كيف تُقرأ الشِعارات السياسية التي أفرزها حراك 22 فبراير. وبأي منظور وزاوية ورؤية وأدوات يمكن أن تتم قراءة وتحليل وتشريح هذه الشعارات التي أفرزها وابتكرها الشارع، والتي تتسع رقعتها من جمعة إلى أخرى، وتختلف نبرتها ولهجتها وسقفها على جسد اللافتات بأحجام وألوان متباينة. فهل يا ترى ستدخل هذه الشعارات مخابر البحث والتحليل الأكاديمي والسوسيولوجي، كي يتم وضعها في سياقها النفسي والسياسي والشعبي. وهل ستستقطب أهل الاختصاص لدراستها ودراسة تحولاتها ومآلاتها في القريب الآتي. أم أنّ الأمر يحتاجُ إلى وقت طويل وجهد أطول لأجل دراسة الظاهرة وفهم نشأة شعارات الشارع. وكذا تمحيصها والإشارة إلى المعقول فيها واللامعقول، والوقوف على ملمحها ومحاولة معرفة المدى الفاصل بين الابتكار والابتذال، وهل يمكن القول أنّ كلّ الشعارات انبثقت من مختبر الأفكار التي يتم تجميعها وتلخيصها. وهل وصل مستوى هذه الشعارات إلى بلورة واختصار الأفكار حقا. وهل كلّها تؤسس لرسائل سياسية واقعية؟.
إستطلاع/ نوّارة لحـــرش
حول هذا الشأن “الشعارات السياسية”، كان ملف “كراس الثقافة” لعدد اليوم، مع مجموعة من الباحثين الأكاديميين، الذين تحدثوا عن الظاهرة، من زوايا مختلفة، لكنّها تلتقي كلها في محاولة مقاربة وتشريح “شعارات الشارع السياسية وفلسفاتها”.

لطفي دهينة/ أستاذ وباحث في العلوم السياسية -جامعة الصالح بوبنيدر- قسنطينة 03
بعض الشعارات لا اختلاف عليها لكنّها طوباوية
تتوالى جُمعات الحراك ويستمر زخمه بين الصعود تارة والتراجع تارة أخرى، والمُلاحظ أنّه في كلّ مرّة تبرز شِعارات سياسية جديدة تُعبر عن مطالب الحراك أو فئات منه أو تُؤكد على مطالب سبق الحديث عنها، كما أنّ هناك بعض الشعارات التي صاحبت كلّ فعاليات الحراك حتى صارت أيقونته وعلامته المُميزة بغض النظر عن واقعيتها أو طوبويتها، على غرار: «يتنحاو قاع» «كليتو البلاد يا السراقين» «جيش شعب خاوة خاوة»...إلخ.
لقد أصبحت الشعارات السياسة التي تُرفع بمثابة الرسائل التي يرد بها الشعب على رسائل النظام، سواء تلك الرسائل التي كانت تصدر عن الرئيس المستقيل أو رئيس الدولة الحالي أو حتى عن المؤسسة العسكرية، فهذه المؤسسات الرسمية التي تُخاطب الشعب في كلّ مرّة من خلال رسائل أو خطابات يرد عليها الشعب برفعه شعارات سياسية أو ترديد هُتافات مُعينة في مسيراته فتكون بمثابة الردود المُباشرة إن رفضًا أو قبولا لما طرحوه من أفكار أو آليات للخروج من الأزمة التي تعرفها البلاد.
بداية يجب التمييز بين الشِعارات البسيطة التي يصوغها المواطن والشِعارات التي يرفعها السياسيون أو التنظيمات المُختلفة، فالأولى تُعبر عن مكنوناته وأفكاره التي يرى أنّ الطبقة السياسية فشلت في صياغتها، كما تُعبر عن مطالبه التي يُريدها من منظوره البسيط بعيدا عن تعقيدات فكر الدولة أو أفكار السياسي المُتمرس، أمّا الثانية فهي عادة ما تكون أكثر دقة وتُعبر عن تصورات لحلول مُعينة للأزمة وفق منظور سياسي أو اتجاه إيديولوجي مُعين، فتكون مشحونة بالإيماءات والدلالات وقد تنبع من خلفيات تاريخية بعينها، وهذه الأخيرة لا تحصل على الإجماع من أطياف الحراك وفئاته المُختلفة بطبيعة الحال.
