دراسات بحثية كثيرة تشتغل على مشاريع المُدن الذكية. وحكومات عواصم الدول الكُبرى تجتهد لدعم وتمكين تحقيق هذه النقلة الفارقة للمُدن، أي تحويل مُدنها العادية الواقعية إلى مُدن ذكية. وقد حققت بعض العواصم هذه النقلة الذكية. فماذا عن واقع المُدن الجزائرية وما مكانتها من هذه الدراسات ومشاريع الذكاء المستقبلي للمُدن؟ السؤال الّذي يتردّد كثيرا بهذا الشأن هو: كيف يمكن إعادة تخطيط المُدن الحالية لتكون مستقبلية أو بمعنى آخر لتناسب المستقبل المختلف بترسانات التكنولوجيا الكثيرة والمتسارعة التطور والتجدّد؟ مفهوم المدينة الذكية أو المستقبلية ظهر وبرز منذ أكثر من عقد. فهل يمكن القول أنّ الحياة في الغرب بزخمها الاقتصادي والاجتماعي والتكنولوجي ساعدت على بروز هذا المفهوم الّذي يحاول استشراف المستقبل والتخطيط لتجسيده على مستوى المُدن والعمران، وأنّها إلى حد كبير تذهب إلى تجسيده أكثر يوما بعد يوم؟ هذا في الضفة الأخرى، فماذا عن بلد بحجم قارة، هل هناك مقومات واضحة المعالم أو مقدرات مُمكنة تجعل من الجزائر واحدة من مُدن المستقبل، وهل يمكن الحديث عن مشروع المدينة الذكية في الجزائر، في ظل وواقع المُدن الواقعية التي تُعاني من مشكلات عويصة، ما يجعل مشروع المُدن الذكية/مُدن المستقبل سابق لأوانه ربّما.
استطلاع/ نوّارة لحـــرش
حول هذا الشأن «مُدن المستقبل/ المُدن الذكية في الجزائر»، كان ملف عدد اليوم من «كراس الثقافة» مع مجموعة من الدكاترة والأساتذة والباحثين الأكاديميين المختصين في الهندسة والعمران وتسيير المُدن والتقنيات الحضرية.

طيب إلياس/ أستاذ وباحث في معهد تسيير التقنيات الحضرية –جامعة قسنطينة 3
نُظم المعلومات الجغرافية أداة فعّالة لعصرنة تسيير المُدن الجزائرية
تعتبر المدينة مجالاً مُعقدًا للتدخل نظرا لتطورها غير المتوقع، بالإضافة إلى الإشكاليات والتحديات التي تطرحها وتثير انشغالات المتدخلين الحضريين. طبعا تمتاز العديد من المُدن الجزائرية بتوسع حضري سريع، انجرت عنه فوضى ظهرت جليًا في تدهور الإطار المبني القديم: تفشي ظاهرة البناء الفوضوي، عدم تطبيق توجهات أدوات التهيئة والتعمير، مشاكل في التنقلات الحضرية وغياب بنك مُحدث للمعلومات الحضرية، الخ.
أمام هذا الواقع، يصبح من الواجب العمل على تسيير حضري ناجع. هذا الأخير يستوجب التقاء جهود العديد من المتدخلين في مجالات متنوعة، على غرار الدولة، الجماعات المحلية وحتى السكان، والّذي يعتبر آخر فاعل لتسيير المدينة، يُؤثر فيها ويتأثر بها.
ومن أجل تحقيق هذه الأهداف، يعتبر التحكم في المعلومات المُتعلقة بالمُدن أكبر تحدي لتخطيط حضري ناجع، على غرار تبادل المعلومة، إرسالها أو تحيينها. في الوقت الحالي، أصبح من اللازم إدراج الوسائل والأدوات الحديثة والناجعة في التسيير والتخطيط الحضريين، وهذا لتغيير الوسائل الكلاسيكية التي كانت في زمن سابق تقريبية، مُكلفة ومن دون مردودية.
ومن بين أهم هذه الوسائل الحديثة نجد نظم المعلومات الجغرافية. فهو نظام ذو مرجعية مجالية، يضم مجموعة من الأجهزة والبرامج التي تسمح للمُستعمل بإنجاز مجموعة من المهام، كإدخال المعطيات انطلاقا من مصادر مختلفة (خرائط، صور جوية أو صور الأقمار الاصطناعية، الخ)، تخزين، تنظيم، إدارة، تحليل، عرض وإخراج المعطيات والبيانات بمختلف الأشكال (خرائط، رسوم بيانية، جداول وتقارير).
