عمران مندثر ومدينـة سريــة   وأسمـاء ترقد في ذاكرة قسنطينـة القديمــة
«تسلقنا الثقب ... إلا أن وحدة الهجوم وجدت هناك أمرا مريعا ومخيفا أكثر من حضور العدو، فقد كان أفرادها في مواجهة لغز مفترس على استعداد لابتلاع كل من يفشل في حلّه. إنها بنايات غير مفهومة فيها بداية مسالك تعد بالعبور دون أن تحققه وأشياء شبيهة بالمداخل لا تقود إلى أي مخرج وزوايا حادة ومنفرجة متشابكة دون غاية، بنايات شبيهة بالمنازل لا يمكن أن نفهم طبيعتها أو نحدد واجهتها».

روبورتاج: سامي حباطي
بهذه الكلمات عبّر النقيب «دو لا تور دو بان» عن صدمة المستعمرين في أول مواجهة مع صورة مدينة قسنطينة بعد اختراق السور مباشرة يوم 13 أكتوبر من سنة 1837، حيث أوردها إرنست ميرسيي في مقدمة دراسته التي تعود لسنة 1878 بعنوان «قسنطينة قبل الغزو الفرنسي سنة 1837»، ونشرت سنة 1879 ضمن مجموعة المقالات الخاصة بالجمعية الأثرية لمقاطعة قسنطينة. وقد حاول ميرسيي في دراسته أن يعيد بناء خريطة قسنطينة قبل التغييرات الكبيرة التي أجرتها السلطات الاستعمارية على المدينة وهدمت فيها عشرات المواقع والأحياء، بالاعتماد على شهادات شفوية من السكان وعلى مخطط غير دقيق وضعه أول المحتلين.
وبينما عاد ميرسيي 41 عاما إلى الخلف، تسافر النصر 182 سنة إلى الوراء في من هذا الروبورتاج بحثا عن أزقة ومساجد وجوامع وبنايات وثكنات وأسرار طُمرت تحت أنقاض عمران المستعمرين الذين اسْتَعْدُوا ثقافة الآخر المختلف، معتمدين على خريطة تقريبية وضعها ميرسيي قبل حوالي قرن ونصف للتجول في مدينة ضائعة، ومتسلحين بالخيال فقط وبما نجمعه من أحاديث سكان اليوم، لعلنا نعتصر من ذاكرتهم ومن متاهة أسماء الشوارع والجدران والبنايات الحالية صورة عن قسنطينة المتربعة على 32 هكتارا قبل الاحتلال الفرنسي.  
بائعو الأورو أمام ثكنة الانكشاريين وسيدي الوزان
وقد اعتمدنا في تقفي المواقع الضائعة من مدينة قسنطينة، على الانطلاق من نقاط مرجعية، بعضها ما زال يحمل نفس الاسم القديم ونفس الشكل، بينما مازال في أخرى ما يشير إلى المكان السابق، لذلك اخترنا ساحة أول نوفمبر المعروفة بتجار العملة الصعبة اليوم مقابل مسرح محمد الطاهر فرقاني كنقطة للبداية، فقد بني الأخير بحسب ما يذكره إرنست ميرسيي بعد هدم بناء كان يطلق عليه الجزائريون اسم «دار أحمد باي» وسماه الفرنسيون «ثكنة الانكشاريين»، لأنه كان مستغلا كثكنة وإلى جواره مسجد «سيدي عمر الوزان» الذي هدمه الاحتلال أثناء إنشاء جزء من «سوق الخضر»، الذي تحول اليوم إلى مقر للبنك الوطني الجزائري.

وتشير خريطة ميرسيي إلى أن «دار أحمد باي» كانت تقع في أقصى نقطة من المدخل الشرقي للمدينة، أي بالقرب من البوابة الرئيسية التي كانت تسمى «باب الوادي» ومن المرجح أن موقعها اليوم في طريق السيارات ما بين البريد المركزي ومجلس قضاء قسنطينة، أو قد يكون أسفل من ذلك قليلا. أما على يمين «باب الوادي»، أي في موقع البريد المركزي اليوم فتُظهر الخريطة مسجدا صغيرا كان يسمى «سيدي دَبِّي» ولابد أنه كان يضم ضريحا لهذا الشيخ، فيما يقابله مسجد ثان على شِمال البوابة وكان يسمى «سيدي الواردة». وقد هدمتهما السلطات الاستعمارية أيضا.
توغلنا قليلا إلى غاية مدخل شارع طريق جديدة، الذي يحمل تسمية الشهيد العربي بن مهيدي، وبالنظر إلى نفس الوثيقة فإن مسجد سيدي عبد الرحمن القروي كان يقع على اليمين بعد موقع البنك الوطني الجزائري مباشرة، وربما لم يكن المدخل الثاني المؤدي إلى رحبة الجمال موجودا حينها، في حين كانت تقع خلفه «دار حسين باي» التي اختفت أيضا في البناء الكولونيالي الذي أنجز في الموقع المحافظ على اسم «رحبة الجمال» إلى اليوم رغم كل التغييرات التي طرأت عليه.
وتنبغي الإشارة إلى أن شارع العربي بن مهيدي، أو ما يعرف محليا بـ»طريق جديدة»، لم يكن موجودا قبل دخول الفرنسيين، فهم من قاموا بإنشائه وأتوا أثناء ذلك على الكثير من البنايات والدور الجزائرية، ثم أطلقوا عليه تسمية «الشارع الوطني» La rue Nationale، وهذا ما تدل عليه أيضا صفة الجديدة التي أضافها الجزائريون له. ويبدو أن الفرق لا يتمثل في هدم البنايات الجزائرية القديمة فحسب، وإنما يتجلى في المساحات التي استحدثتها السلطات الاستعمارية أيضا، وهو ما يضاعف من صعوبة البحث عنها اليوم، على غرار ما قد يواجه الباحث عن موقع سيدي عبد الرحمن القروي الذي يُحتمل أن يكون بالبناية الواقعة عند مدخل نهج ديدوش مراد، لتحل فرضية أخرى أن «دار حسين باي» قد تكون مكان «النزل الكبير» أيضا.
من «باب جديد» إلى  «برج السوس» الروماني القديم

وقبل الخوض في بحر المدينة القديمة التي تحصي عشرات النقاط التي سيكون علينا المرور عليها، عدنا إلى ساحة أول نوفمبر واتجهنا صوب شارع زيغود يوسف حاليا، الذي عرف باسم «شارع الغرب» ثم «شارع جولي» في العهد الاستعماري، بحثا عن موقع «الباب الجديد» الذي كان قائما نحو الشمال الغربي لباب الوادي، أي يرجح أنه كان في موقع بنك الجزائر حاليا، وإلى يمينه نحو جهة الجنوب الشرقي من المدينة مسجد يدعى «سيدي حسون»، بينما على اليسار من البوابة كانت توجد «دار الخليفة» التي حولتها فرنسا إلى مقر الخزينة وتقع بشارع مريم بوعتورة حاليا. وبمواصلة السير في اتجاه الشمال يلاحظ أن الأرضية تأخذ في الارتفاع قليلا، فيما يأتي على يسارنا زقاق يحمل اليوم اسم «نهج ماسينيسا»، بينما كانت التسمية الأصلية له قبل الاستعمار بـ»حومة المصاصة».

