تآكل النغم.. تآكل الفرح
  تأتي قصّة «سيمفونيّة في ثلاث حركات» للكاتب العراقيّ «خالد كاكي» لترصد حسّا عاليا بروح الموسيقى السيمفونيّة وجوهرها الحركيّ المتقلّب، المتراوح بين السرعة، والبطء، والصعود والهبوط، والتدفّق والهمود، بغية احتواء معنى دراميٍّ ما، ونقله إيحائيّا للمستمع، فتنتظم جميعُ الحركات وفق هذا المعنى، وتتضافر كلُّها في سبيل صقله، وإبرازه؛ فكان المعنى المأساويّ – على سبيل المثال – هو المهيمن على سيمفونيّة «تشايكوفسكي» السادسة، والمعنى البيتيّ الحميمُ هو المكوِّن لسيمفونيّته الأولى، فيما بدا المعنى القدَريّ محتويا سيمفونيّة «بيتهوفن» الخامسة، واحتوى المعنى التفاؤليُّ سيمفونيّته التاسعة، والمعنى الانبساطيّ سيمفونيّته السادسة؛ الرعويّة، وما إلى ذلك من نماذج يضيق المقام عن ذكرها كلّها.
بهاء بن نوار
والمعروف عن السيمفونيّة الكلاسيكيّة في تعريفها العامّ أمران: أوّلهما، تألّفها من أربع حركات: الأولى سريعة(Allegro) تطبع العملَ كلّه بطابعها، والثانية بطيئة(Adagio) غنائيّة، والثالثة رقصة إيقاعيّة خفيفة(Menuetto) لم تُضف إلا خلال القرن الثامن عشر، وتعدّ واحدا من أكثر العناصر فتنةً في العمل، والرابعة سريعة جدّا(Presto) محدودة الطول، تشبه الأولى، ولكنّها أخفّ.  وثانيهما بناؤها الترجيعيُّ، الذي يُكرّر معه النغمُ الرئيسُ في بداية العمل ومنتهاه، فيكون أوّل وآخر ما يطالع أذنَ المستمِع، ممّا يكرّس البعد الدائريّ من جهةٍ، والإيحاء العميق بالامتداد واللانهائيّة من جهةٍ ثانية؛ امتداد مراحل التذوٌّق، ولانهائيّة القراءات حولها والتأويلات.
   وبتتبّع تفاصيل هذه القصة، واجتياز حركاتها، وتحوّلاتها، نلاحظ تكوّنها من ثلاث حركاتٍ، احتوت جوهرَ الزمن الموسيقيّ، واِلتقطت جذوته، فكان إيقاعها الداخليّ متماشيا مع إيقاع الحركة السيمفونيّة، بكامل تموّجاتها، وانثناءاتها، ممّا يمكن تفصيله فيما يأتي:
الحركة الأولى: Allegro ma non troppo سريع متمهِّل:
   تأتي هذه الحركة بإيقاعٍ زمنيٍّ مزدوجٍ، يتدفّق سريعا حينا، ويتراخى بطيئا حينا آخر، منتظِما رغم تناقضه الواضح هذا ضمن وحدةٍ انفعاليّةٍ كلّيّةٍ، نسيجُها القلقُ، والاضطراب؛ فيبدأ السردُ بدايةً ارتيابيّةً، توحي في شقٍّ كبيرٍ منها بالحركة، وتبطن في شقّها الثاني السكونَ؛ فكان زمن الأحدث صبيحة يوم السبت؛ بداية العطلة الأسبوعيّة، التي تستجلب الراحة والهدوء، ومع ذلك لم تخلُ من خطوات بعض الكادحين، الماضين بسرعةٍ نحو عملهم: «بعض المارّة القليلين كانوا متوجّهين إلى العمل بخطواتٍ سريعةٍ.  صباح أيّام السبت شبيهٌ قليلا ببدء الخليقة.»(ص27)
  يأتي هذا الزمن المزدوج الإيقاع ليحتضن أحداثا مزدوجة الإيقاع أيضا؛ بين البطء المتبدّي من خلال انثيال ذكريات الراوي، واسترسال خواطره الماسحة تقاسيمَ المكان، والمتوقّفة توقّفَ كاميرا توثّق جميعَ التفاصيل ببطءٍ مدروسٍ، بين منظر الشارع العام، ذي المصارف المغلقة، المعلنة إفلاسَ العالم، ومشهد حاويات القمامة وهي تلفظ أنفاسَها القذرة، والهواتف العموميّة التي حطّمها السكارى، وأزهقوا أسلاكها بصخبٍ وعبث. (ص27) وبين ذكرياته الحميمة مع عشيقته العابرة «راكيل» التي غزت ذهنَه، فانبسطت تفاصيلُها كلّها بوضوحٍ منذ لحظة لقائهما إلى غاية افتراقهما.