يعتبر نظم المعلومات الجغرافية عِلمًا ظهر ونما في عصر تكنولوجيات الإعلام والاتصال. هذه التقنية العصرية مُستخدمة من طرف جُل الفاعلين المُتدخلين في تسيير المُدن، تقنيين كانوا أم مستخدمين، لإنشاء أو استغلال خرائط رقمية وقاعدة بيانات تفاعلية، تشمل جميع عناصر المدينة كالإطار المبني، المساحات العمومية، الشبكات المختلفة، المرافق العمومية، التراث وغيرها من العناصر التي بحُسن تسييرها سنبلغ حتما الهدف الأساسي لاستعمال هذه التكنولوجيات الحديثة، وهو (أي الهدف) مُدن مُتطورة، ذكية ومُلائمة للعيش الكريم.
لا يقتصر استعمال نظم المعلومات الجغرافية على التمثيل الخرائطي، بل يعتبر أيضا من أهم أدوات اتخاذ القرار المُستعملة في جميع الإشكاليات الحضرية والمجالية، وخاصّة من طرف أصحاب القرار من أجل تحكم ناجع/ وحكم راشد وهذا لنمو حضري مُستدام.
تطبيق هذه النُظم يظهر جليًا في كثير من التجارب حول العالم، خاصة المُدن التي تطمح إلى بلوغ هدف العصرنة والذكاء، ونحن في عصر العولمة والتنافس بين الأقطاب الحضرية. هذه المُدن استعملت نُظم المعلومات الجغرافية لتسهيل تسييرها من خلال إنشاء قاعدة بيانات وخرائط موضوعاتية جد دقيقة تشمل المئات من المعطيات. كلّ هذه المعلومات يمكن لأي مستخدم تصفحها عبر الأنترنت من خلال منصّات رقمية ومواقع خاصة بكلّ مدينة. رغم تعميم استعمالها، ورغم المحاولات التي مست بعض المخططات التوجيهية للتهيئة والتعمير، مخططات شغل الأراضي وغيرها من أدوات تسيير المُدن، إلاّ أنّ القائمين على مُدننا الجزائرية لا يزالون بعيدين عن تطبيق نُظم المعلومات الجغرافية. فمعظم الدراسات العمرانية تعتمد في انجازها على الطُرق والوسائل التقليدية التي باتت من الماضي في أغلب دول العالم.
ولهذا، يجدر بنا الذكر بأهميتها وإلزامية تطبيقها في الجزائر، على غرار باقي الوسائل التقنية والعصرية في التسيير، كأداة تساعد على اتخاذ القرار الأمثل وتحسين الحالة المزرية التي تعرفها المُدن الجزائرية، وعصرنتها ولِمَا لا تطويرها إلى مُدن ذكية ومُنافسة أكبر المُدن تطورا حول العالم.

عثمان عزيزي/ دكتوراه في تسيير المُدن - كلية الهندسة والعمران جامعة قسنطينة 3
محاولات تعوزها الإرادة
إنّ التطور التكنولوجي حفز الكثير من الدول على استغلاله في تنمية المُدن بغية توفير الرفاهية الاجتماعية والاقتصادية لمجتمعاتها في جميع مجالات الحياة من صحة وتعليم ونقل وترفيه وذلك باستعمال التقنيات والبرمجيات الرقمية الحديثة بجعل كلّ التعاملات تتم من خلال شبكة رقمية، دون الحاجة إلى التنقل والتعامل بنمط الوجه للوجه الّذي فيه هدر للوقت والجهد والمال، بحيث يصبح الفرد لا يحتاج إلى التنقل لدفع فواتير الماء والغاز والكهرباء وذلك بربط المؤسسات بعدادات الكترونية بإمكانها إخطار أصحابها بالكمية والقيمة المستهلكة بصورة آلية وآنية، كما يمكن تقديم خدمات التربية والتعليم، والتعليم العالي بربط مختلف المؤسسات التربوية والتعليمية بشبكات تواصلية لاسلكية وبرمجيات رقمية تُسهل تداول المعلومات العلمية والإدارية واستقبال المحاضرات والدروس بواسطة الحواسيب والهواتف النقالة مع إمكانية التواصل وتفحص كلّ ما تحتويه المكتبات بهده المؤسسات عن بعد.
