تفرّغتُ للكتابة وعشتُ حياة كريمة من كتبي
مازال رشيد بوجدرة  يكتبُ  ويشاغبُ   ويركضُ ويسهر ويقرأ بلا نظارات ويسافر من قارّة إلى أخرى كبطله القديم الذي يرسل البطاقات من مختلف مدن العالم، لم تنل السنوات من حيويّته، لم تثقل خطواته ولم يتعب.  على باب الثمانين، مازال آخر الآباء المؤسسين للأدب الجزائري في حيويّة الشباب، لا يغادر زمنه الداخلي ولا يشيخ.
حاوره: سليم بوفنداسة
يؤكد رشيد بوجدرة، في هذا الحوار، أنه لن يتخلى عن عفويته وصراحته التي جلبت له الكثير من «العداوات»، كما يصرّ على مجابهة من يصفهم بزناة التاريخ، محتفظا بحقه كمثقّف في «المداخلة الاجتماعية» خارج الإبداع. كما يتحدث عن جوانب من حياته، هو الذي عاش في الكتابة.
كيف ينظر رشيد بوجدرة إلى مسيرته الروائية من علوّ ثمانين سنة؟ هل ثمة ما يزعجك؟ هل أنت نادم على أمر ما، هل أنت راضٍ؟
لم أتغيّر ولم أنزعج ولم أندم على أمر ما، في مسيرتي من علوّ 80 سنة. لكنّني لست راض على ما أبدعته في هذه الفترة الطّويلة. لم أتغير لأنّني مازلت مسكونا بطفولتي التي لم أخرج بعد منها، وهي منبع إبداعاتي.
هل مازلت تذهب إلى الرواية بنفس الشّغف القديم، شغف الإنكار و الرعن...أم أن الشغف يتغيّر بمرور السنوات؟
 نعم مازلت أذهب إلى الرواية والشعر والكتب الهجائيّة (نصوص) وكتابة السيناريو كذلك. إذن، الشغف لم يتغير بمرور السنين. وعوّض شغف السّبعينات (الإنكار، الرعن والحلزون العنيد) شغف أقوى في العشرين سنة الأخيرة، أي سنوات (معركة الزقاق وفوضى الأشياء وليليات امرأة آرق وغيرها من الروايات التي أظّن، أنها فاقت الإنكار والرعن، مثلاً، ولا ننسى رواية ألف وعام من الحنين وهي قراءة حديثة في رواية «ألف ليلة وليلة» وقد اعتبرها أنا شخصيا كالرواية –النموذج- بالنسبّة لأعمالي الأخرى.
مازال الجرح العائلي يغذي رواياتك، ألم تشف بعد هذه الرحلة الطويلة من العلاج بالكتابة؟
أجل ! لازال هذا الجرح العائلي مفتوحاً على مصراعيه وهو أساسيّ بالنسبة لإبداعي، خاصة وأنا اتفق مع التيار الحداثي الذي يركز على «الجرح الرّمزي» الذي ينعش كل مبدع وفي كل مجالات الإبداع من سينما وتشكيلي ومسرح، إلى آخره. لا إبداع ممكن بدون هذا الجرح وأكبر المبدعين في العالم، يعترفون بهذا الطابع.
لم أتغيّر ولم أندم على أمر ما

وقد كتب العالم النفساني الكبير Bruno Bettelheim وهو أمريكي الأصل وكان اختصاصيا في الأمراض العقلية عند الأطفال، في كتاب أصدره تحت عنوان «الجروح الرّمزيّة»: «إن الإبداع يتغذى من جروح المبدع التي تصيبه في سنّ الطفولة، وهي عبارة عن صدمة !». فالكتابة إذن تجعل الكاتب «يتنّفس» فقط. فهي لا تشفيه ولا تداويه. فقط تساعده على الحياة وتبعده عن الانتحار.
