« الشِّعر هو ذلك الصّراخ الوحشيّ للحيواناتِ الليليّةِ »
« مارغريت دوراس»
في وصفِ مِشيتها..!
عبد الحَميد شْكِيَّلْ / عنَّابة
كانت تمشي باتجاه عصائب ريحٍ ..مبثوثة في أعراسِ الماءِ, وأنوار الرّبيعِ، خُطواتها: سريعةٌ، مُتَّزنةٌ، خفَّاقةٌ.. لها إيقاعاتُ الدّمِ، وخرير الماء، وصمتُ الضّواحي ..متدفقًا في أحراش الوجد، وقيعان الهيَمَان الرَّديف ..وجهتها: مشاتل الريحان، وأجمات الدِّيس، المسكون بِسعَالِي الجهات، التي تُبرقُ بالنَّزف.. كلما أورقتْ في شساعِ الأرضِ، التي في طوى المسافات، وغيلان المراعي المهجورة، في فيافي المدن التي غمرتها أمواه: التّيهِ وأنهار الحيرة، وبحار الشّغف ِالذي في غمار السّحق الهضيمِ.. ضجّت المرايا بعقيق الريح ..ملتحفا بالسّراب، ودخان الأفئدة المكلومةِ في: ذاتها، وقدرها الذي في كتمان السّواد، البياض ..!
كنتُ أرى إليها.. ترتدي حسنها الأرجوانيَّ، وجمالها الأخاذ, الذي يشبه حليب النّوق، وماء المرايا، الخارج توًّا:سربا جامحًا من ثجّاج الماءِ، وصفاء الينابيع ، المتخدِّدةِ في غيران الوادي الكبير، يراوحُ بين وحشة المكان، وسحر المراعي، إذ ترى بشوق طافحٍ، وحب لافح صوب الأبواب المفتوحة على أكوان: النور، والظّلمة السّرمديّة، مشعة في عيون التّائهين الحيارى، وهم يضربون عطش الأرض، بثقل أقدامهم، وشوق مراثيهم، حتى ليُخيّل إليك أنّ زلزالًا ساحقًا، وطوفانا ماحقًا في طريقه لهزِّ هشاشة الأرض، ورخاوتها، التي تلوح في غرابيل البياض، كلما أمطرت الأرض، وأجهشت بالسخاء الجهات، التي في عين الشمس، ومنازل القمر وخرائب الخُلوِّ الذي في احتقان السّرور..!
 تكوينات..!
أنتِ البشاشةُ والهشَاشةُ، والشِّبه الفصيلُ الذي يتبطّنُ تربة الوادي الكبير، وغبار الشواطئِ ، آن خروجها من جِبِلّة ِ الخَلقِ إلى ورطة الحياة، الـ في أخاديد الرّوح وضفاف الدّساكِرِ.. في سيرها المتعجّلِ إلى سهوبٍ عالقةٍ في توشيةِ الأرض، وزرقة السماء، وهي تتهاطل شبقًا، وتتعالى عبقًا، وتتنزّل غَدَقًا في مزارع التّيهِ ، ومغاراتِ الشَّجَنِ، ومفازات الهبوب ..!
منذ غيابكِ، وهجرانكِ،- أيتها الجِنّية الجميلة – وأنا مسكونٌ: بالفقدِ، والحرمان، واللسعات التي في جبين الوجد، وسرِّ المراحلِ ، وهي تحفرُ مجراها، وتطلبُ مرسَاها في أديم بحرٍ، ومناطِ قَفْرٍ ..يحبكِ ، ويتشهّاكِ، ويتمنّاكِ، ويراكِ: صفصافةً سامقةً، وسيّدة عابقةً بأطاييب الماء، وعنبر النواحي المقامة بتخوم: سقط اللّوى، بين الدّخولِ فحَوْملِ ..!
الطريق إليها..!