وأشار إرنست ميرسيي في دراسته إلى تشابه اسم «مصاصة» مع «ماسينيسا» وترك علامة استفهام عما إذا كان الجزائريون يقصدون ماسينيسا بتسمية «مصاصة»، فيما أعاد الفرنسيون إطلاق تسمية «ماسينيسا» على المكان وما زال يحملها إلى اليوم. وبعد حوالي عشرين مترا من التقدم في نفس الاتجاه الأول يقابلنا مقر بلدية قسنطينة، وهو نفس المكان الذي كان يرتفع فيه «برج السوس» الروماني الذي هدمه الفرنسيون أثناء إنجاز ما سموه «شارع الشمال»، وهو مطلع الشق الثاني من طريق زيغود يوسف حاليا، بحسب ما أورده الباحث الفرنسي ستيفان غزال في أطلسه.
وقد اكتشف الفرنسيون أسفل البرج نقشا جنائزيا على شاهد قبر باللغة اللاتينية يعود إلى شخص يدعى برايسِليس وكان من ساكني سيرتا الرومانية، وهي من أشهر النقوش الجنائزية القديمة المعثور عليها في قسنطينة وأكثرها قيمة، لأنها تحمل علامات على انتشار الفلسفة الأبيقورية بين سكان سيرتا ومناطق جزائرية أخرى في تلك الفترة بالنظر لتغنيهم بالحياة ومباهجها، بحسب ما يذهب إليه الأستاذ عبد الوهاب بوشارب في مقال منشور بدورية «ريفليكسيون» الخاصة بجامعة بربينيان الفرنسية حول الحياة الحضرية والاجتماعية لسيرتا الرومانية من خلال الكتابات الجنائزية.
استدرنا نحو الهاوية بعد ذلك من موقع «برج السوس»، من أجل إطلالة استعدنا فيها نفس المشهد البانورامي الذي يستطيع رؤيته من كان يقف في البرج، وفي محاولة لمحاكاة منظر من الماضي، فلاحظنا أن المناطق السفلى المحيطة بالمدينة من تلك الجهة تصبح ظاهرة بوضوح ويمكن من الموقع مراقبة ما يعرف اليوم بالمنية والحامة والغراب وعدة مناطق، إلا أن القدرة على مشاهدة موقع مدينة «تيديس» التي تتوسط جبلين هي أكثر ما يجذب انتباه من يحاول استعادة تصور سكان المدينة القدماء للمكان.
«الطابية» وقصة الفراغات تحت الأرضية ما زالتا في أذهان السكان

ورغم اختلاف ملامح المدينة ومسارات أزقتها اليوم، إلا أنه يمكن إسقاط بعض النقاط المرجعية القديمة على الموجودة حاليا، وقد واصلنا في نفس الخط لنبلغ الركن الأخير من مبنى البلدية، الذي أخذ بناؤه مكان مسجد كان قائما في المكان ويدعى «سيدي علي بن مخلوف»، بحسب ما ذكره نفس المصدر، لكن الخريطة التي وضعها لا توضح طبيعة البناء الذي كان في ظهر المسجد، ما يشير إلى فرضية أن المكان لم يكن مأهولا بالسكان في تلك الزاوية، أو ربما كانت عند المنعطف بنايات لعائلات بسيطة لم تحظ بما يكفي من الجاه لتعرف الشوارع بألقابها.
وبعد المنعطف مباشرة نكون قد بلغنا ما كان يسمى «طابية البرانية» -تعني «طابية الغرباء»-، حيث يخترق بدايتها زقاق أوّل يليه زقاق ثاني متجه نحو الشرق ويؤدي السير فيه قليلا إلى مسجد اختفى اليوم وكان يسمى بـ»سيدي البَيّاض». ومازال بعض من السكان القدماء يحافظون على تسمية الطابية عندما يتحدثون عن هذه المنطقة، رغم أن موقعها بالنسبة إليهم هلامي وقد يشمل منطقة كبيرة تمتد إلى غاية ثكنة القصبة، بينما كانت قبل الدخول الفرنسي تنتهي بعد ثلاثة أزقة تقود إلى غرب المدينة، لتبدأ بعدها «الطابية الكبيرة»، التي خلفناها وراءنا لنواصل طريقنا عبر شارع زيغود يوسف إلى غاية ما كان يعرف «بسطح المواجن»، ويعني هذا المكان حرفيا «سطح خزّانات المياه»، حيث حدثنا بعض السكان عن أشغال سابقة في الموقع، كشفت، بحسبهم، عن بناءات تحت أرضية كبيرة، كانت تستعمل كسجن، فضلا عن أن عدة انهيارات أرضية صغيرة سجلت بالمكان، لكن لا أحد ممن تحدثنا إليهم يعلم يقينا طبيعة المكان.
وسيرا في نفس الشارع نحو الشمال نبلغ حي القصبة، الذي كان يضم جامعا يحمل اسم الحي «جامع القصبة»، ويفصله عن «سطح المواجن» زقاق متجه نحو الشرق، بينما تقع هذه المنطقة اليوم ضمن نطاق ثكنة القصبة التي بناها المستعمرون بعد احتلال قسنطينة، كما أن نهاية الطريق تؤدي إلى أقصى نقطة مدببة تطل على الهاوية وكانت تسمى «كاف شكارة»، حيث يعتقد أنها قريبة من كهف الحمام الذي يقع تحت أنفاق كورنيش القصبة، كما قال الباحثون المستعمرون أنه أطلق عليه هذا الاسم لأن الباي كان يلقي بجواريه اللواتي يريد التخلص منهن من ذلك الموقع ويضعهن في كيس، بينما تورد روايات أخرى أن الأمر لم يكن مقتصرا على الجواري وإنما على جميع مناوئيه ومعارضيه الذين يحكم عليهم بالموت.
تسميات «غريبة» لم يسمع بها أحد من قبل
وواجهتنا خلال إعدادنا لهذا الروبورتاج مواقف طريفة مع بعض من سكان المدينة، كما أننا وجدنا بعض المتعة في سؤال السكان عن تسميات الأزقة والمساجد والدور المنقرضة من خريطة قسنطينة ومشاهدة ردود الفعل على وجوههم، حيث استغربها بعضهم رغم تأكيدهم على أن الأمر قد يتعلق بتسميات قديمة لم يعد لها وجود، بينما نفى آخرون وجودها تماما، مثل أحد السكان الذي التقينا به في سيدي الجليس، أين كان يشير إلى المكان الذي ما يزال موجودا، بينما ينظر إلينا باستغراب شديد عندما نقدم له اسما مختفيا، فيجيب واثقا من نفسه ومتيقنا أن هذا المكان غير موجود بتاتا في قسنطينة وأنه ينبغي علينا البحث في مدن أخرى.
أما أحد السكان القدماء الآخرين، فكان يشير إلى الأماكن الموجودة، بينما يرشدنا إلى مواقع خارج المدينة القديمة لشبه تسميتها مع نظيرتها بالمدينة، فقد سألناه على سبيل المثال عن مكان يدعى «المويلحة»، فأطال التفكير ثم قال «هذا المكان في حامة بوزيان»، بينما أكد لنا أن «بين المناحل» موجودة في السويقة إلى اليوم، في حين أثار استغرابنا أن بعض الشباب لا يعلمون من التسميات القديمة إلا الشيء القليل، حتى أنهم يطلقون على بعض الأزقة أسماء أشخاص اشتهروا بالفتوة وريادة عالم «الجريمة» في الماضي القريب والحاضر.
ورغم طرافة الأمر، فإن اغتراب سكان المدينة عن أسماء الأزقة والشوارع جلي في حديثهم إلينا، حيث يمكن أن يصادف السائر في المدينة القديمة ثلاثة أسماء أو أربعة لمكان واحد، إذ ينطق كبار السن بالأسماء الاستعمارية القديمة مباشرة، بينما يعيدون على السامع الاسم المتداول حاليا، وفي حال إطالة التساؤل يعيد الاسم الإداري المعتمد رسميا، وقد لاحظنا أن الأسماء الإدارية معلقة عند مختلف الأنهج والأزقة.
«الحبس» المشيد في الخزّانات الرومانية القديمة