في جلساتك الخاصة تتحدثّ عن الأب بنوع من الإعجاب، فهو العصامي الناجح الذي كوّن ثروة من العدم، وهو الوطني الغيور على بلاده، عكس الإدانة الشديدة التي تتضمنها الروايات؟، هل تغيّرت نظرتك إلى الأب مع الزمن؟
صحيح أن أبي كان رجلاً ذكياً ومثقّفاً عصاميّاً، ووطنياً غيوراً وكان –كذلك- إقطاعياً متعصباً وإنسانا أنانياً ورجعياً متطرفاً خاصة بالنسبة للطبقة العاملة التي كانت في خدمته، وبالنسبة لزوجاته الكثيرات وقد عاملهن بالعنف والكراهية والاحتقار.
لذا فنظرتي لم تتغيّر وأصبح أبي نموذج الرجل الجزائري الحامل ذهنية رجعيّة ومتحجّرة، مثلما نراه اليوم من خلال تصرفات بعض الرجال مع النساء في بلادنا، على وجه العموم. وما يبهرني في شخصيّة الأب في رواياتي (وهو من الشخوص الأساسية) هو هذا الإنشطار. فهو كذا وكذلك !.
فنظرتي إلى الأب، إذن، لم تتغير البتّة !
 تكتب بالفرنسية وبالعربية، بصراحة في أي اللغتين ترتاح؟
أرتاح للغة الضاد ! لأنها لغة بحر وقد استفادت هذه اللغة (لغة الأمومة على كل حال !) من كل اللّغات الأخرى، (العبريّة واليونانية والمصرية القديمة والأمازيغية والفارسية والتركية) وأدخلتها في قاموسها بدون عقدة وبدون حرج. و هو ما لم تفعله اللغات الأخرى والغربية منها، خاصة الفرنسية –مثلا- لم تغتنم اللغة العربيّة عندما كانت فرنسا من أكبر الدول الاستعمارية، سابقا.
زد على ذلك، أننّي أفضّل اللّغة العربية على اللّغة الفرنسية التي أحترمها وأستمتع بها ومنها، لأننّي عندما أستعمل لغة الضاد، أشحنّها باللغة الشعبية وبالدارجة وحتى باللّغة السوقيّة، الشيء الذي لا يمكنني القيام به عندما أستعمل الفرنسية لأنني أجهل تماما الدارجة الفرنسية (L’argot).
- ترجمتَ أغلب رواياتك من الفرنسية إلى العربية والعكس، كيف تعيش الترجمة ككاتب، هل يتعلّق الأمر بإعادة كتابة أم أنك تُخلص للنصّ الأول؟
أنا لا أترجم ولكن أعيد الكتابة، خاصّة وأن المترجمين معروفون «بالخيّانة»، فما بالك عندما يكون الكاتب هو الذي يترجم نفسه. «فخيانة الكاتب» معترف بها ومقبولة وهناك بعض الكتّاب العالميين  أمثال Tolstoï وBeckett، الذين دافعوا عن حقهم في «الخيانة» لأن النصّ نصهم وهم أدرى بكيفيّة ترجمته بتحسين الكتابة وإضافة بعض العوامل وحذف بعض المقاطع وإدخال المزيد من الدّقة في بنية العمل الإبداعي، الروائي عندما يترجم نفسه يحاول  تصحيح وتجميل النصّ الأصلي مثلا، عندما ترجمت روايتي الثانية «L’insolation» تحت عنوان :»الرّعن»، بدأت في تثخين النص بدءًا بالعنوان نفسه. لأن كلمة «الرّعن» كلمة قديمة و جاحظية المنبع و لها وقع أكبر من كلمة «L’insolation» الفرنسية. وكما قلت آنفا استعملت في هذه الرواية اللّغة السوقية ووضعتها في فم الأطفال أثناء حفل الختان ولم يكن ذلك مجانا. الأطفال في هذه الرواية يستعملون ألفاظاً فاحشةً لأنّهم يعيشون حالة خوف شديد. وجاءت هذه اللقطات بليدة باللغة الفرنسية، لذا كان علي أن أخون النص الأصلي وأن أزيد في الطين بلة واللغة العربية فصيحة من هذا المجال وكذلك لغة الفاحشة.
أرتاح في العربيّة أكثر لأنها واسعة ولأنها لغة الأمومة
 أنت من الكتاب القلائل في الجزائر الذين تفرغوا للكتابة، ونجوا من إكراهات الوظيفة، هل يستطيع الكاتب في بلد كبلادنا العيش من الكتابة؟
 نعم تفرغت للكاتبة منذ سنة 1972، سنتان بعد صدور روايتي الأولى (الإنكار) سنة 1970. وأعترف أنني عشتُ عيْشاً كريماً وقد بيعت كتبي بالملايين، كما أنها ترجمت إلى 49 لغة أجنبية.