أيتها البعيدة في أكنان الطّيرِ، ومقامات الطّوى، ومحميات اللّوز، وجنّات البهاءِ، وشعابِ الفتون، كيف أترسَّمُ خطاكِ، وأقرأ بهاكِ، وأتشمَّمُ عطر أنفاسكِ النّدية، وأنوار طلعتكِ البهيةِ، وأنتِ هناااااك ، في سفوحِ الأفق، ومجرى الرَّمقِ، وقممِ الهوَى ، وسرِّيات المهوى..؟ كيف لي أن أرَمِّم ما انكسرَ من شآبيب الحبق، ومآذن العَبقِ، ومعمياتِ الغسقِ، إذ تصرخ بأغاني الهدأة، وصبوات المعنى ، الذي أوردتني طواسينَ الجَوَى ، وكوانين الهوَى ، وما استوى في برزخ التَّطاحُنِ، ومحتدم التغابن، الذي يومض في غسقِ ليالٍ، خارجةٍ من فرنِ المسعى، وضبحِ المرعى، وجهاتها، ومقاصدها.. بلادكِ البعيدةُ ، وأوفيائكِ القصيةُ، التي اشتهتها، منابت الرّوح ، وَرَدَّدت أشجانها أشجار الدَّوحِ، وهي ترى  في ولهٍ إلى شعابكِ ، وكِعابكِ .. تهدلُ في أترجَّةِ البروج، وسموات الخروج وغدران المروج، وأعشاب الّلجوج.. التي في ترائب الصوت، ومصبَّات الصّمتِ، مُحَوِّمًا، أو مُهوِّمًا صوب جهاتٍ قصيَّةٍ ..أنتِ فيها، مسالكَ الوجدِ، ومعارجَ النّجدِ، ومنازل الغيث العبير ..!
نداءاتٌ ..!
حَنَانَيْكِ.. حَنَانَيْكِ .. أيتها المخضّرة في براري الرّوح، وأشطانِ البوْح، وشَسَاع الأرض، التي في غيم المرايا، وعطش المنايا، عُودي ..ثم عُودي، وعُودي .. فقد شاختْ مآتي السماء، وجفَّت ينابيع الماء، وزاد منسوب الهباء.. ولم يبق سوى: أنين الجراحِ ،وشحوب الأرواح، وضدّيات الرّاح، وهي تطلب أجواءها، ومراثيها التي في جبل الوَلَهِ، وسهل الإيمان، ومنعطف الهيمانِ..معوّلة على بذخ خطوات صادقة، ولحظات عاشقة، عشناها – معا- على درب العشق، ومسالك الهوى، وسبل اليقين، الذي يقود إلى أرض البهاء وشعانين الهناء، ومعابر السّناء، وملتقى الأرض بالسماء المعلّق بين برازخ الأرض، وهيولي الفناء..!
طقسُ تِيــهٍ..!!
ثمَّة شيءٌ ..
يُعذبني ..ويُعذبني..ويُعذبني..
ويجعلني نَثَارًا..
وخاطرًا مَوَّارًا..
في أنحاء الأرض..
وأمداء السّماء ..!
كيفَ لي أن أسعى بين خرائب نفسٍ،
ومناقبِ رَمْسٍ..
ومطويَّاتِ دَهسٍ،
دمّرتها الأحزان..
وأفضت إلى جوانبها أسراب الغربان ..!!
منافــي ..!
لا ليلَ في أفقِ الرّيح..
لا مرايا تهجسُ..
في انكسارِ العاصفةْ..
كيف أُأَنْسِنُ خُطوةَ التّيهِ..؟
المراحلُ..
انتهتْ لعثرتها الرَّشيدةِ..
السماءُ..
انتفضتْ لِفِضّةِ الوقْتِ..
لا شمسَ في غسقِ الأفولْ ..!!
لا ظلَّ في غُبار الأضرِحةْ ..!
لا عشبَ في حرثِ المرَاثي ..!
يَعزُّ عليَّ ..
أن أرى وجهَكِ..
هذا المدوَّرَ..
لطخةَ لونٍ في موازينِ الهبَاءْ..
لا يقول سوى فتنة البؤسِ..
تقوى الشّيخ..
اختلطتْ..
بشطحةِ الهتكِ، المُريدْ..
لا تاريخَ للحبِّ..
سنكتبُهُ..
لا نَبْرَ نردِّدهُ.. في صَعقِ الوريدْ..
لا ضفَافَ.. سندركها في عِزِّ التّراشُقِ..
كيف أشرحُ تاريخَ الدّمِ..؟
مُفلْطحًا..
في تسابيحِ الجليدْ..؟
 وصف ماضٍ ..!