ولم يخلُ هذا الإيقاعُ المتأنّي من بعض ملامح التعجّل والاستباق؛ فلم تكن تلك العلاقة الجسديّة متينة الجوهر، والأساس، بل أتت على عجلٍ، وبنمطٍ استهلاكيٍّ، سريعٍ، وعابرٍ، لم يعد معه لقاء الجسديْن الظامئيْن لقاءَ عشقٍ وتوقٍ، وانفتاحٍ، بل غدا لقاءَ جوعٍ، وصقيعٍ، وخواءٍ ضارٍ يفترسهما، ويروم الإتخامَ، والامتلاكَ بأيّة وسيلةٍ ممكنةٍ، فكان قاموسُ الحرب والقتال والمغالبة هو السائد دون سواه.
وهكذا، يضعنا الراوي في خضمّ الحركة السرديّة الأولى، المتراوحة بين البطء والتعجّل، وقد بسط أمامنا لحنها المفصليّ العامّ، الذي سيتسلّل بصخبٍ وخفوتٍ في الحركتيْن الآتيتيْن:
الحركة الثانية Adagio بطيء
  تبدأ هذه الحركة بمشهدٍ جديدٍ، يصل فيه الراوي إلى بارٍ صغيرٍ، ليتناول فطورَه الصباحيَّ، وهناك تتباطأ سيرورة السرد، ويخفت صوتُه كثيرا، مفسِحا المجالَ أمام جملةٍ من الخواطر والحوارات، تأتي بمثابة الوقفة السرديّة، التي تترك المجالَ كاملا لفسحة الوصف، والتأمّل، فتبدو تفاصيلُ المكان، وملامحُه الثابتة منبسطةً أمام أعيننا بجلاءٍ، ومعها تنساب خواطرُ الراوي وذكرياتُه، وأفكارُه الراهنة والبعيدة، حول توحّش الجنس البشريّ، رغم ارتدائه قشرة المدنيّة والحضارة، وقد تبادرت هذه الفكرة الإشكاليّة، الضاربة بجذورها بعيدا في عمق الفكر الإنسانيّ، لمنظرٍ عرَضيٍّ، لتمثال تذكاريٍّ، يبدي خنزيرا خزفيّا يرتدي قميصَ نادي ريال مدريد وقد اعتلى خنزيرا آخر يرتدي قميصَ نادي برشلونة(ص30) لينطلق بعدها ذلك الحوارُ الطويلُ بين صاحب البار وسكّيرٍ عريقٍ من زبائنه، يعاني كما يبدو جوعا مزمنا للامتلاك، فلا يني يساوم الآخرين على مقتنياتهم الحميمة، محاولا افتكاكها، والاحتفاظ بها لنفسه، ليفتح لنا الكاتبُ مجالا واسعا لحوارٍ إضافيٍّ بينه وبين الراوي، تمثل من خلاله أسئلة الإنسان واغتراباته الكونيّة الكبرى، وأزمة التواصل الحميم، والتوجّس المستديم بين الشرق والغرب، وقد أوقد جذوتها ذاك الحوار العابر في ذلك البار المنسيّ.
  وهنا تكتمل دورة اللحن في حركته الثانية، وقد استمرّ النغم المفصليُّ في البروز، وإن كان علينا مواصلة بقيّة الحركات لإدراك غايته، ومداه:
الحركة الثالثة Presto سريع جدا  
   تنتهي الحركة السابقة بتطوّرٍ زمنيٍّ، تنساب معه خيوط مطرٍ وشيكٍ، بعد أن كانت السماءُ مشرقةً في بداية الصباح – بداية الحركة الأولى – ويبدأ إيقاع هذه الحركة السريع جدا، والمتعجّل لحظة خروج الراوي من البار، وقد باغتته سيّارةٌ مسرِعةٌ، تنهب الأرضَ نهبا، وتتدفّق منها موسيقى صاخبةٌ، عالية الهدير، ويزداد الإيقاع تسارعا حين تكون المحطة المكانيّة القادمة: مترو الأنفاق، حيث اللقاءُ العابرُ بفتاةٍ عشرينيّةٍ جذّابةٍ، يطارحها الراوي – دون مقدّماتٍ طويلةٍ – الغرامَ، وعلى إيقاع أغنية غجريّةٍ عن الحبّ الذي يأتي فجأةً دون مواعيد، ولا تواريخ، تثبّت في تقاويم الأيام(ص37) تبدأ مغامرتهما المسروقة، فيدعوها إلى مقهى صغير، ومنه إلى منزله، حيث يباغته مجدّدا هدير السيارة المسرعة بموسيقاها الصاخبة، وحيث يتدفّق الزمنُ سريعا بإيحاءٍ من زخّات المطر التي أخذت تتهاطل بغزارةٍ، ولم يكفّ رذاذُه عن النزول بعد ساعتيْن؛ زمن انتهاء طقوس القنص الجسديّ، وخروج الفتاة – التي لم نعرف لها اسما – من الشقّة، وحيدةً إلى الشارع المغسول بالمطر.