إنّ المُتأمل في هذه الشعارات السياسية يُسجل ملاحظات أهمها، أنّ هناك بعض الشعارات التي لا اختلاف عليها في أوساط فعاليات الحراك، لكنّها تبقى شعارات طوباوية غير قابلة للتنفيذ على الأقل في المدى القريب، وهي تلك التي تتعلق في عمومها برحيل النظام وكلّ رموزه وضرورة محاسبة المسؤولين الفاسدين والمُتسببين في الأزمة التي تعرفها البلاد.
أيضا مع بداية الحراك كانت الشعارات مُوحدة أو متقاربة وواضحة تنادي برفض العهدة الخامسة ومشروع التمديد للرئيس المستقيل، لكن هذه الوحدة لم تلبث أن صارت شتاتا عقب استقالته، ولعل سبب ذلك هو تعدّد الرؤية للمَخرج المُناسب للأزمة فتعدّدت الشعارات التي تطرح رؤى مُختلفة أو تنادي بقبول خارطة طريق مُعينة أو رفض أخرى.
كذلك، تطورت الشعارات لتواكب تطور أحداث الحراك، فبعد أن كانت تُنادي في بدايته برفض العهدة الخامسة لاحظنا ارتفاع منسوب التعاطي مع الأحداث السياسية في البلاد مِمَا انعكس على الشعارات التي صارت تقترح حلولا للأزمة وتطرح رؤى مُختلفة، كما أنّنا أصبحنا نلمس إجابات مُباشرة على رسائل النظام وخطابات المؤسسة العسكرية ومدى قبولها أو رفضها لما تطرحه من أفكار أو حلول.
دون أن نغفل أيضا ظهور بعض الشِعارات العنصرية وكذا الفئوية، لكنّها لا تمثل عموم الحراك بل تُمثل فئة مُعينة لذلك فهي لا تجد تفاعلا من بقية الفئات، لكنّها أصبحت تؤثر بشكل سلبي على الحراك ووحدته وتُساهم في تشتيته وتراجعه.كما نجد الطابع الساخر للكثير من الشِعارات التي تعكس نفسية الجزائري الّذي يملك القدرة على مواجهة الأزمات بالسخرية والنكتة التي تحمل معانٍ سياسية عميقة ودقيقة، وتعطي لهذه الشِعارات طابعًا مُمتعًا ونكهة خاصة تجعلك تلمس مدى نضج العقول التي كتبتها وصاغتها في قالب فُكاهي لتكون محبوبة وقريبة من الشعب.أيضا تنوع الشِعارات بين اللّغة الفصيحة سواء كانت عربية أو أجنبية وبين الشِعارات التي اُستعملت فيها اللّغة الدارجة والتي تشكل أغلبية الشِعارات التي وجدت قبولا في الشارع وترديدا واسعًا لها لأنّها قريبة من لغة المواطن العادي وسهلة الحفظ والترديد.
من جهة أخرى، نجد خصوصية شعارات الحراك الجزائري وتميزها عن الشِعارات التي رُفعت في مختلف الأقطار العربية وإن كانت قريبة من بعضها، مِمَا يُؤكد تفرد الحالة الجزائرية وتميز عقلية الجزائري، ولعل ذلك مؤشر على أنّ مآل الأزمة ربّما يكون مُختلفًا عما شهده الحراك العربي في باقي الأقطار.وكما هو واضح، يستمر الحراك في مطالعتنا بشعارات يحملها شباب جزائري واع كُتبت بمختلف اللغات واللهجات المحلية لتعبر عن آرائه وأفكاره وتصوراته للمَخرج من هذه الأزمة التي تعرفها البلاد، وتحمل رسائل مُوجهة لمختلف الجهات بشأن مواقفه من عديد القضايا ومدى قبوله أو رفضه للحلول والآليات المُقترحة، قد نتفق مع الكثير منها وقد نختلف مع بعضها لكنّها تبقى في النهاية صوت الشارع ولغة الحراك التي يجب أن نفهمها لنحسن الرد عليها بالرد المناسب.

