مســرحُ الأهـــوال بين الجــزائــر والبوسنة
يرسّخُ سعيد خطيبي بـ "حطب سراييفو" قدمه على أرضِ الرّواية، وقد اختار في مُنجزه الثالث مسرحين يعرفهما جيّداً، ليسرد حكايتين عن الحربِ والحبِّ والهويات المعذّبة بإنتماء مشكوكٍ فيه: جزائر العشريّة الحمراء وسلوفينيا التي تحتضن أحلام المعذبين بحرب البوسنة، ولا بأس أن يرتجل الرّاوي قصّة حبّ غير مكتملة بين «سليم» الصحفي الجزائري الذي رحل بعد غلق جريدته، استجابة لدعوة عمّ سنكتشف في نهاية المطاف أنه أكثر من ذلك، و«إيفانا» الهاربة من البوسنة بحثاً عن مكان لكتابة مسرحيّة تنمو في خيالها، وسيستدعي الكاتبُ «الصّدفة» لتضع شخصيّتيه في لعبة مرايا بديعة، يتوليان فيها سرد آثار الحرب العبثيّة على الإنسان، التي كان الكاتبُ ذاته شاهداً عليها، مرّة هنا وقد عاش الأهوال كما عاشها بطله ، ومرّة هناك في سلوفينيا التي استقرّ فيها بعد أن تجوّل في البلقان، ودوّن ما دوّن وقد عاشر البشر وعاين الأثر، وقد نلمس خطّ سيرةٍ خفيّة تمتدّ من بوسعادة إلى سلوفينيا.
عرض: سليم بوفنداسة
عاش سليم «كأيّ نكرة»، يأكل ويشرب ويعمل ويزحف على جسد مليكة النّحيف، قبل أن يباغته عرض «سي أحمد» بزيارة سلوفينيا، فيصيبه صداع  ويقرّر مغادرة حياة لا مسرّات فيها، شقّة يغفل عن تنظيفها لأسبوعين فتغزوها الخنافس ، مقهى شعبي يرتاده مشجّعون، حبّ غير واضح الملامح مع حبيبة غير واضحة ، ذاكرة بدأت تخون. وموت ترد أخباره  ويُنتظر في أي لحظة.
أما إيفانا فقد حملتها يد خفيّة إلى حيث تريد لتنجو من حربٍ ذهبت بعقل أختها المغتصبة، تبدأ سردها بخوفٍ من حملٍ سيدخلها دائرة الحيوان، ويعطّل مشروعها في إتمام المسرحيّة التي تباطأت في إتمامها، هي التي جعلت من هذه المسرحيّة حلما، ربما أخرجها من الكابوس الذي تعيشه  بعد وفاة الأب بشظايا قذيفة واستسلام أمها للصّمت وهجرة أخيها الوحيد إلى سلوفينيا . لذلك فضّلت كتابتها بالانجليزية، بمساعدة صديقها الانتهازي بوريس الصحفي والكاتب المعروف في المدينة الذي يصحّح أخطاءها مقابل لقاء أو لقائين في الأسبوع، في انتظار عرضها في مدينة تحترم موهبتها، لتعوّض خسارة الحرب التي عصفت بسنوات دراستها في أكاديمية الفنون، ويصير في إمكانها آنذاك أن تتبجّح بالقول أن سراييفو التي أنجبت امير كوستريتسا  أنجبت إيفانا بوليتش ، أيضا.
 ومع انجلاء كابوس الحمل تخمّرت فكرة الهجرة.
يتحرّك الرّاوي والرّاوية في زمنين ومسرحين: البوسنة وسلوفينيا، والجزائر وسلوفينيا. يدفعهما «الفقدان» إلى البحث عن أمل، فحين بدأ أب سليم «يغيب»، تجلى العمّ البعيد، ويمثّل الأب والعم جيل ثورة التحرير، حيث حمل الأب اسم عمار بذل إبراهيم حين التحق بالثورة، وقد ألقي عليه القبض وسجن تاركا زوجته وحيدة، وبعد الاستقلال عمل في الشرطة واكتسب لقب الحاج، ثم ترك بوسعادة وانتقل للعيش  والعمل في المدينة التي «تحايلت على مُدنٍ أخرى وفرضت نفسها عاصمةً للبلد».