عدنا أدراجنا إلى غاية الزقاق الذي يفرق بين «طابية البرانية» و»الطابية الكبيرة» وهو يمثل اليوم تقريبا مدخل ما يعرف بـ»نهج فلسطين»، حيث سرنا فيه إلى غاية التقاطع الأول مع شارع سويداني بوجمعة، الذي كان يسميه المستعمرون «شارع سوزي». وقد استوقفنا في هذا المكان، الذي استحدثته فرنسا من إحدى جانبي مقر البلدية إلى غاية ثكنة القصبة ويضم مقر الولاية القديم، أنه لم تكن يوجد فيه على جهة «الطابية» إلا عدد قليل من المباني في الماضي، بالنظر إلى أنه لم يكن يخترقه إلا زقاق ضيق وملتوي، باستثناء موقع اختفى تماما وكان يسميه الجزائريون بـ»القوس»، على عكس جهة القصبة التي مسحت منها فرنسا زقاقا طويلا كانت تتخلله عدة بنايات ويمكن تخيله اليوم امتدادا لشارع سويداني بوجمعة.
وأول ما يقع في هذا الزقاق الذي لم يكن يحمل تسمية هي «ديار بن كُتْجُك علي» على اليسار نحو جهة الشمال، تليها «حومة قديدة» وبعدها «أولاد بن حسين»، وهي مجموعة من البنايات، تحمل اسم عائلة واحدة وكانت تقع خلف جامع القصبة بحسب ميرسيي، في حين أخبرنا أحد السكان القدماء للحي أن اسم «حومة قديدة» ظل متداولا إلى فترة للدلالة على أحد الأماكن القريبة من شارع سويداني بوجمعة، لكنه لم يعد يتذكر ذلك نظرا لكون التسمية لم تتردد على مسمعه منذ فترة طويلة.
أما في الجهة المقابلة للمواقع المذكورة من نفس الحي فكانت توجد «تربيعة حوكة»، والتربيعة مكان «مربع» في بناء يجمع مجموعة من ممارسي نفس الحرفة، و»تربيعة حوكة» كانت تجمع الخياطين وصانعي ملابس الرجال بحسب ما تؤكده دراسة منشورة عام 2016 في مجلة «علوم وتكنولوجيا» لجامعة الإخوة منتوري حول المراجع الهوياتية في التقسيم الهندسي لمدينة قسنطينة القديمة من إعداد الباحثتين بولامية اسمهان وفتيحة بن إيدير من جامعة قسنطينة 3.
ومقابل «حومة قديدة» كان يقع «الحبس»، وهناك من يعتقدون أن المكان عبارة عن خزانات مياه رومانية حولت إلى سجن، بينما يقع هذا المكان داخل محيط الثكنة وربما يكون جزء منه خارجها، في حين كانت توجد أسفل الحبس إلى ناحية الشرق بوابة رمزية يسميها القسنطينيون «باب القصبة»، كما تجب الإشارة إلى أن فرنسا هدمت مسجدا في أقصى شمال المدينة كان يسمى بـ»سيدي عبد القادر» وموقعه اليوم بالقرب من مدخل جسر سيدي مسيد قدوما من شارع طاطاش بلقاسم.
«عيون القصبة» و«سيدي فليو» و«سويقة بن مغالف»

أما النقطة الثانية التي يتصالب معها نهج فلسطين فهو شارع «سي عبد الله بوهروم» الذي ينتهي عند بداية شارع «مريم بوعتورة» مقابل مقر الديوان الوطني لحماية الممتلكات الثقافية ويمتد إلى غاية نهاية القصبة. ويؤكد ميرسيي أن هذين الشارعين قد شُقّا انطلاقا من «الباب الجديد»، وكان شارع «سي عبد الله» يحمل اسم «شارل ماري دينيس دو دومريمون» وهو جنرال قضى عليه الجزائريون في مقاومة الحملة الفرنسية الثانية على قسنطينة، بينما يمثل «مريم بوعتورة» اسم ما عرّفه المستعمرون بـ»دومريمون السفلي» ثم بـ»بروناش» بعد ذلك.
وهدم المستعمرون العديد من البنايات في هذا المكان، ففي شارع «سي عبد الله» كان يوجد «جامع خليل» يليه سوق صغير نحو الشمال كان يسمى «سويقة بن مغالف» المقابل لمسجد «سيدي يحيى الفسيلي» وهذان الموقعان قريبان من تقاطع نهج فلسطين حاليا مع شارع «سي عبد الله»، وكان يقع قريبا منهما أيضا مسجد «سيدي مُفرّج» و»حمام السلطان» في الجهة المؤدية إلى الواجهة الخلفية لقصر الباي. أما قبل الوصول إلى «باب القصبة» فكان يوجد مكان يدعى «قبة بشير» وفي مقابل الباب منزل يدعى «دار بن روم».
ولم نتمكن من تحديد أماكن المواقع الأخرى الموجودة على خريطة ميرسيي عبر الشارع المذكور، فجميع البنايات الموجودة هناك أنشأها الفرنسيون منتصف القرن التاسع عشر، وهي تعتبر أولى مناطق المدينة التي سكنها المستعمرون بعد غزو قسنطينة سنة 1837، وكان يوجد فيها بعد باب القصبة ناحية الشمال مسجد يسمى «سيدي فليو» يؤكد ميرسيي أنه مقابل لثكنة القصبة في شارع كان يسميه الفرنسيون باسم القائد البيزنطي «سالومون» ويرجح أنه الزقاق الواقع بعد نهج عمار سطايفي حاليا ويؤدي إلى ما وراء مسجد سيدي الكتاني، بالإضافة إلى مكان يأتي بعده يسمى «دار الصايغي» –وتعني دار الصائغ- من المفترض أنها كانت تقع مقابل السجن العسكري بالقصبة.
وكان يوجد بين «دار الصايغي» ومسجد «سيدي فليو» مكان كان يسميه القسنطينيون بـ»عيون القصبة» وكانت تقع عند نهاية شارع «سي عبد الله» حاليا عند مدخل النهج الذي سماه الفرنسيون «نهج المنبع»، ما يشير إلى وجود المياه بها.
«غدير بوالغارات» وقصة الوادي الذي يعبر أسفل البنايات

