ذلك الخشب الذي يحاصرني
يتحسّر الشيخ الذي لا نعرف اسمه على صور باهتة كثيرة تحيط به في المدينة التي غادرها الأحياء إما بالرحيل إلى غيرها حيث حياة أخرى ربما استطاعوا بناءها وتأثيثها من جديد أو بالرحيل عن كل الدنيا والاحتفاظ بمساحة صغيرة تحت ترابها.
ياسين سليماني
 يتحسّر أيضا على جزء منه دفن تحت الأرض وسبقه إلى ذلك العالم الضبابي بقي يرثيه أكثر مما يرثي قرينته التي سكنت لحداً وأحبّ أن يجعلها تحرس ساقه المبتورة بدفن الأخيرة إلى جوارها. نكتشف بعد ثمانين صفحة أنّ الرواية تتحدث عن قالمة (وهي التي ولد الكاتب في إحدى قراها) لكننا منذ البدء نفهم أنّ المجاهد قد قاسى لونا من أشد ألوان القسوة في الزمن الكولونيالي وهو بعد كل هذا الزمن يعيش تحت وطأة قسوة أخرى ربما تماثل الأولى إن لم تكن أشد منها: الوحدة. إذ رحلت «مريم» زوجته، وفقد ساقه في سنوات التمدد الأصولي فأصبح يرتكز على ساق خشبية ميتة وعصا خشبية أيضا ((لقد صرتُ للخشب وصار الخشب وحده يتحكم فيّ كيف يشاء ويذهب بي حيث يشاء ويفعل بي ما يشاء)) كما هاجر أبناؤه فلم يعد في البيت والمدينة إلاّهُ مما جعل تلك الوحدة المقيتة تزداد شراسة فـ((هذا قبرُ مريم التي تركتني لوحدتي وهذا قبر ساقي التي سلمتني للخشب بل هو قبري الذي ينتظرني))
يتضافر في الرواية من بدايتها إلى منتهاها خطان متعالقان: علاقة مرتبكة مع الحاضر أو الواقع المديني أولا، واسترجاع الماضي ثانيا وآخرا. والحاضر كما يصوره العمل يجمع عنده كل مظاهر البؤس والهشاشة والخذلان لذلك فهو يخاطب المدينة ((يا مدينتي الظالمة، أيتها الشقية يا من أطبقت عليّ كماشتها)) وبكل القلق الذي يساوره، وبكل الوحدة التي ترافق سنين شيخوخته إلى حد الذي يعترف فيه ((لم يبق لي في هذه الحياة شيء يمكن أن يثيرني أو يغريني أو يؤنسني ويخرجني من دوامة القلق الذي صار ينهشني ككلب مسعور)).
أمّا الماضي فرغم أنه كان في زمن الاستبداد ومع أنّ الشاب الذي كانه وقتها قد تعرّض لحدث مفصليّ في حياته حيث شاهد حبيبته تغتصب من قبل جندي فرنسي ثم سعى لأن يثأر لحبه ولها ولنفسه فلاحقه إلى أن استطاع قتله ومع المتتاليات التي لابدّ أنها تنجرُّ عن قتل جندي فرنسي من ملاحقة وبحث وتحرٍّ  إلاّ أنّ الشيخَ لا يزال يحن إليها يوما بعد يوم ولا يزال يثني عليها ((لقد كان ذلك الماضي داميا ومؤلما ولكنه كان جميلا وسيظل جميلا بل رائعا)). وهذا الماضي هو الذي تعنيه الرواية عندما تُعنونُ نفسها بـ»سنوات المحبة» لكن كيف يمكن أن يتحول الألم والدم بما هما شكل من أشكال القبح إلى مظهر من مظاهر الجمال بل الروعة. وسنوات الاضطهاد والعنصرية والتشريد والاغتصاب إلى سنوات للمحبة؟ ! ربما الحنين، وربما الوحدة بعد الاجتماع. فبالرغم السنوات العجاف التي تآكلت فيها مقدرات الشعب واضطُهد فيها الأبرياء كما تعبر الرواية إلاّ أنّ الشابَ وقتها كان مع من يحب وسط من يعرف من أهله. أمّا اليوم، فقد رحلت الغربان عن هذا الوطن الجميل لكن خلّفت جراحات لا تمحى. مع ذلك فإنّ الرواية ربما تنتابها بعض اللحظات من الاستدراك في أواخرها دون أن يكون لهذا الاستدراك سبب واضح فنجدها تقول :»صحيح أنّ ما نعيشه اليوم ليس بشعا كله وليس مؤلما كله وهو أفضل من ذلك الماضي الذي كنا نسحق فيه تحت الأقدام الخشنة كما تسحق التوافه من الأشياء ولكن الذي نتأسف له الآن هو إدراكنا أنه كان بإمكاننا أن نجعل حاضرنا هذا أفضل وأجمل مما هو عليه غير أننا تخاذلنا ولم نفعل شيئا))
الغريب في الرواية أنها تستذكر الحبيبة وتبتهج بالدفاع عن شرفها ضد مغتصبها بينما لا ترثي الزوجة، ولا نشعر أن الشيخ الذي تتداعى ذكرياته بشكل متقشف في الكثير من المرات يحن إلى الوقت الذي قضاه مع زوجته كما يحن إلى زمن حبيبته. صحيح أنه يتحدث عن مريم وعن مرايا مريم وساعات مريم التي كانت تحب أن تجمعها وتلمّعها لتبقى محافظة على جمالها ومع ذلك فإنّ شيئا ما في الرواية يقول للقارئ أنّ الشيخ يستمتع بتذكر الحبيبة أكثر مما يتذكر الزوجة أم الأولاد والأولاد. هل تمثّل الحبيبة هنا انصهارا مع الزمن الجميل زمن الثورة والجهاد المقدس ضد المحتل بينما تمثل مريم امتدادا للزمن البائس الذي لحق تلك السنوات؟ ثنائية الحبيبة والزوجة تبقى ملتبسة جدا.