أما «العمّ» سي أحمد الذي يصغر الأب بسبع سنوات، فقد هاجر إلى يوغوسلافيا، قبل ربع قرن، وأصبح يقيم في الدولة الصغيرة الناشئة سلوفينيا بعد انقسام البلد، وقد التحق بدوره بالثورة، قبل أن يشتغل في مصنع للدّباغة بعد الاستقلال، ثم افتتح مصنعاً صغيراً للأحذية، ليصير اسمه أحمد السبابطي. و كانت حياته عاصفةً، حيث تزوّج ابنة شهيد، انتحرت دون أن تنجب له أبناء، في نفس السنة التي ولد فيها سليم، سافر سي أحمد إلى يوغسلافيا  مستفيداً من تكوين مهني، وهناك عرف «نادا» التي ستصير زوجته وشريكته في مصنع أحذيّة، ويذكر سليم أنه كان يجود عليه بالهدايا والملابس في زياراته، إلى درجة أنّ اهتمامه الزائد به، سيضايقه فيما بعد، لكن زيارته ستخفت خصوصاً وأنه صار أبا لابنين في غربته.
أما «إيفانا» فلا تذكر من الأب إلا عدوانيّته، ومعاناة الأم معه، ثم شبهة خيّانة خلال الحرب، أما صديقها بوريس فيسلبها المال والجسد، مقابل خدمات قليلة، وفي فضائيها ستصير نادلة مؤقتة، لكنّها ستفاجأ بحبٍّ قديم في عالمها الجديد، في وقت يبدأ بينها وبين سليم ما يشبه الحبّ.
ترتفع كاميرا الكاتب لتقدم مشاهد تخدم الحكاية، بل «تؤرّخ» لوقائع وأحداث، كالمجازر الدمويّة التي عاشتها الجزائر في تسعينيات القرن الماضي، واغتيال المثقّفين الذين يذكر البطل تواريخ مقتلهم وقد بدأ ينسى بقيّة الأشياء، فيما يشبه  صدمة تلازمه، اختفاء الصفحة الثقافية في الجريدة، وانتقال سليم وصديقه فتحي الذي يقاسمه لوعة الأدب أيضا، إلى السيّاسة، وفق ما اقتضته الحال، الحياة السريّة لصحفيين يغيّرون الأمكنة لتجنب ملاقاة الموت. العاصمة من الداخل: حي الرمان الذي عاش فيه سليم  في شقة أجّرها بسعرٍ معقولٍ دون أن يدخل أية اصلاحات عليها، فحقّ لصديقته مليكة أن تطلق عليها اسم «بيت الجرذان»، في الحيّ ذاته  يتعايش الجزائريون القادمون من مختلف أنحاء البلاد ويعيشون حياةً بسيطةً لا ترف فيها، حيّ لم ير فيه الرّاوي عاشقين يتمشيان و يتبادلان نظرات حميمة، ولم يسمع فيه  عن زيجات حصلت عن حبّ، الجميع يعرف الجميع في الحي «كأنهم سقطوا من رحم واحد» وسيكون هو الاستثناء لأنه استطاع اخفاء هويّته، حيث تنكّر في هيئة مترجمٍ يشتغل في مؤسسة خاصّة دون أن يغادره التوجّس من نظرة الجيران له كأعزبٍ وحيدٍ، مصمّم على عدم الزواج حتى يغادر هذا البلد ويجد امرأة على قدر من الجمال و الثقافة لا تهمّه جنسيتها ولا دينها.
و سيتم استدعاء كتّاب أيضا، المغتالون منهم والهاربون جنوبا، في صورة «مراد بورغدة»، الروائي الذي يشبه إلى حدّ كبير رشيد بوجدرة.
سيحقّق الراوي في المجازر، لكنه سيصبح عاطلا بعد توقيف الجريدة عن الصدور لنشرها حوارا مع معارضٍ سيّاسي يقيم في لندن.

تصبح الهجرة خيارا وحيدا لسليم وإيفانا، هو الذي تمزق حربٌ عبثيّة بلاده وهي التي بدأ قرن بحرب مجنونة اندلعت في بلادها وانتهى بحربٍ أخرى، وكأن «وجود البوسنيين في التاريخ جعل منهم ضحايا».
في ليوبليانا ستطارد إيفانا حياتُها السابقة، وستدفع العزلة سليم إلى استعادة حياته وقد بلغه توغل والده في الزهايمر واقترابه من النهاية،  هو الذي بات يعاني من اضطرابات نفسية  حتى صار يشعر  أنه كهل في نهاية العشرينيات، كعمّه الذي يستقوي على الحياة بالحبوب المضادّة للاكتئاب، حيث يشعر برجفات بردٍ مفاجئةٍ منذ زار قرية «سيدي لبقع» لينقل وقائع مذبحة من المذابح التي ارتكبت على أرض الجزائر في تلك الحرب المشؤومة، وفي صباحات عزلته كان يتخيّل أحداثاً وقعت في الجزائر في غيابه وفاتته متابعتها فيتوهّم أشلاء مرميّة في الطرقات ويحيك سيناريوهات سوداء.
