في لبنان حزب يدعى «المَرَدة» أسسه الرئيس الأسبق سليمان فرنجية على الرغم من حضوره الباهت خارج أرضه إعلاميا على الأقل عكس أحزاب أخرى في البلاد نفسها إلاّ أنّ الكثيرين عرفوا عنه وسمعوا به من خلال عضوة المكتب السياسي «فيرا يمين»، وزيادة إلى فتنة المرأة شكلا حيث السياسة بخطابها المراوغ المتلوّي والمنافق أيضا يتحوّل معها في كل أحاديثها وحضورها في الميديا إلى تمازج راقٍ بين الشعر والموسيقى، تتلبّس السياسة بلبوس الفن، فهي تقول مثلا : «القدس ستبقى قضيتنا وقصيدتنا وبندقيتنا» وما أبدع هذه العبارة الشاعرة من شفتي امرأة حتى وإن كانت تختلط بالسياسة بينما عند كريم عكوش قد يكون الأمر مخالفا تماما !! ومردُّ هذه الثانية التي أضعها هنا كان في الأساس مصادفة بحتة.
ياسين سليماني
 إذ شاهدتُ برنامجين عربيين كانت المرأة ضيفتهما المتميزة في الأسبوع ذاته الذي شاهدت فيه برنامجا في محطة فرنسية تستضيف الشاب بينما أحد كتبه بين يدي أنهي صفحاته الأخيرة مما جعل من المقارنة تقفز عن رغبة أو عن غير رغبة بينهما. وهكذا وجدتُ الكتابة عند «كريم» تتلبس بلبوس السياسة، فنجده يتحدث في الميديا كما يتحدث في الرواية: خطاب يحاول أن ينزل ساحة الرواية لكنه يبقى معلّقا حيث نقد الدين والسياسة عبر توظيف ذاكرة جريحة وهزائم متتالية يبدو اختيارا مثاليا عند الكاتب لتسويق نفسه في صورة النخبوي اليساري القادر على مقولات الرفض غير أن الاختيار لا ينتج بالضرورة رواية تحوز على الشروط المطلوبة.
في «دين أمي» La religion de ma mère  ( منشورات فرانز فانون –الجزائر-) تتقاطع السيرة الذاتية بالتخييل. الشاب الذي يعود من كندا إلى الجزائر ليحضر دفن أمه، الطريق من المدينة التي يعيش فيها إلى المدينة التي أثثت طفولته هي طريق أغلب الحكايات، حيث الذاكرة تنتعش فجأة لتمثل أمام العين كل أحداث الطفولة وبدايات الشباب. لا يتحدث السارد عن كندا إلاّ كخلفية باهتة تتدحرج إلى الوراء أمام البلد الذي لا يزال يعاني من محبته. الجزائر بلد معطوب، هناك رجال معطوبون، هناك نساء معطوبات، هناك حياة معطوبة، لكن ليست الشخوص وحدها التي تعاني من هذه المعطوبية إذ استمرارا على هذا النسق يمكن أن يسأل القارئ: أليس الكاتب (وليس السارد فقط) كاتبا معطوبا يقدّم «رواية» معطوبة أيضا؟
الكتاب سردية طويلة تسوّق بوضوح موقفا صارخا زاعقا أكثر من أن تنجح في توظيف خطاب جمالي يقدم رؤية مضادة تؤثث لمعطى يمكن أن يستأنس معه القارئ ويتشارك ويتقاطع. مَن يتعقّب مسار الكتابة لدى عكوش سيكتشف أن عمل الروائي الذي هي في الأصل قراءة المجتمع، وتفكيك بُناه عبر الوقوف على تاريخه السياسي والشعبي -وهذا العمل يحتاج إلى دراية بالتاريخ والسوسيولوجيا والنقد والفكر والسياسة -يتحول إلى غنائية ساذجة واستنساخ سمج لكتابات تقريرية لصحافي لا يمتلك مفاتيح مهنته. وإذا كانت الرواية -كما يقول بعض النقاد- «عملا معرفيا كبيرا حول واقع معقد ومتشابك. والخدمة التي تقدمها للثقافة التي تكتب فيها هي أنها تحطم وتخرب وتسائل، وتغنم مساحة من الخيال واللغة الجديدة في مجتمعات يخنقها التقليد والانتصارات المتتالية للماضي» فإنّ الرواية أمام كل هذه تخسر رهانها الأساسي الصعب: تقديم حالة إنسانية تتوهج معها النفس وينفتح معها العقل.
تبدو المقولات الجاهزة والقوالب التقريرية هي عمدة هذا العمل فعليا، فهذه الكليشهات التي تكاد تكون مملة من مثل الهوس الديني عند المجتمع الجزائري (العمّال في المطار مثلا الذين لا يكفون عن استخدام اسم الله في كل حركة يقومون بها) والشوارع المتسخة والبشر غير المتمدنين، توقّف البلاد عند لحظة زمنية معينة لم تتحرك منها (الحياة ما قبل الإنسانية أو الحيوانية ربما حيث الجميع –عداه هو وأمه وربما بنسبة أقل شقيقه الذي انتظره في المطار) ويضع نفسه بين مأزق الدهشة من الآخر الذي يملك كل مقومات الإنسانية والأنا التي خسرت نفسها أمام امتحان الحياة والتقدم بنوع من الجلد المبالغ فيه لكل ما ينتمي لهذه الأرض لكنّ الأمرَ قد يكون مفهوما عند شاب لم يختر الرحيل عن أمه وبيته ولكن ظروفا شديدة القسوة دفعته لذلك، لكن حتى مع هذا (العذر) لا يبدو أننا قادرون على عقد صداقة جيدة مع هذه الكتابة. اقرأ مثلا هذه العبارة السوداوية التعميمية: رجال هذا البلد منافقون إنهم يفعلون كل شيء في الخفاء. يشترون زجاجات النبيذ مخبأة في ورق الجرائد. في شهر رمضان يتظاهرون بالصيام ويأكلون في المراحيض»
وإذا كان من الصحيح أنّ كريم لا يكتب «رواية» متماسكة البناء. لكنه يكتب المقاطع الجميلة والجزئيات الممتعة، لذلك يمكن أن نصدق أنه «شاعر» فالشعر يحتمل التكثيف واللغة الموجزة. يقول: تعبد أمي الله بطريقتها الخاصة، بكلماتها التي تعرفها، مكة هي أرضها، أنبياؤها هم أبناؤها. أهم ما في هذا العمل تلك الإشارات الرقيقة في حب الأم. نحن نحب الأم التي يصورها لنا كريم في كتابه، نحبها ونتضامن معها ونتقاسم حزنها الوجودي. لكن الرواية لا يمكن أن تكون فقط هذه الجزئيات المتناثرة دون عقد يربط (الجوهر) ببعضها.
ترى، لو جسّرت (السياسية) فيرا يمين علاقة ما مع الإبداع الأدبي؟ ولو جسّر (الروائي) عكوش علاقة ما مع السياسة؟ يقيني (وبعض اليقين مقبول) أنّنا سنكسب أديبة جيدة بالنسبة ليمين لكن الشك، كل الشك في أننا سنكسب سياسيا فحلا (كما تحب أحلام مستغانمي أن تعبر عن الجيل الأول من سياسيي الاستقلال) بعدما خسرنا روائيا (فحلا) !!

الرجوع إلى الأعلى