مرافعة ضد العطب والتشوّه
تستعين الرواية بلغة لا تركن للاستعارات ولا المجازات إلا نادرا حتى أنها تبدو نصا يرافع بلهجة شديدة الحدة ضد العطب والتشوه الذي لحق بالمدينة، هذا النص يتأمل مطولا في الحياة والموت وكل الثنائيات: الجمال والقبح، الأنا والآخر، الماضي والحاضر، مع نبرة قاسية وحزينة بل ومستسلمة لما يشبه الموت. في الرواية تستطيل الآهات لتمتد إلى الكثير من الصفحات، الحزن على الماضي، والوقوف ضد الحاضر بينما لا تخاطر الرواية في الابتعاد أكثر واستثمار معطيات شديدة التنوع عند الشخصية. الكثير من الخطوط الدرامية كان يمكن أن تستغلها الرواية بشكل يحرك الأحداث كثيرا. نحن بالكاد نعرف شيئا عن مريم، كما أننا لا نعرف شيئا عن أبناء مريم. لا نعرف لماذا بقي الشيخ في المنزل لوحده طيلة هذه السنوات، أو على الأقل فإنّ الرواية لم تحاول أن تمدد في وعينا القرائي ما يجعلنا نقبل هذا الخضوع عند هذه الشخصية. نتعاطف مع الشخص في لحظات قليلة جدا، غير أنّ النبرة القاسية والتهجم الدائم والشكوى المستمرة التي تتكرر من صفحة إلى صفحة باستخدام العبارات نفسها في العديد من المواضع خففت كثيرا من التعاطف وحوّلته إلى ما يشبه الاستهجان. إنها شخصية سلبية في الواقع تعيش على خرائب الماضي لكنها لم تحاول أن تعيش يومها. هذه الاستطالة التي تمنحها الرواية لنفسها تتلخص في الشيخ الذي يخرج يوميا من بيته ويتجول في الأزقة ويبدأ برفض ما يراه منذ سنوات طويلة ويحاول استرجاع ماضيه. ومع أنها تعترف بنفسها أنه ((في الكثير من الأحيان يصبح ذلك الماضي مهما كانت صفته معرقلا لنا في هذه الحياة ولا نستطيع أن نتجاوزه ولا حتى الانسجام معه وكثيرون هم الذين توقفوا عند أبواب ماضيهم العظيم بل عند أسواره المنهدة وأطلاله المتداعية يقتاتون منها ولا يبرحونها)) إلاّ أنّ هذا الوعي لم يستثمر مطلقا ولم يتحوّل إلى فعل خلاّق يتم عبره تجاوز هذه العرقلة التي يمارسها الماضي. ظلّ الشيخ في الماضي يتذكر شظاياه الباقية في تلافيف ذاكرة لم تعد قوية حيث يبدأ كل يوم بالانتباه إلى الجو، ثم إلى العصا والظل المرافق والساحة التي يصل إليها هذا السائر على غير هدى والانتكاس إلى السنوات الآفلة. بهذه الكيفية فإنّ النهاية في الرواية لا تصنعها تراكمات الأحداث وتحولاتها المفصلية والصغيرة، بل تنهيها إرادة عليا هي إرادة الكاتب لا منطق السرد. إنها رواية دائرية تبدأ وتنتهي من نفس المكان، كان يمكن أن تنتهي في نصفها كما كان يمكن أن تنتهي في ربعها الثالث كما كان من الممكن ألا تصمت مطلقا على هذه الشاكلة إنها رواية تبدأ بالخشب ((جذب الباب من خلفه بهدوء وهو يخرج مطأطئ الرأس من المنزل تتقدمه عصاه الخشبية بلونها البني –ص 05)) وتنتهي بالخشب ((وراحت دقات الخشبتين تنتظم في الداخل وراح صوتهما يبتعد شيئا فشيئا حتى تلاشى-ص 227))

الرجوع إلى الأعلى