نشرت جريدة “واشنطن بوست” الأمريكيّة في الرّابع من جويلية الجاري روبورتاجا حول آثار ألبير كامو من خلال كتاباته تحت عنوان “على خطى كامو: البحث عن آثار ابن الجزائر الغريب”، حيث تنقّل مراسلها في باريس، جايمس ماكولي، بين الآثار الرّومانيّة بتيبازة التي ذكرها كامو كثيرا في كتابه “أعراس” و حيّ “بلكور” في الجزائر العاصمة الذي نشأ فيه الصغير ألبير في شقة بسيطة.
جايمس ماكولي / ترجمة: سامي حباطي

النّصر تقدم إلى قراء “كرّاس الثّقافة” ترجمة للروبورتاج، الذي أدرج فيه ماكولي الحامل لشهادة دكتوراه في التاريخ الفرنسي من جامعة أكسفورد وواحد من نخبة الولايات المتحدة المستفيدين من منحة “مارشال”، الجانب الخاص بآراء كامو المعارضة لاستقلال الجزائر ورأي الكاتب الجزائري كمال داود، الذي يعتبر كامو جزءا من تاريخ الجزائر ولا يمكن التهرّب من تبنيه.
تيبازة، الجزائر – تقع الآثار على بعد حوالي ساعة من المدينة. ألواحٌ مَغَرية تُحمّى تحت شمس المتوسط القاسية والضباب الأبيض المتدفق من البحر.
كانت تيبازة عبارة عن مستوطنة رومانية قديمة، قبل أن ينهبها الوندال ويعيد البيزنطيون بناءها، لتتعرض للتهديم مرة أخرى على يد الأمويين وتبقى في حالة خراب أبدي، ويمكنك مقابل تكلفة بسيطة التجوال داخل أطلال كاتدرائية ونفض الغبار عن قطع الفسيفساء التي صمدت أمام هجمات مختلفة، كما يمكنك مد بصرك على طول الفراغ الأزرق الذي يلتقي فيه البحر بالسماء.
وتعتبر تيبازة أيضا معلما للكاتب الفرنسي المحبوب ألبير كامو، الذي كان ابن الجزائر قبل كل شيء، فهي المكان الذي قولب تفكيره على الرغم من عدم قدرته على استيعاب مساره (المكان) الصاخب نحو الاستقلال في القرن العشرين.
ويحمل النصب التذكاري المُهدى إلى الكاتب الذي خلّد المكان عبارة “أنا أفهم هنا ما يسمى بالمجد، الحق في الحب إلى ما لا نهاية”، لكن العثور على هذا التذكار يتطلب السير عبر درب متعرج على طول الشاطئ الحجري، وعند بلوغ الموقع، تستغرق قراءة الكتابة بعض الوقت، إلا أن اسم كامو محفور في الحجر وكأنه واحد من الحروف الرومانية القديمة.
كان كامو نجم كرة قدم وكاتبا مسرحيا، زير نساء ومفكرا وجوديا، وقد أحب الجزائر إلى ما لا نهاية بكل تأكيد، كما أنه أصبح هنا الكاتب الذي سيؤلف فيما بعد مجموعة متتالية من الكلاسيكيات الثقيلة التي عذبت وأمتعت الطلبة حول العالم: “الغريب” عام 1942 و”أسطورة سيزيف” في نفس العام، و”الطاعون” في عام 1947.