واستوقفتناالعودة إلى مطلع شارع مريم بوعتورة أمام ما كان يعرف بـ»غدير بوالغارات» وهي النقطة التي شقت منها فرنسا «شارع أومال» La rue d’Aumale، التي تعرف اليوم بـ»نهج عسلة حسين»، وقد كانت تمتد بحسب ميرسيي من «غدير بوالغارات» إلى غاية «جامع الجُوّار» المختفي أيضا ويعني اسمه «جامع النساء»، ويرجح أن يكون موقعه اليوم نهج ديدوش مراد، المسمى سابقا بشارع كارامان، في محيط الأروقة التجارية القديمة المعروفة باسم «الغلوب». وما يثير الاهتمام أن سكان البناية رقم 1 من نهج عسلة حسين يشتكون منذ عقود من المياه الجوفية التي تنبع من باطن الأرض وتفيض عند هطول الأمطار ما يدفع القاطنين بالبناية إلى الاستنجاد بالحماية المدنية لتصريفها.
وتحدثنا إلى السكان، حيث أكدوا لنا أن «هناك وادٍ من المياه يمر أسفل البناية، فضلا عن أن أصحاب بنايات أخرى بنفس الحي يعانون من نفس المشكلة»، كما يؤكد السكان أن المياه تأتي من أعلى القصبة، أي عبر الموقع الذي كان يسمى قديما «غدير بوالغارات» بحسب ما وجدناه عند تقفي كلامهم، رغم أن ميرسيي لم يحدد إن كان الأمر يتعلق بمنبع للمياه أو قناة مصطنعة ولا يوجد ما يشير إلى الماء إلا كلمة «غدير»، في حين ذهب أحد السكان بعدما كشفنا له عن موقع «الغدير» في الخريطة، إلى أنه من غير المرجح أن يكون في المكان منبع طبيعي نظرا لكون المنابع لا تتشكل في المواقع العالية، وإنما قد يتعلق، بحسبه، بنظام روماني قديم اصطنع لنقل المياه، بالنظر لوجود خزانات كبيرة في الجهة العليا من القصبة.
ويظل هذا الأمر من أسرار المدينة التي لم يكشف عنها بعد ولم ينتبه إليها الباحثون، فقد أكد لنا السكان أنهم اشتكوا للسلطات المعنية عدة مرات من المشكلة، لكن لم يكشف إلى اليوم مصدر المياه التي تفيض من حين لآخر في قبو البناية، موضحين أن هذه المياه صافية ولا تشوبها الأتربة، ما يدل على أنها قد حفرت مسارها في الأرض منذ فترة طويلة جدا.
متوسطة تخفي مدخل «مدينة سرية» تحت الأرض

ولم نكتف بإطالة وقوفنا في المكان بسبب «غدير بوالغارات» فقط، لكن ميرسيي علّم نقطة أخرى ذات أهمية بالغة، كانت تسمى بـ»روس الداومس»، حيث قاربنا موقعها مع المخطط الحالي للمدينة، فوجدنا أنها تقع تقريبا عند منتصف نهج «عسلة حسين» بالحياد قليلا نحو جهة الشمال، أي في جهة الساحة المسماة «سي الحواس» مقابل قصر أحمد باي، في موقع متوسطة فاطمة الزهراء أو في جهتها الخلفية، خصوصا وأن سكان المكان أرونا بناية تطل على نهج «عسلة حسين» لكنها مغلقة، ويوجد فيها أثر باب بني عليه جدار، تعلوه نافذتان قديمتان. وتدور بين قدماء أبناء الحي قصص حول هذه البناية، حيث يقول البعض أن فيها ضريحا يهوديا، في حين يرجح في الخريطة أنها امتداد لمدخل «رؤوس الدوامس».
«رؤوس الدوامس» هي الأنفاق المختفية تحت الأرض، التي كانت تمتد تحت مدينة قسنطينة، ولا يعلم بأمرها إلا القلة، كما أن الدخول إليها كان مقتصرا على النافذين الذين يحوزون مداخل إليها من منازلهم أو قصورهم، وقد أشار ميرسيي إلى أن «الأهالي يعتقدون أن رؤوس الدوامس هي مدخل الأنفاق التي تمتد أسفل جزء كبير من المدينة»، في حين ردد لنا سكان من القصبة نفس القصة، مشيرين إلى سيدة عاشت قديما، تدعى «امّا شخشوخة» وتنحدر بحسبهم من عائلة عريقة كان أفرادها السابقون من خدّام القصر، كانت تحدثهم عن بوابة تحت الأرض في قصر الباي يستعملها الباي وحاشيته للتنقل في المدينة سرا.
ووجدنا مدخل الأنفاق في المتوسطة، حيث دخلنا إلى قبوها الذي يبدو أن بناءه يعود إلى ما قبل دخول الاستعمار الفرنسي ويستغل حاليا كمخزن، كما أن قاعدة البناء رومانية بحسب ما تدل عليه الحجارة الكبيرة المستعملة فيه. وأثار انتباهنا في القبو الذي كان يضم بابا بني عليه جدار بحسب ما يبدو عليه من آثار، فيما يوجد بئر غائر لعدة أمتار في أرضية الغرفة المحاذية لنفس الموقع ويمكن مشاهدة مياهه بصعوبة بسبب عمقه. وقد لفت انتباهنا في القبو الأبواب السميكة التي وضعها المستعمرون، بعد أن جعلوا من البناء ثكنة عسكرية، فضلا عن لافتات صغيرة كتب عليها «سري جدا». كل شخص يحوز هذه الوثيقة دون أن تكون له الصفة للاطلاع، يقع تحت طائلة مرسوم 29 جويلية 1939 المتعلق بالجرائم والجنح ضد الأمن الخارجي للدولة»، حيث كان بوليس الاستعمار يستغل المكان لتعذيب الجزائريين خلال ثورة التحرير. ويمكن الولوج من قبو المؤسسة مباشرة إلى حجابة باحتها الأساسية من خلال سلالم ضيقة تم غلق نهايتها بحسب ما لاحظناه، بينما يوجد في مكان المدفأة المدخل القديم المؤدي إلى البناية التي يعتقد السكان أنها كانت ضريحا يهوديا، حيث تقول رواية أنها كانت مفتوحة من قبل وقد عثر فيها بُعيد الاستقلال على مخطوطات وكتب بلغة أخرى، يعتقد أنها عبرية، كما أنها تابعة للمتوسطة اليوم، ويمكن الدخول إليها عبر سلالم خشبية من الطابق العلوي من المخبر لكن المنفذ قد سُدّ ودمج مع الأرضية وما زالت آثار ذلك ظاهرة، فضلا عن أن المدخل الخارجي المطل على نهج عسلة مغلق.  وحدثنا سكان من رحبة الصوف عن نفس الأنفاق، حيث قال أحد القاطنين أنها كانت موجودة في منزل جده، الذي بني بترف ظاهر في فترة قديمة وترجح عائلته أن ملكيته كانت تعود لأحد أعيان المدينة، في حين أكد لنا أنه دخل النفق الموجود تحت منزله وقاده إلى غاية سوق العصر، فضلا عن أن بعض السكان الكبار في السن يرددون قصة وقعت بعد الاستقلال، عندما ضل عمال تابعون للبلدية طريقهم داخل هذه الأنفاق، المنجزة بالحجارة الضخمة وأسقف من خشب العرعار، إلى أن انتهى بهم الطريق أسفل أحد المنازل وأخرجهم سكانه.
وقد وجدنا في أرشيف الجمعية الأثرية لقسنطينة لسنة 1853 في المحضر الخاص بيوم 15 جويلية لنفس السنة، إعلانا عن اكتشاف مخطط للأنفاق الأرضية الرومانية القديمة، بعد أن «قدمه يهودي يدعى ابن زغبيب، بعد أن كان في منزله بنهج «فيو» المعروف حاليا برواق السعيد»، في حين نبهت الجمعية أن هذه الأنفاق من نوع السراديب الرومانية.
فرنسا شيدت أحياء جديدة بنفس تقسيم بعض الأزقة القديمة