كنتِ لِي عُمْرًا عاليًا، ونخلاً دانيًا، وسماءً كلّما طلبتُ غَيْمها، وعشقتُ مَنَّها، وسلْواها: أومأتْ إليَّ أشجارُها، وشعّت عليَّ أنوارُها.. ودعتني إلى عشّها الكبير، ومائها النّمير.. مُحاطًا بأعراس الجنَانِ، وفاتناتِ الرّيحان، وسيّداتِ الهيمانِ .. وهُنَّ مسربلاتٌ بتواشيحِ الغسق، وتباشير الحبق، وصبابات العبقِ كيما أجتازُ وادي الهتكِ، وأمداءِ الفتكِ.. والملاذاتِ التي في طَوَى الخيال، ومسالكِ الخبَال.. وهي تتصَايحُ في مدارج الرُّسوِّ، ومآذنِ العُلوِّ.. حَبْوًا مجيدًا، وركضًا شديدا، إلى أوجَارِ الرّيح، ومطامِيرِ الشّيحِ ، ومدائن السَّالكينَ.. التي في أرضِ الغُبارِ، وجبالِ النَّار، التي في مساقطِ الهَوَى، وملاعِبِ الجَوى، ومنارات السِّوَى وملاذات عشقٍ، شبَّ، واغْتَوَى، ولواعج حُبٍّ له في القلب نثِيرَ الغارِ، وصفاء النّوّارِ، وقَبساتُ الاعتبارِ، واصطلاماتُ الاصطبارِ ..
كلما أوغلتُ في سِرِّ الحَرْفِ، وخفيِّ الظّرفِ، وتخريجات النّحو، والصّرفِ.. توضّحت لِي سُبلُ النَّجاةِ، ومعميَّاتُ المأسَاةِ، وترجيحاتُ الملهاةِ .
أسئلــةُ وَجْدٍ  وَ وُجُودٍ..!
كيف لي أن أرى إلى وجودكِ، الذّاهبِ في سراديب الفوْتِ، وتعابيرِ الموتِ.. ذلك مسرى الذاهبين إلى منصّات الوجودِ، ومناحي الجودِ، حيث لا وجدَ ولا موجودَ، غير أصداء تلوحُ، وغربانٍ تنوحُ، ونداءات، تغدو، وتروح، في غرابيبِ مكان قاسٍ، وأرض هباءٍ راسٍ وطواحينِ أفق عرّشت في أفيائه غيلان الظلمة، وسَعَالي الموتِ، الذي في خلدِ الملكوتِ، ومنازلِ الجبروتِ، وأقاصي الرَّهبوتِ..؟
كيف لي أن أطلبَ ظلّكِ، وأدركَ جلَّكِ، وأترَغّب كُلَّكِ .. وأنتِ هناك في أقاصي الأرض، وأجواء العَرْضِ.. شمسُ وقتٍ ، ومدارُ مقتٍ، ونشازُ صوتٍ.. يجهشُ في أكوانِ قصيدةٍ، وخرائب نصٍّ، متقصّدًا رمزكِ، مقتفيا همسكِ، الذي سَكَنَ الشعابَ، واستحبَّ الغابَ، وهجر الأحبابَ، وصار أيقونة ماءٍ، ولُقَى سماءٍ .. لها شطح لغةِ، تتلظَّى في شُواظِ المرايا، وشبقِ الصبايا، إذ تعلو في اسوداد المداد وبياض الودادِ ..آن عروجهِ إلى سماءِ الأرواحِ ، ومناسك الرّاحِ.. معتقة بترجياتِ النَّفْسِ، وتهويماتِ المَسِّ، ومقاصدِ اللّمسِ، الذي في استواءِ السَّبْقِ، واحترابِ البرقِ، ولقاءِ الغرب بالشرقِ ..!!

تحــولاتُ نصٍ..!
وقتكَ ماءٌ ..
ماءٌ وقتكَ ..
لا رفاهَ للشَّكِّ..
في تعاريجِ القصيدةِ..
خذْ زفرَة بُعدكَ..
أو سقطةَ قُربكَ..
لا وقتَ لِلشّبيهَةِ..
لكيمَا تلملِمَ شَتَاتَهَا..
أو بهاءَها.. أو ما ترسّخَ في أقالِيمِ الغُبارْ..