  وهكذا، تكتمل دائرة الزمن، وتنتهي هذه القصّة بمثل ما بدأت: مغالبة جسديّة سريعة، تلفّ فيها رائحةُ الطرف الأنثويّ جسدَ الراوي، وتنبعث من جلده في بداية العمل، فيما تفترس رائحتُه هو جسدَ الطرف الأنثويّ وتلفّه، في نهاية العمل، ويسير في خلال ذلك العابرون إلى عملهم بخطواتٍ سريعةٍ بدءا، لتتثاقل خطواتهم وهم يتجوّلون، ختاما، ويباغت الراوي خاطران غريبان، عن صبيحة يوم السبت؛ أوّلهما أنّه شبيهٌ قليلا ببدء الخليقة(ص27) وثانيهما أنّه شبيهٌ بنصٍّ أدخل مفرمة فواكه! (ص41)
  وهنا يمكنني طرح السؤال الأهمّ: لماذا أتت هذه السيمفونيّة السرديّة بثلاث حركاتٍ لا أربع كما هو دارجٌ ومألوف؟ ولماذا كانت الحركة المبتورة هي الثالثة في ترتيب الحركات؛ حركة المينويت، ذات الإيقاع الرّاقص البهيج؟
  ويأتي الجواب – حسبما أرى – بتأمّل اللحن المفصليّ، المنسحِب على جميع الحركات، والمكوِّن جوهرَ معناها، ومغزاها الخفيّيْن، وهو لحن الهشاشة، والتآكل؛ هشاشة لحظات الفرح والامتلاء، وتآكل مساحتها، مقارنةً بمساحة الألم والمأساة، التي اِلتهمت الشقَّ الأرحبَ من أجزاء هذه القصّة، فبدا المعنى العبثيُّ الأسيانُ مغلِّفا علاقة الحبّ المفترضَة بين الراوي – الشرقيّ المغترِب – وصاحبته «راكيل» الغربيّة، التي تعيش قطيعةً مزمنةً مع إنسانيّتها وأنوثتها: «أنا تافهة حقّا، هل ترى ذلك؟ كنْ ساديّا معي أرجوك، ابصقْ عليّ، أنا حيوانة فحسب. تمتّعْ، واتركني كبهيمة، لا جدوى منها...» (ص29)
وبدا المعنى الاستهلاكيّ والنهم الضاري إلى التملّك والاقتناص ماثلا بقوّةٍ من خلال ظلال شخصيّة السكّير الخمسينيّ، الشره جدّا نحو اِلتهام أشياء الآخرين وتكديسها، مستعيضا بهذا عن خوائه الروحيّ، وفزعه من مواجهة خفايا نفسه، والتحديق في أغوارها المظلمة.
ولم يغب هذا المعنى البائس عن الحركة الثالثة المتسارعة الإيقاع، فأتت علاقة التقارب بين الراوي وتلك الفتاة العابرة مفرغةً من غايتها الانفتاحيّة، ومنكفئةً على غايات الاستهلاك والإفعام الآنيّ، فلم نعرف عنها سوى جسدٍ يافعٍ مُغرٍ، دون اسمٍ، أو كينونةٍ، أو وجود، ولم يزد زمن الوصل – أو بالأحرى: زمن القنص والاستهلاك – على ساعتيْن؛ بين بدء رذاذ المطر الخفيف، وبين تكاثف هطوله، وبعدها لاشيء سوى الجوع والفراغ، وخطوات متثاقلة، ينقّلها العابرون؛ شركاء الوحدة والصقيع.
وهكذا أتت هذه القصة/ السيمفونيّة بنسيجها النغميّ المتآكل الحركات محاكاةً سرديّةً لتآكل لحظات الفرح، والامتلاء: إنّها ضوتٌ متعدِّدٌ، ومفردٌ، من أصوات المعاناة الإنسانيّة، ودفق أسئلتها الكونيّة الهادرة. 

الرجوع إلى الأعلى