وبالعودة إلى نهج ديدوش مراد عبر نهج عسلة حسين، نكون قد وقفنا فيما كان يسمى قبل الاستعمار الفرنسي بـ”سوق الغزل”، وكان يقصد به نفس الشارع الذي أطلقت عليه فرنسا تسمية شارع “كارامان” بينما يبدو أن الاستعمار حافظ على نفس التقسيم السابق في الأسماء رغم أنه عمد إلى شقّ شارع أكبر من مجرد ممر ضيق للعبور كما كانت عليه وضعيته قبل الاحتلال، فالجزء الثاني من الشارع كان يسمى بـ”زقاق البلاط” ويقود السائر مباشرة إلى سوق العصر، دون إمكانية الوصول إلى الجهة الواقعة أسفله مثلما يسجل فيه اليوم، في حين أطلقت فرنسا تسمية “شارع فرنسا” على الجزء الثاني الممتد مما يقع وراء ما يسمى حاليا بمسجد الباي، وهو ما نعرّفه اليوم بشارع 19 جوان.
وكان شارع زقاق البلاط ينتهي عند الجهة الشرقية إلى مكان يسمى بـ»الموقف»، وهو نقطة التقاء عدة أزقة، ويوجد في موقعه حاليا جزء من نزل باريس وبعض البنايات الأخرى المتاخمة له وقبله قليلا كان يوجد مسجد «سيدي الفوّال»، فيما كانت تتوسط المسافة بين «جامع الجوار» والموقف «زنقة» بنهاية مغلقة على جهة اليمين تقود إلى مكان يسمى «حجرة البير»، التي يرجح أنها كانت في ممر ديدوش مراد المغلق وما يزال موجودا إلى اليوم بين البنايات الكولونيالية للشارع. أما على جهة اليسار فكان يوجد مكان يسميه السكان «الدريبة» ويرجح أنه كان قصرا صغيرا، نظرا لوجود ممر نفقي قبله مباشرة وكان يسمى بـ»سباط الباي» ويؤدي إلى زقاق ضيق توجد فيه مجموعة بنايات تسمى «دار الباي» التي يشير ميرسيي أنها استعملت كقصور للباي وثكنات وكانت إحدى واجهاتها تطل على ما يسمى اليوم نهج ديدوش مراد بينما تطل الواجهة الجانبية على ما يسمى اليوم بنهج معروف محمد.
وكان الممر النفقي الموجود في آخر نهج معروف محمد يسمّى «سباط باش آغا»، في حين كان يوجد ممر نفقي آخر يسمى بـ»سباط الحنانشة» ويقع فيما نسمّيه اليوم بشارع مريم بوعتورة وأشار ميرسيي إلى أنه قد اختفى، فيما يحمل يلاحظ أن هذا الاسم ما زال متداولا بشكل واسع في الشرق الجزائري ويشير إلى قبائل الحنانشة الشاوية التي كانت تعتبر من أكبر القبائل في الجهة الشرقية من الجزائر، فيما يأتي بعد هذا الموقع «سباط دار الخليفة» بالتقدم قليلا نحو بداية شارع سي عبد الله غير بعيد عن «دار بن مزورة».
ويثير الانتباه أن السلطات الاستعمارية قد حافظت على بعض من التقسيم القديم للأحياء الجزائرية التي تعود إلى ما قبل الاستعمار عند تشييدها لأحيائها الجديدة ذات النمط العمراني الأوروبي، فرغم أن الطابع الجزائري اختفى تماما منها إلا أن التأمل في خريطة ميرسيي يشير إلى أن تقسيم بعض الأزقة نفسه تقريبا، فضلا عن أن الكثير من الشوارع قد شقت داخل نفس شرايين المدينة التي رسمها الجزائريون، حيث يبقى البحث عن جواب لهذا السؤال مرهونا باجتهاد المعماريين وبحثهم في أسبابه. وقد حدثنا بعض سكان نهج ديدوش مراد أن جزءا من متوسطة فاطمة الزهراء عثماني البناء، وهو ما يظهر في جهتها الخلفية المطلة على نهج «عسلة حسين».
خربة طينة وأسطورة تأسيس مدينة قسنطينة