لا شَكَّ في الشَّكِّ..
غيرَ أنّ الحقيقَةَ..
ظَنَّ وقتٍ..
قد يُقالُ، ما يُقالُ..
مثلًا .. خَدَعَ الشّكُّ ، اليقينْ..
وتنَادتْ على أورادِهَا سُبُلُ الهَشِيمْ..
غيرَ أنِّي ..
أيتها الصنيعةُ..
سأظلّ كَشْفًا..
أتحرّى تباريحَ وجْدِكِ..
هذا المتوَتّرُ بأسراب النهارْ..
قلتِ لِي - ذات زمانٍ مضَى -
أنتَ لِي كُلُّ الخَيارْ..
أنتَ لِي ..اليمينُ واليسارْ..
أنتَ لِي ..الضوءُ، والمسارْ..
لكنكِ – واحسراتاهُ –
غلبَ الليلُ، النهارْ..
احترقتِ في مطلع وقتٍ،
سقطَ الظلُّ في طَيِّ السِّوارْ..
كيف لي الآن..
أن أتحرَّى نورَ وجهِكِ..
غائيًا يَهْذِي..
في مساءات السُّعارْ ..!!
حالٌ و أحوالٌ..!
في اللغة، أو في الكتابة.. سأظلُّ أحفر تجاعيد نص، وأخاديد قصيدة.. ذاهبًا إلى متاهاتِ اليقين، أو إلى أفضية لها في الصمت حكمة عالية، لا تراها سوى طيور شدو، قادمة من أقاصي الوجد، وأمداءِ النَّشيد..
ربما استشرف الغياب، وأرى إلى فضيات الحضور.. قد نلتقى أيتها الـ . على أفق نار، أو شرفة نهار تتجدد الأشياء، وتحقق الأنباء، وتتعانق الأرض والسماء..
سيكون ذلك ذات وقت جميل، نديٍّ ..تتفتح فيه الأكوان، وتتنادى مرويات العشق، ومآثر المودّة، ومحامد الهوى.. وقصديات الولهِ الضديد.. الذي في طلاسيم الضّيم، وتعاليم الغيم، وألواح الغيب.. لأراكِ في جلال جمالِكِ ، وشموخ بهائكِ وسرّ نوركِ، وغبطةِ حوركِ، الذي شمل الأكوانَ ، وأبهجَ الإنسانَ، وتاقت لبروجه الغابات، والوديان..
أنتِ الخطوة المجيدة، والحكمة الرشيدة، التي تقود إلى جنّاتِ الخلدِ، وجهاتِ الوجد، العالق بأستار القلب، وهمسات الدّرب، الموصِلِ إلى يقين الحقيقة، وحقيقة اليقين، الذي في اللّوح المحفوظ، والقول الملفوظ..آن اجتيازه، معابره التي في أغاني الهطول، وسرّيات المقول، ومقامات السّرّ، ومنازل الجهر، المعلّقة في يقين الحق، وعتبات السّالكين، ورغبات العاشقين، الذين يَلجون دروب الطّوَى، ومقامات السِّوى، وصُولًا إلى مدائن المنتهى، وغاياتِ المشتهى ..!!
تخُوم تيهٍ ..!
على مشارف القرى الأخرى.. المقامة على تخوم التيه، ومعابر الورع.. رأيتكِ علمَ نار، وبرج مطار، وسرّ ليل، وآية نهار.. وشعلة تصّاعد في تهاليل القول، وتباريج الصّمت.. متدبّرا أحواله، مرسّخًا أهواله.. في طريقه إلى دساكر التيه، وقرى الغياب، وملاعب الجنّ.. وهي تتهامس في مكابدات القلبِ، ومجاهدات الوجد، ومطارحات العاشق الهيمان، الذي في سرّ الكتابة، وقول الصّحابة، وهم يَروُون نصوص النهج، ومطويات الأسفار، ومقطَّعات الأشعار، كيما تتناكب الجهات، وتتعامد الصفاتُ، وتتقاطع النيات في ارتباك وضع، له في الضلع وجيب الطرف، ورديف النّزفِ، الذي كلما قاربته، وجانبته، وعاتبته: صار عويلا، وقولًا مهيلًا، وفكرا ضئيلا، له في السمع طنين، وفي القلب اصطخاب وأنين.. فكيف أفسّرُ اصطلاحات الكلام، ومعميات اللغة، وانزياحات نص، ومقول قصيدة.. وأنا أخُوضُ في بروج ماءٍ، وماء ..!!