وزد على ذلك، أننّي أصبحت كاتب سيناريو منذ سنة 1974، عندما وضعت سيناريو «سنوات الجمر» للأخضر حمينة، كما اشتغلت في هذا المجال مع أحمد راشدي وفاروق بلوفة وغيرهم من المخرجين الجزائريين. كذلك، أنجزت عدة سيناريوهات مع مخرجين أجانب (إيطاليا، بلجيكا وفرنسا).
وخلاصة القول  أننّي الكاتب الجزائري الوحيد والفريد من نوعه الذي عاش مدة 45 سنة بمؤلفاته. وذلك يدل على المقروئية الضخمة التي ساعدتني على التفرغ للكتابة وللكتابة فقط.
 جرّت عليك العفوية في الحديث و إعلان المواقف الكثير من المشاكل، ألم تتعلّم الحيلة بعد؟
 العفوية فضيلة ! وعكس العفوية: النفاق والكذب. أنا لا أنافق ولا أكذب. صحيح أننّي أعلنت مرارا عن مواقفي رغم أنها جرت علي الكثير من المشاكل، ومازلت على هذه السيرة وسأواصل، لأنني لا أتاجر بالمواقف لأنّ ضميري يمنعني عن ذلك. ومن خلال هذه الصراحة، فأنا أقوم بدوري كمثقف، يستعمل المداخلة الإجتماعية لأن أدبي ليس بالأدب الملتزم على عكس ما كان يدافع عنه J.Paul Sartre. وذلك لأنني مهووس بالحداثة الإبداعية وأرفض أن تكون الرواية –مثلا- مجرد منشور سياسي، بل بالعكس !.
 البعض يتهمونك بالصداميّة، خصوصا بعد إعلان مواقفك من بعض الكتاب: صنصال، داود، باشي...هل من الضروريّ أن يهاجم الكاتبُ أو يدافع؟
 لا، لا يتهمونني بالصدامية وإنما يخافون من صراحتي. وقد أصبحت الصراحة في بعض الأوساط المثقفة  ضرباً من العنف والغيرة وقد ألصق البعض هذه الصفة بكل ما أقول. إن المحيط العام عند هذه الفئة وخاصّة عند البعض منها وهم أقلية «ساحقة» ولها نفوذ كبير في نفس الأوساط. وأنا لم أنتقد هؤلاء الكتاب في كتاب «زناة التاريخ» من منظور إبداعاتهم وإنما من منظور التاريخ الجزائري الذي عاثوا فيه فسادًا وحرفوه، فأصبحت أعمالهم مجرّد دعاية سياسية لصالح «الآخر»، وذلك لأن هذا القوم مصابٌ «بكراهية الذات» وقد أعلن على هذا المرض العضال Frantz Fanon سنة 1958 في كتابه «المعذبون في الأرض». وقد تنبأ هذا العالم الفذ لهذه الظاهرة المرضيّة عقوداً قبل أن تتفشى في المجتمع، ذلك أن مجتمعنا يعيش الآن أزمة كبيرة، بعد خمسين عاما تقريبا بعد الاستقلال. لم أصدم أحداً ولم أنتقد أي رواية أو عمل قدمه أمثال بوعلام صنصال وكمال داود وسليم باشى ووسيلة طمزالي وغيرهم من الزناة الذين حرفوا التاريخ وزوروه لكسب رضا المستعمر القديم (أي فرنسا) وقد سمى Frantz Fanon هذه العاهة «بعقدة المستعمر»، أرفض أن يكذب بوعلام صنصال كذبا مبرحا في رواية «قرية الألماني» حيث وصف جيش التحرير بالجيش النازي ! وأرفض تشبيهه لحادثة نيس بعملية «ميلك بار»، أرفض أن يشتم كمال داود الفلسطينيين أثناء حرب غزة ويصرح للصحافة الفرنسية أن قصف غزة وأموات غزة واغتيال أكثر من 600 طفل غزوي، لا يهمه البتة. كما أرفض أن يذهب صنصال إلى إسرائيل ويضع «الكيبا» على رأسه ويبكي أمام جدار النحيب في القدس.