وسألنا في تجوالنا بالأزقة السفلى لما يعرف اليوم لدى سكان قسنطينة بحي السويقة عن مكان يدعى «خربة العرب» وتعني «أطلال العرب»، حيث دلنا على موقع يعرف لدى السكان بـ»الخربة» ولم يكن ممكنا لنا الوصول إليه عبر البنايات المهدمة، فيما أكد لنا مرافقنا أننا نستطيع رؤيته من أعلى جسر سيدي راشد، وتوجد فيه نخلة شامخة، بينما نفى علمه بمكان يسمى بـ»خربة طينة» أو «أطلال طينة»، وهي النقطة التي علمها ميرسيي في خريطته على الجهة الجنوبية من المدينة غير بعيد عن باب الجابية الذي يمثل مدخل السويقة حاليا قدوما من جسر سيدي راشد.
وقد عرّفها ميرسيي في دراسته بأنها الجزء المتاخم للحصن الغربي من المدينة بمحاذاة ما ظل يسمى لدى سكان قسنطينة إلى وقت قريب بـ»الخرّارة»، وهي مكان كانت تلقى منه مياه الصرف الصحي لأنها آخر نقطة على هاوية المدينة من الجهة المذكورة، وكان خلفها موقع يسمى «الزرزايحة» سألنا السكان عنه حاليا ولم يؤكد لنا أي منهم وجوده.
ويلفت الانتباه في وثيقة ميرسيي علامة الاستفهام بعد اسم «طينة» التي نقلها باللغة العربية بحرف الطاء، حيث بحثنا عن الموقع فوجدنا أنه يكون تقريبا أسفل أول قوس من جسر سيدي راشد من جهة باب الجابية، أي عند مطلع سوق «تحت القنطرة»، حيث يوجد في نفس المكان أيضا بناء يبدو أنه من بقايا حصن روماني أو بيزنطي قديم من الحجارة التي شيد بها بالإضافة إلى الحجارة الظاهرة التي بني عليها مقر الأمن الحضري الواقع عند مدخل الجسر، وهو ما يرجح أن يكون من بقايا «الحصن الغربي» الذي يتحدث عنه ميرسيي.
أما اسم طينة فقد وجدنا أن أسطورة محلية جميلة تتوارى خلفه، ووردت في كتاب لباحث استعماري يسمى أوغست مولييراس بعنوان «الدروس المتدرجة للمواضيع العربية والفرنسية»، حيث يورد الكتاب أن تأسيس المدينة كان على يد امرأة تسمى طينة عاشت مع ابنها على الصخر ولم تكن تتقوت إلا على ألبان عنزة لم تكن ملكها، إلى أن حل بدو رحل بجوارها فأرادت أن تكرمهم ولم تجد إلا أن قدمت لهم ابنها ليذبحوه، لكن البدو ربوه حتى شبّ واستطاعوا أن يبنوا مدينة وجعلوا من ابن المرأة ملكا عليهم فتعرفت عليه من علامة خاصة على جسده وبنى هو لأمه قصرا سمي بعد ذلك بـ»قصر طينة». وقد فهم بعض الفرنسيين أن التسمية تعني «تينة» فترجموها على أنها شجرة التين، في حين تعد هذه إحدى الروايات التي يستند عليها من يقولون أن الاسم الحقيقي لقسنطينة هو «قصر طينة» في محاولة للتعريب، رغم وضوح علاقة الأمر بالإمبراطور الروماني قسطنطين الذي أعاد ترميم المدينة بالأدلة التي يوفرها علم الآثار.  
مدافع المدينة المصوبة نحو «باردو»

وكان يحيط بمدينة قسنطينة سور كبير على مستوى الجهة المطلة على وادي الرمال، حيث يمكن إلى اليوم ملاحظة آثاره بالعين المجردة من جسر سيدي راشد، في حين اختفت الأجزاء المتبقية منه في باقي أطراف المدينة، وقد كان يوجد فوق «باب الجابية» مباشرة مكان يسميه الجزائريون «سور المحاولة» ويعادل اليوم ما يعرف محليا بزقاق «الروايال» الذي يقود مباشرة إلى ساحة مسرح قسنطينة، في حين يمثّل مصطلح «المحاولة» جمعا لتسمية «محلة» وهي فرق عسكرية عثمانية كانت مهمتها جمع الضرائب وقمع الانتفاضات المحلية، في حين كانت تقع أسفل باب الجابية ما كان يعرف بـ»الطُبّانة» وتنطق باؤها مثل صوت حرف «P» في الفرنسية بحسب ميرسيي، وهي عبارة عن تحصين تنصب فيه المدافع لرد الهجمات على المدينة.
وتشير بعض الكتب الاستعمارية القديمة إلى أن الأسوار لم تكن تحيط بكامل المدينة، وإنما كانت الواجهة في بعض النقاط من المدينة تتمثل في خلفيات البنايات نفسها، وتنتهي جميعها نحو الجهة الشرقية الجنوبية إلى جسر «باب القنطرة» الشهير، الذي أعادت فرنسا بناءه بهياكل معدنية بعد احتلالها لقسنطينة لتعرض الجسر القديم الذي أصلحه صالح باي إلى تشققات وتصدعات، فيما لا يوجد عن أقصى جنوب المدينة إلا مسجد سيدي راشد، الذي ما يزال قائما إلى اليوم.
وتظهر بعض الرسومات اليدوية الأوروبية عن المدينة في سنة 1837 أن مدخل قسنطينة من الجهة الغربية كان متصلا بثلاثة طرق ينطلق اثنان منها من حي باردو ويذهب أحدهما إلى باب الجابية، بينما يتصل طريق ثالث بجهة ما يسمى اليوم بعوينة الفول ومن جهة كدية عاتي إلى غاية باب الوادي، في حين تظهر في الرسومات بناية واسعة على مستوى حي باردو يرجح أنها كانت ثكنة أو إسطبلات لخيول العثمانيين، كما أن الكتب الفرنسية تتحدث عن إسطبلات تابعة للباي وكانت موجودة بعوينة الفول، حيث تستوعب ما يقارب الألف حصان.
الإهمال يدمّر ما نجا من العدائية العمرانية للمحتلين