محمّد بن زيان/ كاتب وناقد
خطاب بديل يبدعه الشعب تجاوزا لخطابات منفصلة عنه
لتمثل واستيعاب حمولة الشِعارات التي صاحبت الحراك ينبغي الانتباه إلى خلفية لا يمكن تجاوزها، وهي أنّ الشعارات ليست طارئة ولا مُستجدة بل كان الشعب دومًا يُبدع ما يُعبر عن غضبه وعن حلمه.. شِعارات تُمثل الخِطاب البديل الّذي يُبدعه الشعب تجاوزا لخِطابات مُنفصلة عنه، ويمكن أن يرصد ذلك في ما كان يكتب على الجدران وفي التعبيرات التي اختزل بها المواطن توصيفه للحال، ففي الثمانينيات وصف الشباب «رياض الفتح» بهُبل، للدلالة على بداية تخلي النظام عن الطابع الاجتماعي للدولة وبداية تشكل هيمنة الأوليغارشيا.. والتعبير مُستلهم من مرجعية دينية ولكنّه مُوظف ببلاغة وذكاء لتوصيف حالة بصيغة ربّما تتجاوز ما يُمكن أن يُطرح أكاديميًا ونخبويًا. وتمّ أيضا توظيف بعض العينات من الصيغ التي اقترنت بأفلام ومسرحيات كتعبيرات الممثل عثمان عريوات في فيلم «كرنفال في دشرة» أو سيراط في «شعيب الخديم»...
ويمكن أن تكون هناك دراسات لمسار الشِعار وتحولاته بالتوازي مع ما يحدث. وبالتتبع نجد أنّ الشِعارات تتكيف مع المُتغيرات وتستثمر بذكاء كلّ ما يُلخِصُ الحالة.
ولعل من المُهم التوقف عند أهازيج أنصار الفِرق الكروية التي أنجزت بلاغتها الاحتجاجية وضمنت ما يهتف به كلّ ما يُؤشر لهواجس وأحاسيس وأيضا وعي الجزائري البسيط. وبهذا الرصيد اِنبنت شعارات حراك 22 فيفري و22 فيفري محطة تحول بل يمكن الحديث عن تقويم للجزائر بما قبل وما بعد 22 فيفري.
شِعارات الحراك هي شِعارات شباب يعيش العولمة، أي مُرتبطٌ بمنجزات تكنولوجيا الاتصال ومتابعٌ لكلّ ما يجري وعايش في سنين قليلة تحولاتٍ هائلة كانت في أزمنة سابقة تستغرق عقودا.. تابع خيبات من سبقوه وعايش ما حدث لحراك شعوب أخرى فتعلم وصاغ ما يعبر عنه وما يعكس فطنته. في قراءة أولية للشِعارات نرصد ما يلي: وضوح التعبير ودقته عن الرغبة التي تسكن «شعب» يريد كرامة وعدالة واستكمال معركة أسلافه التي كانت تنشد جزائر قوية ومتقدمة. ونرصد أيضا، الرغبة في مصالحة مع الذاكرة واستعادة رموز التاريخ، ففي المسيرات تُرفع صور الشهداء. ونرصدُ أنّ الجزائري الّذي طالما وُصِف بالعبوس يمتلك القدرة على إبداع سخرية بليغة. وهناك قدرات إبداعية هائلة تستدعي التفات المعنيين، إبداعات فنية بارعة رافقت الحراك... وانتبه بعض الفنانين إلى ذلك فانصهروا في البوتقة كرجاء مزيان. الشِعارات تشكلُ صدمة للنّخب حتى تعيد مراجعة مفاهيمها وآليات اشتغالها.. حتى تستوعب الشعب وتنطلق لردم الهوة الفاصلة التي فاقمت التدهور وهندست للمتاهات.