أعيد كتابة رواياتي خلال الترجمة
إذن، أنا لم أنتقد الأعمال وإنما تصرفات هؤلاء الأشخاص ومواقفهم السياسية بالنسبة لقضايا مقدسة. أما بالنسبة لسليم باشي، وهو الآن موظف سامي في الدولة الفرنسية ويشغل منصب مدير المراكز الثقافية الفرنسية الموزعة في العالم بأسره. بعد أن تحصل على الجنسية الفرنسية ويقول و»يبرّح» إن الجزائر دولة شمولية وكليانيّة (Totalitaire) وهذا غير صحيح. و من حقي أن أشهّر بهؤلاء الأشخاص وقد قضيت حياتي وأنا في المعارضة، إذ انخرطت في الحزب الشيوعي الجزائري منذ 1962، سنة الاستقلال بعدما التحقت في سن 17 سنة بالمقاومة الوطنية وبجيش التحرير. و بقيت إلى الآن أدافع عن مواقفي واعترف بشيوعيتي وبمبادئ العدالة الاجتماعية وأناضل ضد الرأسمالية المتطرفة وضد العولمة وضد الإمبريالية التي هدمت العراق وسوريا وليبيا، إلخ.
وقد نال كتاب «زناة التاريخ» نجاحا كبيرا وحصل على مبيعات هائلة لأنه أعطى للأغلبية الصامتة صوتاً. ذلك أن الوطنية في بلادنا لازالت قوية وأساسية. وقد أسميتُ هذا الكتاب بالهجاء ! متذكرًا الفرزدق وأبي تمام وVoltaire وZola الذين اتخذوا مواقف مشرّفة بالنسبة لبعض القضايا الحساسة.
المبدع هو كذلك مواطن يهتم بوطنه ومجتمعه وقد كتبت أنا أكثر من 50 مصنفا، انتقدت فيها المجتمع الجزائري المتحجر وقد وصفت التاريخ الوطني وتاريخ ثورة حرب التحرير، من منظور نقدي ونزيه تطغى عليه النزاهة وحب الوطن وحب هذا الشعب الجزائري العظيم ! من كتب مصنّف Fis De La Haine أثناء العشرية السوداء؟ من كتب رواية «شجر الصبار» حول موضوع اغتيال عبان رمضان؟ من كتب «معركة الزقاق»؟ ومن كتب «فوضى الأشياء»، وهي تعالج ثورة أكتوبر 1988. أنا الذي كتب كل هذه الروايات وهي تضرب في الصميم كل الإنحرافات السياسية التي عرفتها بلادنا. عندما أصدرت «حقد الفيس» (Fis De La Haine) كنت مهددا بالموت من طرف الظلاميين آنذاك، أي سنة 1994 في أوج الإرهاب. من هو الكاتب الذي فعل مثلي آنذاك؟ لا أحد لمن ينادي.
لم أنتقد أعمال «زناة التاريخ» ولكن  تصرّفاتهم و مواقفهم السيّاسيّة
وفي آخر المطاف فإنه من الضروري ومن الواجب أن يهاجم الكاتب ما يراه ظلما وأن يدافع على ما يراه حقا. والآن أريد أن أضيف  اسم أمين الزاوي إلى قائمة «زناة التاريخ» لأنه هاجمني في استجواب صدر في جريدة Le Soir D’algerie بتاريخ 19 فيفري 2019. وقال أقوالا كاذبة واتهمني بالغيرة وصرح –علنا- أنه يوافق كمال داود و بوعلام صنصال وغيرهم.
