربية، لدى مؤسسات الدولة أدى إلى عدم العناية والاهتمام بنقل المعلومة العلمية من لغاتها الأجنبية الأصلية إلى اللّغة العربية، لانعدام الفائدة من وراء ذلك.
الطلبة الجزائريون المتخرجون من الجامعات يتابعون دراستهم العُليا المتخصصة في الخارج، وهي العملية التي لا تتطلب ترجمة إلى اللّغة العربية أو إلى لغات أخرى لأنّ هذا الطالب يجد أمامه كلّ ما يهمه في الموضوع العلمي بلغاته الأصلية. أيضا تنافر وتضاد الفئات المثقفة والعلمية في الجزائر، بحيث نلاحظ عدم انسجام وتنسيق بين المتعاملين باللّغة العربية وباللّغة الفرنسية وباللّغة الإنجليزية، ناهيك عن اللغات الأخرى.
وعليه فإنّ الفعل الترجمي في الجزائر لا يخضع للهواية أو للرغبة بل تمليه حاجات أخرى قد تكون أيديولوجية أو مادية، وأتصور بأنّ مثل هذا العمل يتطلب القناعة والحب والمواظبة. مع التأكيد على أنّ الترجمة العلمية تعتبر من أصعب الترجمات.

 

الرجوع إلى الأعلى