منذ سنين نشر الكاتب المصري إبراهيم منصور كِتابًا عن ما أسماه بـــ»الازدواج الثقافي» ويقصد به أنّ هناك ثقافة رسمية وأنّ الشعب في مواجهتها يُبدع ثقافته التي تُعبر عنه.. كما سبق لمصطفى لشرف التذكير بأنّ الشعوب ذات التقاليد العريقة تُبدع تعبيراتها وآليات التعبير عن هويتها وهو ما أنجزه أسلافنا في مواجهة النمط الكولونيالي. الآن في دراسات تحليل الخطاب بدأ الاهتمام بدراسة هذه التعبيرات المُنتمية لِمَا يُعرف بالأند غرواند، وهي تعبيرات تسعف على تَمثُـل وفهم الواقع واتجاهاته.

عبد الحميد ختالة/ كاتب وباحث أكاديمي -جامعة خنشلة
بعض الشعارات تحمل تطرفا سياسيا
عرفت الجزائر منذ الثاني والعشرين فبراير حراكًا شعبيًا أسهم بشكل فاعل وبارز في تغيير الخارطة السياسية، ومعلوم أنّ هذا الحراك أنتجته حالة الانسداد السياسي الّذي نجم عن عزم السلطة الحاكمة على تمرير فكرة العهدة الخامسة للرئيس المستقيل، هذا التصور المُفلس سياسيًا قابله وعيٌ اجتماعي عميق جدا ظهر في مُختلف الشعارات التي دأب على رفعها الحراك كلّ جمعة في مسيرات مليونية.
ولعل هذا ما يلفت الانتباه ويستدعي القراءة، فاختيار أيّام الجمعة لتنظيم المسيرات عبّر عن خلفية ثقافية أبرزت الاتفاق على أنّ هذا الحراك يلتمس بركة هذا اليوم المُميز في حياة الجزائري، إضافة إلى لغة الشعارات ومحمولها الدلالي، فالّذي استوقفني في البداية هو اختيار الحراك للغة العربية في كتابة شِعاراته، وقد كانت رسالة اختيار اللّغة قوية جدا إذ تُبرز الفشل الذريع للمشروع التعليمي الّذي سعى من خلاله النظام السابق جاهدا إلى تحييد اللّغة العربية كثابت من ثوابت هوية المجتمع الجزائري وإحلال اللّغة الفرنسية البائدة محله.
إنّ أبرز شِعار رفعه الحراك في الجزائر هو شِعار «سلمية سلمية»، وهي العبارة التي تحمل تكثيفًا دلاليًا يستحضر بشكل مُباشر ما عاشه الشعب الجزائري في سنوات الإرهاب، كما عبّر هذا الشعار عن وعي سياسي رصين من أجل التغيير خالف تمامًا مُنطلقات الربيع العربي في بعض الأقطار العربية، وكان شِعار «سلمية سلمية» ردّا مُفحمًا لأصحاب الأجندات الأجنبية التي حاولت جرّ الجزائر نحو بؤرة العُنف والاقتتال، ومِمَا زاد من ترسيخ هذا الوعي السياسي هو شعار «جيش شعب خاوة خاوة» وهو الشِعار الّذي أبطل مفعول الفتنة التي كانت تُحاك خيوطها من أجل إحداث صِدام بين سُلطة الشعب مُمثلة في الحراك وسُلطة العسكر مُمثلة في قيادة الأركان.
مع توالي مسيرات الجمعة رفع الحراك شعارات جديدة بعضها أصبح يُشكل حوارا يتم من خلاله الرد على بيانات قيادة الأركان التي أعلنت مساندتها لمطالب الحراك، فظهرت شعارات تُنادي بتفعيل مواد الدستور الجزائري وخاصة المواد 102 التي تنص على شغور منصب الرئيس والمادتين 7 و8 اللتين تمنحان السلطة للشعب، ولعل هذه الشعارات التي أبانت عن الأفكار السليمة التي سيّرت محطات الحراك نحو الانتقال السلس للسلطة دون اللجوء إلى العنف.