وفي الحقيقة اسمه الحاج أمين الزاوي، وذلك أنه قبل دعوة رسمية للحجّ مجّاناً، وجهت لثلاثين مثقّفا، قبل 27 منهم ، ورفض هذه «الهدية» ، كل من المرحوم الطاهر وطار والممثلة الكبيرة بيونة وأنا، يفسّر أمين الزاوي «غيرتي» بعدم تحصلي على جوائز غربية ولا عربية وهذا كذب مباح، ولا بأس أن أذكره ببعض الجوائز التي حصلتُ عليها، ففي فرنسا حصلتُ على جائزة  les enfant terribles  سنة1970   وتسلمت الجائزة من يدي الشاعر الكبير جون كوكتو ، ثم تحصلت سنة 1979 عند صدور «ألف وعام من الحنين» على القلم الذهبي لأحسن رواية في السنة، وتحصلت على جائزة الرواية الأكثر شعبية في فرنسا عن رواية «شجر الصبار» في 2010 ، وحصلت على أكبر جائزة تمنح لكاتب أجنبي في إيطاليا سنة 1986 وتحصلت على جوائز في روسيا وألمانيا وبيروت ونيجيريا (الجائزة القارية لأكبر كاتب إفريقي) وأخيرا صدر في روسيا كتاب تحت عنوان: «عبقرية رشيد بوجدرة في الأدب المعاصر» وبهذه المناسب سأزور روسيا في جولة تدوم شهرين وتشمل 12 مدينة (بداية من يوم أمس الإثنين)
فضلا عن الجوائز التي فازت بها أفلام وضعت لها السيناريو، كالسعفة الذهبية لفيلم وقائع سنوات الجمر (كان 1975)، جائزة الدب الذهبي في موسكو لفيلم «علي في بلاد السراب» لأحمد راشدي سنة 1988 والتانيت الذهبي لفيلم «نهلة» لفاروق بلوفة. ردي بالنسبة لهذا التهجم أن أمين الزاوي، يسعى منذ زمن طويل إلى الحصول على منصب وزير. إذ لم يشف من خيبته عندما طٌرد من المكتبة الوطنية. وبموقفه هذا يريد أمين الزاوي أن يدخل في عصابة زناة التاريخ لسبب واحد: الانتهازية ولسبب آخر: إصابته بعقدة المستعمر وكراهية الذات. فهو يجري وراء الكرسي وأنا –بالعكس- رفضت الكراسي والوزارات منذ عهدة الشاذلي بن جديد الذي عرض علي وزارة الثقافة ورفضت وفي عهدة اليامين زروال الذي عرض وزارة الثقافة كذلك، ورفضت.
أما بالنسبة لأعماله فبدون تعليق..

 أين يكتب رشيد بوجدرة عادةً ومتى؟
أكتب في بيتي، أي في مكتبي. وأكتب بسرعة فائقة، أي بين أسبوع (الروايات القصيرة: الحلزون العنيد، تيميمون، ليليات إمرأة آرق، مثلا) وأسبوعين للروايات متوسطة الحجم ( الإنكار، الرعن، فندق سان جورج، شجر الصبار، ضربة جزاء، مثلا) وشهر للروايات الضخمة:( ألف وعام من الحنين، معركة الزقاق، فوضى الأشياء، المرث، مثلا) لكنني أحمل مشروع كل رواية فترة طويلة وذلك مدة سنوات (من سنة إلى خمس سنوات) ثم عندما تنتظم الرواية، أكتبها بسرعة فأنزوي في بيتي وأكتب طيلة اليوم، أي من الساعة الخامسة صباحاً إلى الساعة العاشرة ليلاً، دون أي انقطاع.
عشتُ طيلة حياتي معارضاً  ورفضتُ المناصب التي عرضت عليّ
  عشت مترحلاً بين عدّة أمكنة، من عين البيضاء إلى قسنطينة، ثم تونس قبل أن تجوب العالم، ما هي أمكنتك المفضّلة والحميمة، قسنطينة مثلاً حاضرة في نصوصك، لكنها قسنطينة القديمة، قسنطينة شجرة التوت والعمّة الغاضبة التي تطارد الأطفال، الصوّر القديمة لا زالت تسكنك واستعصت عن التحديث؟
هذا صحيح، أنا وصفت مدينة قسنطينة في كل كتبي وصحيح كذلك أنني وصفتها كما أتذكرها عندما كنت أقطن فيها في حي سيدي مبروك. و لعلّ سبب هذا هو انبهاري بالمدينة التي عرفتها وأنا طفل ثم وأنا مراهق. كلّ أعمالي تستند على الذاكرة وخاصة الذاكرة التي لازالت تسكنني وهي ذاكرة الطفولة والمراهقة. وإلى الآن أنا أحبذ المدينة القديمة  على المدينة الحديثة لأنها جميلة ولها مراجع هندسية لا تعادل المدينة الجديدة. خاصّة وأن الأحياء التي كنت أتجول فيها انهارت «ورابت». فأين القصبة التي عرفتها وأنا صبي؟ وأين رحبة الصوف؟ وأين رحبة الجمال؟ وأين؟ وأين؟ ولعل كل هذا راجع إلى الحنين. فأنا إنسان مسكون بالحنين وأرى في هذه الظاهرة منبعا كبيرًا للكتابة. صحيح أن المدينة تغيّرت وتحسنت في السنوات الأخيرة وعلى الكتّاب الشباب أن يعرّفوا بهذه الهندسة الجديدة.