ورغم ضخامة ميراث كامو الأدبي، لم يصمد من آثاره في الجزائر إلا القليل، وقد قرّرتُ أن ألقي نظرة عابرة على الأقل، على ما تبقى من بصمة كامو خلال الأيام الأربعة في وقت سابق من هذا الشهر التي رخصت لي الحكومة فيها مبدئيا، بتغطية المظاهرات الجارية .. في الجزائر.
كان كامو قدما سوداء كلاسيكية، أو مستوطنا استعماريا فرنسيا، وهو ينتمي إلى جيل ثان من المهاجرين الفرنسيين إلى ما كان آنذاك جزءا من فرنسا، في حين تتناسب صورة والديه مع نموذج العمال الكادحين الذين تركوا أوروبا نحو ما اعتقدوه حياة أسهل على الضفة الأخرى من البحر المتوسط. توفي والده في الحرب العالمية الأولى عندما كان كامو يبلغ من العمر عاما واحدا، لذلك فقد تربى الصغير ألبير على يد والدته في شقة ذات غرفة نوم واحدة في الحي البروليتاري بالعاصمة “بلكور”، الذي يحمل اسم “بلوزداد” في الوقت الحالي.
ولا ترى اليوم على الشقة رقم 93 من شارع محمد بلوزداد، المعروف سابقا باسم “شارع ليون”، أية لافتة تشير إلى الطفل الذي نشأ هناك وتحصل ذات يوم على جائزة نوبل، ولكن تواجهك، عوضا عن ذلك، بناية عريضة بدأت جدرانها البيضاء بالتآكل.
“وحده الغني يتذكر أشياء الماضي”. كتب كامو هذه العبارة في رواية “الرجل الأول”، التي لم تكتمل بعد أن شرع فيها في “بلكور”، ونشرتها بعد ذلك ابنته كاثرين، فيما يتمّ العبارة بالقول “أشياء الماضي لا تسجل بالنسبة للفقير إلا الآثار الباهتة للطريق نحو الموت”، وهذه الآثار مازالت ظاهرةً هنا في الحي الذي نشأ فيه.
وكما هو الحال في أماكن أخرى، يعطي “بلكور” حسا قويا بالتجربة الاستعمارية في الجزائر العاصمة، حيث تمتد الأعشاب المشذبة لحديقة التجارب التي صورت فيها النسخة الأصلية من فيلم “طرزان الرجل القرد” مطلع الثلاثينيات، من التلال إلى البحر ضمن التوسع الفرنسي المنتظم.
ويوجد عند مدخل الحديقة متحف الفنون الجميلة، وهو يمثل  بناء نيو-كلاسيكيا يتيح عدة مناظر على المدينة وحوضها المائي نصف الدائري، فيما ما تزال جدران البناية تحمل لوحات لكاميل بيسارو وغوستاف كايبوت وبيرث موريسو،التي نقلها الفرنسيون معهم بعد الاستقلال، لكن الجزائريين نجحوا في استعادتها بعد ذلك.
ويضم “بلكور” أيضا مقام الشهيد، برجٌ خرساني يقف على ثلاثة أعمدة من أعلى قمة مطلة على البحر، وقد دُشّن رسميا سنة 1982 في العيد العشرين للاستقلال، الذي لم يعش كامو ليراه بأم عينيه. كانت تصورات كامو حول مسألة الاستقلال معقدة، فهو لم ينتمِ أبدا إلى الجناح اليميني من الأقدام السوداء، ودافع لمدة طويلة على ضرورة منح الحقوق السياسية للعرب والبربر في الجزائر، لكنه لم يستطع استيعاب فكرة الاستقلال الحقيقي أبدا.
وكتب كامو في وقت مبكر من اندلاع حرب التحرير في الجزائر: “الاستقلال الوطني للجزائر مجرّد استجابة عاطفية للوضع”، مثلما تؤكده المؤرخة بجامعة “يال” الأمريكية، أليس كابلان، في مقدمة كتابها “السجلات الجزائرية”، وهو يتمثل في مجموعة من مقالات كامو السياسية، إلا أن كابلان تشير إلى أن عبارة كامو التي كتب فيها “لم يسبق أن وجدت أمة جزائرية” هي أكثر ما كان يخدش مشاعر الوطنيين الجزائريين.
وقد ذهب كامو إلى أبعد من ذلك خلال الاضطرابات التي عرفتها سنة 1958 عندما نظم الجنرالات الفرنسيون (في الجزائر) انقلابا عسكريا على باريس، حيث اعتبر أن الفرنسيين “شعب من السكان الأصليين بكل ما تحمله الكلمة من معنى”.

ورغم ذلك، يرى (كمال) داود أن كامو جزء أساسي من السرد الوطني الجزائري، ولا يمكن حذفه ببساطة بسبب فرنسيته، حيث قال “لا يجب علينا أن نكتفي بقراءته أو تعليمه في مدارسنا، بل ينبغي أن نتبناه”، ثم أضاف “أنه واحد من وجوه تاريخنا المجروح ويمثل جزءا من الجرح أيضا، والاستمرار في إخفائه ومحوه حذفٌ لشق من تاريخ لا نريد الاعتراف به، كما أنه رفض للتفكير في ضرورة الانفتاح على باقي العالم وأن نعكس البعد الكوني”. وقال داود أيضا “سنبقى تاريخا محليا –إنهاء الاستعمار على النموذج المُتحفي- عوضا عن خلق شرط إنساني وجزائري يمكننا أن نحيا فيه ونفكر”.
وعلى الأرجح، فإن تيبازة هي المكان الذي يشعر المرء فيه بأكبر قُربٍ من كامو، فبين الحجارة والبحر وأشجار الزيتون وأزهار الجهنمية وضع كتاب “أعراس” (ترجمه جورج طرابيشي إلى العربية مطلع السبعينيات)، الذي نشر سنة 1938 وقدم فيه بعض المعنى لأفكاره حول الحد النفّاذ بين الحياة والفن.
وقد كتب كامو في هذا المؤلف “هناك وقت للحياة ووقت للخلق، وهو أقل طبيعية. يكفيني أن أعيش بكل جسدي وأن أشهد بملء قلبي. أن أعيش تيبازة وأشهد، ثم يأتي العمل الفني فيما بعد”.
*العبارات بين قوسين إضافات المُترجم.

الرجوع إلى الأعلى