إلاّ أنّ هناك شعارا رفعه الحراك بعد الأسبوع الثالث وزادت حدته بعد أن تناقلته الكثير من وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعين وهو شعار «تتنحاو قع»، هذا الشعار وإن كان يُعبر عن الإفلاس التام الّذي وصل إليه النظام السابق، إلاّ أنّه يحمل بعض التطرف السياسي كون تطبيقه يؤدي إلى إفراغ مؤسسات الدولة وهيئاتها وهذه مغامرة غير محمودة المآلات، بل قد يُطيل تفعيل محتوى هذا الشعار من عمر الأزمة السياسية في الجزائر، خاصة وهو يطرح ضمن فروعه سؤال من سيمثل الحراك داخل الهيئات المُفرغة مثل الحكومة والمجلس الدستوري، كما أظهر مورد هذا الشعار بأنّه لم يأتِ من لحظة واعية بل جاء في سياق رد مقتضب غلبت فيه العاطفة على العقل.
لقد قدمت شعارات الحراك في الجزائر صورة عن الوعي الّذي كان صامتا لدى الشباب الجزائري، كما عملت على تثقيف الجزائريين بمواد الدستور والقوانين السياسية التي كانت بعيدة كلّ البعد عن يوميات العوام وحتى بعض الفئات المُثقفة، كما حددت هذه الشعارات التدخل البائس لفرنسا في الشأن الجزائري ووصفتها بالعدو التاريخي مثل شعار «أبناء باديس في مواجهة أبناء باريس»، وقد أبلغت هذه الشعارات رسائل سياسية واضحة جدا رغم ما تخللها من شعارات أخرى جوفاء لم تمثل إلاّ أصحابها.

عبد القادر رابحي/شاعر وناقد وباحث أكاديمي –جامعة سعيدة
صرخات إنسانية صادقة خرجت من أفواه شعب بسيط
سيحتاجُ الأمر إلى وقت وجهد لأجل دراسة الظاهرة من طرف مختصين من مجالات عِدة لفهم نشأة هذه الشعارات وتحولاتها خلال الجُمع التي خرج فيها الشعب الجزائري إلى الشارع للتعبير عن غضبه إزاء ما وصل إليه الوضع السياسي والاجتماعي من حالة احتقان، وثورته ضدّ نظام وصل إلى نهايته الحتمية ولم يعد قادرا على تقديم بديل أحسن مِمَا قدمه طيلة العشرين سنة الماضية.
ورغم ذلك، فإنّ ما يمكن ملاحظته هو قدرة الحراك على أن يصنع له صوتا مُتميزا يُمكِنه من التعبير عن هذا الغضب العارم بكلمات بسيطة وعميقة ألقاها في خضم الخروج التاريخي قبيل 22 فبراير وفي يوم 22 فبراير وبعدهما بقليل. ذلك أنّ ما خرج من أفواه الشعب البسيط في هذه اللحظات التاريخية بصرخات إنسانية عميقة وصادقة هو ما رسخ وما سيرسخ، في نظري، في المدونة التي ستؤرخ للحراك من جوانبه الثقافية.
ولعل الأصل في بقاء بعض الشعارات واختفاء شعارات أخرى كثيرة هو الارتباط العضوي الصادق للشعارات الأولى باللحظة التاريخية التي ولدت منها، بينما لا تتوقف الثانية على فرض نفسها، لكن دون جدوى، نظرا لدخولها القسري في المسيرات بخلفية مُسبقة وبكتابة مُتعمدة ومُفكرٌ فيها، ولذلك فهي تفتقد للعفوية، والصدق الّذي انفجرت به حناجر الشباب في اللحظات الأولى للحراك.