 الكثير من القراء لا يعرفون أن جذورك تمتد إلى ولاية جيجل، وبالضبط إلى دوار بوطناش قرب الشقفة؟
صحيح ! وبالفعل فإن أصولي من جهة الأب ومن جهة الأم كذلك تمتدّ إلى ولاية جيجل وبالضبط إلى دوار «بوطناش» قرب الشقفة حيث لا تزال عائلة بوجدرة تقطن وأغلبيتها من الفلاحين الذين يفلحون الأرض ويعتنون بحقول الزيتون والتين والخضروات والعنب، إلخ... لكننّي لم أقض الكثير من الوقت في هذه المنطقة التي أزورها من حين إلى آخر.
- «ميشال» رفيقة دربك، احتملتك طيلة العمر وآمنت بتجربتك الأدبية وأحبّت الجزائر ودافعت عنها، كيف تنظر إلى هذه الرفقة؟ وهل حقا أنك زوج «صالح»؟
حقيقة «ميشال» زوجتي ورفيقة دربي الاجتماعي والأدبي والسياسي كذلك. وقد حمتني ودافعت عن غريزة الكتابة فيّ وشجعتني على التفرغ لها، لأنها كانت متيقنة أنني كنت موهوباً وقادراً على تقديم عمل هام في مجال الرواية. وقد أحبّت الجزائر، أيضاً، حيث التحقت بالمقاومة الوطنية وهي لم تبلغ بعد 14 سنة.
زوجتي حمتني وشجعتني على التفرّغ للكتابة

أنظر إلى هذه الرفقة بنوع من الحنان والحنين «والخيبة» كما يقول المصريون. هل أنا زوج صالح؟ لا يمكنني الرد على هذا السؤال، لكنني أعترف أن زوجتي رافقتني مدة 55 سنة بدون تقصير وبدون شك. وقد وصفتها منذ الرواية الأولى حتى الرواية الأخيرة.
 بوجدرة الكاتب يخفي الفنان التشكيلي ولا يسمح له بالظهور، هل تستطيع الألوان قول ما لا تقوله الكتابة، ولماذا تخفي لوحاتك؟
بالنسبة لهذه القضية، فأنا متردد. أرسم عند المحن (وخاصة محنة العشرية السوداء !) ولم أرد ورفضت عرض أعمالي لأنني متيقن أن الإبداع واحد وفريد من نوعه. فلا يمكن للمبدع أن يبدع في مجال الكتابة والفن التشكيلي. لذا أنا أوظف كثيرا الفن التشكيلي في روايتي وخاصة في الرواية الأخيرة «السلب» التي نشرت  هذه الأيام في دار الساقي ببيروت وسوف تصل إلى الجزائر عما قريب. ذلك أن الشخص الأساسي في هذه الرواية هو الرسام العالمي Albert Marquet الذي أتى إلى الجزائر سنة 1927 وتزوج من جزائرية  وقضى حياته في بلادنا حتى وافته المنية سنة 1947. وبقيت زوجته في الجزائر وعاشت فيها حتى وافتها المنية سنة 1971. وقبل وفاتها قدمت للدولة الجزائرية إرث زوجها من لوحات ومنزل وورشة، لكن هذا الإرث استحوذ عليه موظف مرتشي... وهذا موضوع رواية «السلب» !

الرجوع إلى الأعلى