وسجلنا خلال جولتنا المطولة بالمدينة أن كثيرا من النقاط التي تحدث ميرسيي عن وجودها في زمنه قد اختفت تماما اليوم من الخريطة، فبعضها قد خضع لتغييرات خلال القرن العشرين في الجزء الاستعماري منه، بينما اختفت الأماكن الأخرى جراء الانهيارات والإهمال، كما أن همّ أغلب المقيمين في المدينة القديمة لم يعد إلا في الحصول على سكنات اجتماعية جديدة اليوم، بحسب ما لمسناه من تجاذب أطراف الحديث معهم. وليس من الصعب على أي كان الوقوف من جسر سيدي راشد لمشاهدة الجزء الجنوبي من السويقة، بعد أن تحول إلى خراب تام بسبب برامج الترميم «الفاشلة» عمليا والتي لم تتعد أن تكون مجرد برمجة لمشاريع لم تجسد إلا نسبة ضئيلة جدا منها، في وقت يؤكد لنا فيه كهول ولدوا خلال الثورة أنهم يتذكرون تجولهم في هذه الأنهج خلال الستينيات والسبعينيات.
وقد دخلنا هذا المكان عن طريق «باب الجابية»، حيث اخترنا «مسجد سيدي عفان» الخاضع للترميم كنقطة بداية، بعد أن انعطفنا في الشارع الذي كان يسمى في الماضي باسم «زنقة الدرداف»، وتعني هذه الكلمة «الخطوات المخاتلة»، حيث يقود إلى أول ممر نفقي بالموقع الذي توجد فيه «دار الدايخة» الخاضعة للترميم حاليا ويسمى بنهج دعرة قدور، بينما يقود هذا الزقاق الذي يسميه السكان القدماء بـ»عفان» إلى ما كان يعرف بـ»سباط دار الخليفة»، وهو المكان الذي تبين لنا أنه اختفى اليوم وسط التعديلات الكثيرة التي أدرجت على الموقع، فيما أجابنا أحد السكان أنه يوجد شخص يعيش في المكان يدعى «خليفة»، لكن لا يوجد أي ممر يحمل تسمية «دار الخليفة»، فيما كانت توجد «زنقة سيدي عفان» في الجهة الخلفية من المسجد، وبعده «كوشة الزيات».
وقادنا «توتو» الساكن بالحي، إلى غاية الجهة السفلى وسط أطلال دور قديمة وبعض الدور التي ما تزال تكابد عوامل الزمن وتصدعات عميقة في جسمها، حيث حذرنا عند بلوغنا نقطة متقدمة نحو الجنوب من التعرض للسعات الثعابين الموجودة بكثرة في المكان وسط الحشائش الطويلة، في حين سألنا المعني عن مكان يسمى «القوس» فقال أنه لا يعرفه أبدا لكنه حدثنا عن قوس قديم كان موجودا ومسنودا بأعمدة رخامية وتهدم في الثمانينيات.
وقد كان يوجد في هذا الموقع ممر نفقي عُرف بـ «سباط الخمّار» يؤدي إلى منزل كان يسمى بـ»دار قرين» أسفل ما يعرف بـ»الزرزايحة»، فيما تقع فوق «خربة العرب» ما كان يسمى «أقواس بن نجدة» و»سباط بن الحملاوي» ومسجد «سيدي بورغدة» الذي يعلوه مسجد «سيدي علي الطنجي»، في حين ما زال المكان المعروف بـ»بير المناحل» صامدا أسفل حي السويقة رغم بعض التغيير الذي طال اسمه ليتحول إلى «بين المناحل»، وغير بعيد عنه مسجد «سيدي الخِزري».
وما زالت «زنقة العمامرة» صامدة أيضا في السويقة، في حين عدنا أدراجنا عبر «سيدي بزار» إلى غاية «سباط البوشيبي» الذي يفضي إلى الزقاق الرئيسي للسويقة، تاركين وراءنا العشرات من الدور القديمة التي استحالت ترابا ونمت فوقها الأشجار والحشائش، لننعطف نحو اليمين وندلف إلى الزقاق المحاذي لمسجد «سيدي عبد المومن» فبلغنا محيط مسجد «سيدي بوعبد الله الشريف». وقد لاحظنا أن تعديلات قد أدرجت بمحيط هذا المسجد أيضا، فقد أغلق ممر كان بجانبه الأيمن وينحدر إلى الأسفل، بينما لم نتمكن من التوغل أكثر من الجهة الأخرى التي كانت تضم مكانا يسمى «حومة الطبّالة» بحسب الخريطة التي بحوزتنا.
ويفضي شارع ملاح سليمان إلى «الزلايقة» وهي مكان ما زال موجودا إلى اليوم قبيل ما يعرف بالشط، في حين كان الغادي إلى هذين المكانين يمر بـ»تربيعة بن غارقة» والمنعطف المؤدي إلى «زقاق الميليين» نحو جهة الشرق والذي يمر بمسجد «سيدي بوعنابة»، حيث اختفى الأخير وما زال المكان يحمل اسمه إلى اليوم، ثم مكان يدعى بـ»المويلحة» التي تنتهي إلى الجهة الخلفية من الجامع الكبير. أما المدخل الثاني الذي يسميه السكان اليوم بالسيدة، فكان يتصدره ممر نفقي يدعى «سباط ذراع الصيد»، وهناك من كان يسميه بـ»سباط دار حسين باي»، فيما كانت توجد في نفس الموقع دور باسم «دار سقفالي» و»دار بلبجاوي» و»دار بن دالي» و»كوشة السراج»، بحسب ميرسيي.
«التُبان» بمائة دينار على باب مسجد قديم

ولا تسعنا بضع صفحات في هذا الروبورتاج لذكر العدد الكبير من الدور والمساجد والأزقة التي كانت موجودة، لكننا لاحظنا خلال جولتنا أن جميع الجوامع لم تكن تحمل أسماء أشخاص، بل أوصافا فقط، حيث يشير إرنست ميرسيي إلى أنها كانت الأعلى درجة والأكبر حجما، بحيث أن خطب الجمعة تؤدى فيها باسم الحاكم حصريا، على عكس المساجد التي كانت تحمل أسماء الأشخاص، مثل مسجد سيدي علناس بالمكان المعروف باسم «دروج باب الجابية» التي ما تزال موجودة وتؤدي إلى رحبة الجمال حاليا، ولم نتمكن من التأكد ما إن كان يقصد باسم المسجد الناصر بن علناس بن حماد أمير الدولة الحمادية الذي حكم لأكثر من عشرين سنة من القرن 11 ميلادي أم شخص آخر.  
وقد سعدنا لدى بلوغنا مقعد الحوت بالقرب من رحبة الصوف، حيث وجدنا  مسجد «سيدي فتح الله» الموجود أسفل إحدى الدور القديمة جدا، لكن بهجتنا سرعان ما اصطدمت بمشهد لا يليق بمكان كان مسجدا في يوم من الأيام وظل مدرسة قرآنية لمئات السنين قبل أن يغلق بعد الاستقلال. وقد كانت طاولة لبيع الملابس الداخلية النسائية تسد باب المسجد ويعرض عليها صاحبها سلعه معلقا لافتة كتب فيها «التبان بمائة دينار»، فيما قادنا بحثنا إلى بعض الزوايا الأخرى من رحبة الصوف، على غرار زاوية بن عبد الرحمان العليا المختفية داخل «زنقة باش ترزي» التي لا تبعد عما كان في الماضي «جامع رحبة الصوف» وتحتل مكانه اليوم مدرسة.
ولاحظنا على الخريطة وجود بعض المساجد التي تحمل نفس الاسم في موقعين مختلفين، على غرار مسجد «سيدي ياسمين» الذي كان يقع أعلى مسجد «سيدي رماح» الذي لم يبق منه اليوم إلا نصف اسم في النهج الذي يسميه السكان بـ»دروج الرماح» أمام ما كان يعرف بـ»الخيرية»، بالإضافة إلى وجود نفس الاسم في أسفل المكان الذي يسمى اليوم بشارع «طاطاش بلقاسم»، غير بعيد عن موقع «سيدي الجليس» الذي عرف تغيرات كبيرة، ولا يمكن تتبع أي أثر قد يقود إليه، باستثناء كوة بداخلها صخرة في متوسطة ولد علي بنفس الحي، حيث قمنا بزيارتها وأخبرنا سكان بالاعتقاد السائد بوجود ضريح «الجليس» أسفلها.