إنّنا لا نستطيع أن ننسى ذلك الرجل الّذي صرخ بكلّ عفوية «هَبْطُوا الصُورة وخَلُّوا العَلَمْ». وكم كانت هذه الجملة رمزية ومُحملة بالدلالات التي تحقق الكثير منها الآن.
لقد هبطت كثيرٌ من الصور بينما لا يزال العَلم مُرتفعًا وسيبقى. كما لا نستطيع أن ننسى صرخة ذلك الشاب في ميكروفون الصحفية العابرة وهو يقول لها «يتنحاو قاع»، وهي الصرخة التي عبرت عن رغبة الشعب البسيط في رؤية طبقة سياسية ونُخب مُحيطة بها تذهب أمام عينيه إلى الأمكنة والأزمنة التي تستحقها بالنظر إلى ما كان يراه من تلاعب بمقدرات الأمة ومن استغلال لهيبة الدولة، ومن استعمال يتجاوز الحدود للسلطة من أجل تحقيق مكاسب شخصية ومآرب عائلية.
لقد كان الشعب يعلمُ جيدا ما يجري، وكان يعبر قبل الحراك عمّا يجري بأسلوبه وببلاغته التي يُمرر من خلالها مدى رفضه لهذا الواقع. ولذلك كانت الشعارات الأولى التي ولدت مع بداية الحراك أكثر تعبيرا عن عُمق المعاناة وعن مدى الفوارق التي يعيشها الشعب البسيط.
أما ما كان من إنزال كبير للشعارات في الجُمع التي تلت الجُمع الثلاث أو الأربع الأولى، فأغلبه كان مُتعمدا ومُفكرا فيه قبلا وخاضعًا لأجندات بدأت تتضح مع الوقت، وهي تخدم رؤى إيديولوجية ومصالح سياسية أو توجهات حزبية معينة.
غير أنّ الحراك، في الأصل، هو التعبير الواقعي عن كلّ هذه التوجهات بكلّ حرية، وهذا ما يحدث في كلّ جمعة، وأراه طبيعيًا جدا بالنظر إلى المسعى النهائي الّذي ينشد الحرية والتغيير والعدالة بكلّ توجهاته السياسية والثقافية.
غير أنّ الشِعارات والأغاني الأولى كانت فعلا مُعبرة، كما أغاني «الألتراس» في الملاعب التي طالما استهزأنا بها في فترات سابقة، عن واقع وصل إلى لحظة تاريخية تنشد التغيير وتريد تحقيقه ميدانيًا على قواعد أكثر عدلاً ومساواة وحرية.

فيصل حصيد/ كاتب وباحث أكاديمي -جامعة باتنة 1
عنوان تطوّر الوعي السياسي المجتمعي
إنّ قراءة الشِعارات التي تُعبِر بها الجماهير في الحراك الشعبي تأخذ ثلاثة مناحي رئيسية: نفسية واجتماعية وسياسية إيديولوجية، إذ تكشف لنا قراءة الشِعارات ذات المنشأ والبُعد النفسي عن حقيقة المشاعر التي تكنها الجماهير تجاه السلطة الحاكمة والتي تتمثل في مجملها في الرغبة في الاقتصاص، والتشفي، وحالة من الإحباط التام تجاهها، وهي ناشئة عن الإحساس بالتهميش والاحتقار وعقدة الفوقية في التعامل العمودي للسلطة مع الشعب، وهنا قد نجد عبارات وشِعارات قد تبدو في ظاهرها مبتذلة على منوال «رانا فايقين، كليتو لبلاد يا السراقين» «كليتو حقي جابهالكم ربي»...الخ لكنّها في الحقيقة تعبر عن مكنون نفسي يختزل المعاني التي سبق ذكرها. وهذه الشِعارات يكون مصدرها دائمًا عامة الشباب البطال الّذي عانى ويُعاني ويلات البطالة والمحسوبية والرشوة وقلة الحيلة وفاقة المعرفة حيث أصبح الشِعار ولأوّل مرّة في الحياة السياسية مُرادفًا للشعور.