مديح ..!
في القصيدة الشعرية الجادة.. تكون اللغة: مهمازًا قويا، وعنفا نديا، يلج الأعماق، ويقول بالإشراق، ويذهب عميقًا في الحفر، والاستكناه الجمالي، والتأسيس القائم على جوانية الذّات، وذكاء الأنا، وإيماضات البصيرة، وهي تتجدّد في تحوّلاتها العرفانية الشاملة، لتقول أحوالها، وحالاتها، وإحالاتها، ومحوّلاتها ، ومحمولاتها، التي تكون قد تفطّنت إلى ضخِّ صبوات جامحة، تتلبّس اللغة، وتنهرُ المخيال، وتستفزّ الخيال، الذي يكون قد تَعَلَّبَ في صمت السموات، وذُعْرِ الأيام، وانتكاسة المُعطى، حتى ليخيّلُ للهامش المستكين: أن القصيدة خرجت من بؤسها، وتحررت من عقالها، وثورتها الّلاهبة، وصمتها الذي في سفح التلاوين المخبوءة، والكهوف المضيئة.. لتصير فضاءً من البوْحِ ، والقول العالي، والتشظي القادح الذي في غمار الوقت المستريب، في صورته الشائنة، ومهمسه البائس، الذي يتبطّن الشقوق، ويسكن أسافل القول، وأعالي الظنون..
الذين يكتبون القصيدة انطلاقًا من مفهوم الاستجلاب الداخلي ومقول الأنا المتّقدة، الممهورة بحزن القول، وفجع الذّات، وخيبة المسعى، يكونون قد أحبطوا ميثولوجيا الرّوح، وهي تصعد في إنيتها، وتغور في انسحاق فلسفتها المشفوعة، والذّاهبة إلى أقاليم التّيه، وسموات الغبار.. التنطع البائس الذي يرفعه بعض الشعراء في سماءِ الكتابة، وفضاء القول، يبرز سيماء الهُزال، الذي يسكن أفضية نصوصهم المختومة: بالزّعم، والكذب، والادعاء المشوب بالصبابة الخرقاء، والبلاغة الجوفاء، والحزن الإبداعي المفضوح..
في القصيدة، القصيدة.. عليك أن تكون عاليا في البوح، والكتابة، والحياة، وأن ترى إليها بعين الشاعر الرّائي، حين تقول مخفيات الأشياء، ومكنونات الذّات، وصوابيتها، في تجلّيها الخجول، وأحزانها المسربلة بالتوجسات الخارقة، والعجائبية المجيدة التي تؤسس لقول عصائب الرّيح..منهمرة مَددًا في تشققات المكان، المسكون بالرغبة، والحرمان، والاستقواء المبدع الذي يرفع من وتيرة العمل، وسويّته.. ويجعله في مأمن من غوائل الذّات البائسة، ونصوص الكلام المخترقة، من جهاتٍ، ومنصّات لا تقول سوى بؤسها العارف، وجاهليتها المشادة على طوائف الخيال ، ومحميات الخبال، المفضي إلى عوالم غير مرئية، ولا تنطال.. لأنها عبثية، عدمية، مُفرغة من الصواب المجيد، والقول الذي في سِرّهِ.. ، نبع وقت، ومتسع وجود، وبلاغة كمون الذي كلما قدحته.. لَمَعَ، وشَعَّ، وأشار إلى مخفيات المعنى، وعدميات البلاغة.. ذلك المكان سيظل حالة من البوْح، والتوتر، والنشدان..
أن تقول مكنون القصيدة، وجوانيتها.. يعني أن تقول ما خَفيَ من الكلام، والإشارة، واللغة الصَّامتة، التي تلوذ بأنحاء ملغومة، ومغلوطة، حتى لا تبرز جوانبها الشائنة، وشرطيتها الخائنة، التي تغتال المجازات، الطافحة بالشّجن، والمرايا العالية الكشف، والانجذابات التي في جيوب اللغة، وانسراباتها، الضّاربة في عمق الأنا، واستلاب المرأى ، ونوستالوجيا الحنين المغتال بالفساد، والأنانية المقيتة..