ولم نلاحظ على الخريطة المذكورة أي مكان مقدس لنساء صالحات، باستثناء نقطة كانت تسمى «ستي فريحة» واحدة تقع، بحسب ما يرجح، ضمن نطاق ما يعرف اليوم بنهج بن عميرة مولود أسفل ساحة سوق العصر، في حين كان الزقاق الذي يقع أسفل «زاوية ستي فريحة» يضم «مقعد الزواوة»، ويقصدون بها الأمازيغ المنحدرون من قبيلة زواوة، فضلا عن وجود مسجد آنذاك كان يحمل اسم صاحبه «سيدي أمحمد أزواو»، وكان بالقرب مما نسميه اليوم بـ»الرصيف». وقد تمكنا من تقفي أثر أحد الشيوخ «سيدي بومنجل»، الذي حمل اسمه مسجد كان يقع ضمن الشارع المسمى اليوم بعمار سطايفي فوق شارع 19 جوان الذي كان يسمى بـ»زقاق البلاط»، حيث وجدنا قبره في المقبرة المركزية على مستوى الجهة العليا، وما يزال في وضعية ممتازة بعد أن شيد بالرخام السميك.  
الكنائس اليهودية تجاور المساجد والجوامع

ودخلنا عمار سطايفي قادمين من نهج فلسطين، الذي يحاذي الجهة الخلفية من الدريبة وتعني القصر الصغير الممتد من الدرب، أي قصر صالح باي الكبير المواجه لساحة سي الحواس، في حين يفضي هذا المسار نحو جهة سوق العصر غير بعيد عما كان معروفا باسم جامع الجوزة ومرورا بـمنعطف «زنقة براهم خوجة» نحو الشرق، حيث شقت فرنسا هذا المكان انطلاقا من «جامع سوق الغزل» المعروف اليوم بجامع الباي إلى غاية «مسجد سيدي الكتاني»، الذي ما يزال شامخا كنقطة مرجعية إلى جانب «المدرسة» رغم ما أحدثه المستعمرون من تعديلات على واجهتيهما لخلق ساحة «نيغريي» التي عاد إليها اسمها القديم «سوق العصر» لحسن حظها، بينما أكل بناء ثانوية رضا حوحو جزءا كبيرا من «سوق الجمعة» الذي تحولت بقيته اليوم إلى حظيرة كبيرة للسيارات.
وتلفت أسماء دور العبادة اليهودية انتباه من يطالع خريطة إرنست ميرسيي، حيث كان يطلق عليها الجزائريون من يهود ومسلمين مصطلح «الصلى»، وقد توزعت فوق شارع طاطاش بلقاسم الذي عرف باسم «الشارع»، وكان تجمعا ليهود المدينة أسس في عهد صالح باي، في حين حاولنا البحث عن أقرب «كنيس» من نقطتنا المرجعية المحددة بجامع سيدي الكتاني، فوجدنا أن ما كان يعرف بـ»الصلى القديمة» قد يقع في نفس موقع المبنى المهجور مقابل ثكنة القصبة، وقد كان عبارة عن كنيس يهودي إلى غاية الاستقلال ليتحول بعد ذلك إلى مصنع للصناعات النسيجية.  
وقد كانت أماكن عبادة المسلمين تتجاور مع الكنائس اليهودية في قسنطينة، فضمن نطاق ما عرف آنذاك باسم «سوق الجمعة»، كان جامع «البيازري» –تعني البقال بحسب ترجمة ميرسيي- يتوسط «صلى دبّيد الجزايري» (دافيد الجزائري) و»صلى بن دقيقة»، فيما كان يوجد كنيس آخر في «قاع الشارع» على نفس خط سيدي الجليس نحو الشمال تقريبا، ويسمى بـ»صلى الربّي ناتان» وتحيط به عدة مساجد، على غرار «مسجد سيدي صفّار» و»سيدي علي القفصي» و»سيدي الخِزري» و»زاوية التلمساني» و»سيدي كْرَامَة». أما بالموقع الذي تحول اليوم إلى حظيرة كبيرة للسيارات فكان يوجد «صلى الربي مسعود» غير بعيد عن مسجد «سيدي ميمون» و»سيدي سبعيني» و»سيدي عبد المالك». وكان اليهود يملكون أيضا مكان عبادة يسمى «صلى الربّي شلومو عمار» و»الصلى الجديدة» بنفس المنطقة.
أنشطة تجارية منقرضة بقيت عناوينها

وتمنعنا محدودية المساحة من ذكر جميع العناصر التي كانت تكون النسيج العمراني والاجتماعي لمدينة قسنطينة، لكننا لاحظنا خلال إنجاز هذا العمل أن الكثير من العناوين التجارية ما زالت موجودة كأسماء في المدينة القديمة رغم اختفاء ممارسيها، ففي رحبة الصوف ما يزال شارع «الجزارين» آهلا ببائعي اللحوم إلى غاية اليوم منذ ما قبل الاحتلال الفرنسي بحسب ما تشير إليه خريطة ميرسيي، كما أن السكان أكدوا لنا أن زقاق «الغرابليين»، أي صانعي الغرابيل، قد ظل موجودا وفيه بائعو هذه الوسيلة التقليدية إلى ما بعد الاستقلال، فيما اختفت الكثير من النشاطات الأخرى، على غرار الخرّازين والقزازين والنجارين وغيرها.
وذكر بعض المحتلين الأوائل في تقاريرهم الأولى أن نشاط سكان قسنطينة كانت تغلب عليه الحرف، حيث كانوا يصدرون منتجاتهم إلى غاية الدول الإفريقية الجنوبية عن طريق أسواق تونس، في حين كانت تنتشر المخابز أيضا في عدة مواقع من المدينة على غرار «كوشة الجبس» وكوشة المسبح» و»كوشة بن نوارة» في سيدي نمديل و»فران برُّو» في شارع أربعين شريف، بمحيط ما يعرف اليوم أنه مطبعة ابن باديس، لكن التقارير الاستعمارية تؤكد أن هذه المخابز لم تكن موجهة للبيع بالتجزئة وإنما كانت تزود الثكنات العثمانية، كما أن ميرسيي لم يضف إشارة على أنها اختفت في زمنه، ما يرجح أنها ظلت موجودة إلى غاية القرن العشرين.
وقد كانت الأسواق منتشرة أيضا، على غرار «سوق الخلق» و»سوق التجار» برحبة الصوف، بالإضافة إلى الحمامات التي استعمل عدد قليل منها كثكنات أيضا، مثل «حمام بوبعاية» الذي أنشيء على أنقاض ثكنة كانت تعرف بـ»دار بن بابا» بالمكان المسمى اليوم سيدي نمديل، ليتحول بعد ذلك إلى منزل. وقد روى الكاتب الفرنسي «هكتور فرانس» في كتابه «حب البلد الأزرق» قصة نزوله في هذه الثكنة ولقائه بشيخ صوفي يدعى «علي بن نهر» بالقرب منها وعبر عن انبهاره بفلسفته وطريقة تفسيره للقرآن، في حين لا أثر للمقاهي في خريطة ميرسيي باستثناء مكان واحد كان يسمى «قهوة الذبّان» (قهوة الذباب) ولا يمكن تبين إن كان مقهى أو اسما فقط.
س.ح

 

الرجوع إلى الأعلى