أمّا قراءة الشعارات ذات البُعد الاجتماعي فهي عادة ما تكون صادرة عن الفئات النخبوية ذات التوجه النقابي المطلبي، التي تبني شعاراتها على انتقاد الراهن والمطالبة بالأفضل مع صياغته في قالب الحقوق المهدورة، والأموال المنهوبة، وترهن الرضا عن الأداء السياسي بحالة الرضا الاجتماعي عند مختلف الفئات المطلبية، كطلب متقاعدي الجيش «وطني وطني أين حقي»، «كلش مكانش؛ الفوط مكانش»، «خبز حرية عدالة اجتماعية» وهذا النوع من الشِعارات يكتفي أصحابه ببيان الخطوط العامة لمشروع المجتمع المرغوب دون عنايتهم بتفاصيل من يجسده أو رحيل من كان سببًا في تعطيله، ورهانهم الأكبر على تحسين الوضع الاجتماعي القائم أساسًا على الحقوق الأساسية الثلاثة: السكن والعمل والقدرة الشرائية. والشِعار بالنسبة لهم ليس وسيلة للتعبير أو تبليغ المطالب بل هو أسلوب للتفاوض ووسيلة للصراع والتدافع الحقوقي.
بالنسبة للشِعارات ذات البُعد السياسي الإيديولوجي فهي قديمة قِدم المُمارسة السياسية في الجزائر، لكن بروزها بهذا الشكل الوفير الّذي يُشبه حالة الإسهال الديمقراطي يعزى إلى حالة الكبت والخوف من الإقصاء الّذي كان قبل الحراك، حيث احتوى هذا الأخير على مختلف المشاريع والأفكار السياسية المتصارعة والمتآلفة معًا، المعقولة كمطلب الحرية واسترجاع الشعب سيادته وغير المعقولة أو التعجيزية كشعار «يتنحاو قع» الّذي تجاوز الباءات إلى كلّ حروف الهجاء، وبرز فيها التهور والتهجم والتخوين والتوثين، حتى أصبح على الجميع أن يرحلوا، وفي المقابل ليس من حق أحد أن يمثل الحراك، وهذه إشكالية عبثية قد تؤدي إلى إفراغ المطالب السياسية المتعلقة بتغيير النظام وبناء جمهورية جديدة بوجوه جديدة وبطابع مدني من محتواها.
لكن تدافع الشِعارات والشِعارات المضادة كانت له آثاره الإيجابية على لغة الشِعارات ومحتواها حيث برزت فئة جديدة من الشِعارات ذات الطابع السياسي البراغماتي التي لا تستعدي أحدا وفي المقابل لا تفوض أحدا، بل تؤسس لآليات في العمل السياسي تكون كفيلة بتأسيس الدولة المؤسسية المدنية ذات الطابع الجمهوري، هذا الاتجاه الجديد جعل من الشعارات السياسية ذات البعد الإيديولوجي والعشائري والفئوي والجهوي مجرّد ظواهر صوتية هي أشبه بالميموزيلا في الملاعب الإفريقية تطرب ولا تعرب، هذا الاتجاه البراغماتي الّذي يلخصه شعار «الجيش الشعب خاوة خاوة» يطلب من الجيش المرافقة والمساعدة لكنّه لا يفوضه لحسم مصيره، ويقبل من الطبقة السياسية مساندتها لكن لا يقبل احتواءها للحراك، ما جعل منسوب الوعي ومهارة التدافع السياسي تزداد عند طبقات الشعب الجزائري، ولعل أي تحليل لتطور الشِعار السياسي في الجزائر هو تحليل لتطور الوعي السياسي المجتمعي بأسره، كما أنّ قادم الأيّام يكشف عن سقوط واندثار منظومة شِعارات الأوليغارشيا والنفاق السياسي، والعفن العنصري، وازدهار شِعارات وحدة المصير وحتمية البقاء في الميدان لحماية ثورة الشعب والحفاظ على منجزاته.

الرجوع إلى الأعلى