كلما حفرتَ في جغرافية اللغة، وأنساقها، وأبنيتها الظاهرة، والمستترة ونسفتَ بؤرها المتراكمة.. ظهرت لكَ تلك الصّور البهائية، والبلاغات النّابهة، التي تقول الدّلالة، وتنطق بالمكنونات التي في خفاء التّجلّي، وتجلّي الخفاء.. ساعة ئذٍ تكون في حالة الانبهار، والتّشظي ، والقول العالي، الذي يصهر تكوينات الحجر المخفي في تجويفات اللغة، وتضاريس العمارة الشعرية، وهي: تنقال ، وتنهال، في سموات من الضّخّ، والابتهاج الضّامن لمناعة النّصّ ، وعلوّ اللغة، حيث ينهض المخيال.. سامقًا، شاهقًا، منبثقًا، بأحوال المعنى، وضديات اللغة، وانزياحات المتن، وخفاء الهامش، وسريّة الإشارة، وخفي الحاشية، ونبض النّص، الذي يتململ في أضابير الحشو الزّائف، والمحو البياض، الذي يرمح في سماء القول، وخشخشات الصورة ، وهي تنبني في مرجل الوعي الخافت، الذي يلج التحول، ويغمر البروز، ويهمين على الانبثاق الماجد، الذي يقود إلى نعيم اللغة، وجنات البوح الهديل.. لتقول الذّات المحبطة: نثار الوقت، وغبار الأحرف، التي في أمشاج الهطول، وهي تتهامس، وتتلامس، وتتهادَى على مشارف الدّفق، الذي في سوية القلق الجميل، ومطالع اللغة إذ تتلبّس أوزارها، وتذهب إلى أوجارهَا، كاشطة، وكاشحة، لترى إلى تحوّلات دافقة، منبثقة من سعير القصيدة، وصبوتها، وهي تُكوى في فرن الأنا، التي في اختمار الصمت، وتحوّلاته الفاتنة.
كيف نذهب إلى طقس نص، وفضاء قصيدة، إذا لم نكن مزوّدين بآليات قرائية، ومحمولات إجرائية، ونباهة ذوقية ناجزة، قادرة على استنطاق النص، واستجلاء القصيدة، التي هي – دائما- في حالة من الانبهار، والتحول، والسريان، والخفقِ، الذي يسكن النّص، ويتعالى في إيماضات القصيدة، آن ذهابها في تجليها المبدع، وهبوبها الشواظ، وسريتها التي في اصطلاحات الكلام، واصطلامات الهيام، الذي في متن القول، وضديات اللغة، ومتفرعات النص، الذي يكبر في اتساع اللغة، وجوانية المكان.

ختاميات..!
- 1 -
الآن..
بلغتُ المنتهَى ..
واستويتُ في المَآلْ..
فخذوا عني جِرارَ الصّمت..
ومزايا الشطح..
الـ في مِهَادِ السؤالْ..
غير أني..
سأظلُّ صوتًا يرمَحُ في ترجيعات التِّلالْ..
كيما أراكُمُ – يا أحبتي – طيرًا سماويًّا..
يلهج بالحَمْدِ في عبوقاتِ الظِّلالْ ..!
- 2 -
الخيولُ التي في عبوقِ النّقْعِ،
تَتَشَهَّى الصّبوَةَ..
وأنتِ – مرتاحةٌ –
تُطِلِّينَ على بيادرِ الزَّعترِ،
ناثرةً دَمَكِ الكافِرَ..
على مُحَدِّداتِ البلاغةْ..!
- 3 -
في الكتابة.. كلّما أنهيتُ كتابةَ نصٍّ .. وجدتني مطالبًا بكتابة آخرَ، لأن الكتابةَ – عندي – هي الحياةُ في شكلها المتجدّد، وجذرها الإبداعي، الذي يتمترس في مطلع مدارٍ لا حدود له..
كلما اقتربنا من تخومه، زاد في معميات القول ، ومجاهيل السديم.. أن تكتب .. فأنت تسائل الوجود، وتتطلع إلى الماهية، وتختبر اللوغوس.
           

الرجوع إلى الأعلى