في مقهى العمّ ستعمل إيفانا نادلةً وقد رأت عرّافة في طالعها تفاحةً مقضومةً وفأسا وسهما يتجه نحو الأعلى، ما يعني أنّ مشكلة في انتظارها وأنها ستتخذ قراراً هاماً وأنها ستعيش حدثاً سعيداً، وهناك سينمو الذي لا يسمىّ بينها وبين سليم الذي سيستدرجها إلى الأدب وتستدرجه إلى الموسيقى، هي التي كانت تستدعيه في استيهاماتها، رغم أنه لم يكن من النوع «المحمود» من الرّجال لديها، فهي تميل إلى الأشداء ذوي البنية القوية، والصوت المجلجل، لكنها لا تمانع في تجريب حظها معه.
لكن العرّافة ذاتها سترى سكينا في فنجان سليم، وستصدق النبوءة حين يستدعينا الكاتبُ إلى مسرح أهوالٍ، في نهاية المطاف، ليصفي في جنون مُخرجٍ الأمور كلّها، مستعينا بالإدهاش لإعفائنا من السؤال.
تتشاجر إيفانا مع «سي أحمد» صاحب المقهى بسبب دين قديم لحبيبها السابق «غوران» الذي عاد إلى حياتها ، ثم تشرع   في كتابة مسرحية مستوحاة من فيلم «هيروشيما، حبي» تروي فيها قصة لقاء بين شابة بوسنية وشاب جزائري يأتي إلى سراييفو لإجراء استطلاعٍ حول المدينة، بُعيد الحرب، فتنشأ علاقة حبّ بينهما. يُحدّثها عن حربه الأهلية وتحدّثه عن حربها أيضاً. نعم هذه هي المسرحية التي انتظرتها: شابان يلتقيان في مقهى شبه فارغ ويتبادلان الأدوار في الكلام وفي الاستماع.
تثير إيفانا غضب سي أحمد الذي يلاحقها إلى الفندق لمعاقبتها وخلال العراك سيتلقى طعنة قاتلة من غوران.
 وسيكتشف سليم أن سي أحمد هو والده الحقيقي، وربما استدرجه إلى سلوفينيا ليعوّض أبوّة خانها، سيكتشف أن أمّه الحقيقية ماتت أو بالأحرى قُتلت (قتلها الأب) وأنه عاش حياة مزوّرة بهوية ليست هويته، وكان عقاب الأب مقتلة شنيعة في أرض بعيدة والعيش لفترة قصيرة قرب ابن لا يبادله مشاعر الابن.
عاد سليم إلى الجزائر، عودة لا تشبه عودة «مصطفى سعيد»، لأنه سيؤسّس جريدةً مع صديقه فتحي وأهم من ذلك سيشرع في كتابة نصّ حميم.
سينشر سليم في جريدته سلسلة تحت عنوان «الناجون من الطوفان... بين الجزائر والبلقان» يمزج فيها بين سيرته وسيرة إيفانا، وستعرض إيفانا مسرحيتها مضيفةً اسم سليم إلى الأفيش كأمانة منها على مساعدته لها.
وربما استعاض راويا الحطب بالكتابة عن حياةٍ لم تمض على الوجه الصحيح، وربما عالجا جراحهما بالكتابة ذاتها التي ثبتُ في انطولوجيات العذاب أنها أحسن طريقة للعلاج.
وبعد
صاغ سعيد خطيبي عالمين متوازيين في رواية واحدة، مقدماً مصائر معذّبة بحربين عبثيتين، لكنّه في الوقت ذاته عقد مقارنات ذكية، غير مرئيّة بين المصائر الجمعيّة في دولتين كبيرتين ربطتهما علاقة صداقة وجمعتهما إيديولوجية في مرحلة تاريخية، قبل أن ينزلا إلى الجحيم.
 وحتى وإن كان الكاتب قد حافظ على شخصياته الأثيرة (المثقفة) التي ظهرت منذ روايته الأولى «كتاب الخطايا»، إلا أنه أثبت قدراته على تنويع الموضوعات وامتلاك التكنيك والنّفس السردي الذي يمكّنه من العبث بأناقة على مسرح الرواية. 

الرجوع إلى الأعلى