كما أنّه يمكن تحديث قطاع النقل بتركيب كاميرات ومستشعرات رقمية تُمكِن من مراقبة حركة المرور بالتحُكم في الإشارات الضوئية عن بُعد لتسهيل حركة المرور ومُراقبة حركة الراجلين بدقة مُتناهية، إضافة إلى مراقبة حظائر ومواقف السيارات مع إمكانية توجيه أصحاب السيارات إلى الحظائر وفقًا لدرجة تشبعها، كما تُمكِّن التكنولوجيا الحفاظ على إيكولوجية المدينة بمراقبة نوعية الهواء ومساعدة المصابين بالحساسية لاتخاذ احتياطاتهم الصحية مع الاعتماد على التقنيات الحديثة في رفع القُمامة وفرزها ومعالجتها ورسكلتها.
كما تُمكنُنا من توفير الخدمات الإدارية عن بُعد من خلال تطبيقات تجعل الجميع يتفادى التنقل إلى مختلف الإدارات والمؤسسات العمومية.
إنّ الذكاء الرقمي هو إسداءٌ مُختلف الخدمات التي يحتاجها الفرد والمجتمع يوميًا دون الحاجة إلى التنقل وهدر الوقت والطاقة والمال وذلك باستعمال وسائل تكنولوجية بتطبيقات وبرامج رقمية في الهواتف النقالة والحواسيب.
إنّ بلوغ هذا المستوى من التحُكم في إدارة وتسيير المُدن يتطلب مساهمة كلّ الأطراف الفاعلة والمتدخلة في العملية التنموية من مؤسسات الدولة والقطاع الخاص والمجتمع المدني الّذي يُساهم بمستوى وعيه وتكوينه في استعمال الوسائل التكنولوجية والحفاظ عليها كمكتسبات عمومية.
كما أنّ تنمية المُدن وتزويدها بالذكاء الرقمي لا يستدعي بالضرورة إعادة تصميم المخططات العمرانية، بل فقط بانجاز شبكاتٍ للألياف البصرية وتزويدها بمحطات تجميعية للمعلومات والمُعطيات الضرورية لكلّ قِطاع في المدينة مع إدراج برامج وتطبيقات تعمل على التنسيق بين مُختلف القطاعات مع اعتماد آليات الحوكمة الرشيدة التي تعمل على إشراك كلّ الفاعلين في عملية إدارة وتسيير الشؤون العمومية بانجاز مُخطط تسيير شامل لمناحي الحياة للمدينة. إنّ تطبيق هذه الأفكار ليس بالمستحيل في مُدننا، بل يتطلب إرادة حقيقية من الهيئات القائمة على تسيير شؤون الدولة مع تكوين كفاءات بشرية وتوفير وسائل مادية وقد بادرت الدولة إلى تنفيذ أوّل مشاريع المدينة الذكية لمدينة سيدي عبد الله بالجزائر العاصمة، إلاّ أنّ النتائج كانت مُخالفة للتوقعات نظرا لعدم التنسيق في الدراسات المُخصصة لهذه المدينة والتي لم تكن في مستوى جعل المدينة ذكيةً وهو الأمر الّذي تحاول الدولة استدراكه تدريجيًا بإدماج مشاريع من شأنها أن تبدأ في عملية الرقمنة تدريجيًا، كما بدأت ببطاقة التعريف البيوميترية التي لها عِدة استعمالات إلاّ أنّها في بدايتها، إضافة إلى مشروع رخصة السياقة البيومترية وبطاقة الشفاء، كلّ هذه تبقى محاولات تجاه عالم الرقمنة تتطلب الاستثمار أكثر للإمكانيات المادية والبشرية.

فوضيل خالد/أستاذ في معهد تسيير التقنيات الحضرية -جامعة قسنطينة 3
قبل بناء مدن ذكية وجب بناء مدن فقط!
من إنسان المغارة إلى إنسان الفضاء... ومن سيدنا آدم إلى «بيل غايت»، عرفت البشرية مراحل مِفصلية في التاريخ والجغرافيا والعمران، حيث شهدت التجمعات السكنية ومُدن العالم مجموعة من الثورات آخرها الثورة الالكترونية، تمثلت في التطور التقني السريع الّذي ميّز بالخصوص بداية القرن الواحد والعشرين، حيث شهدنا ظهور نُظم المعلومات وتكنولوجيات الإعلام والاتصال وانتشارها بشكلٍ سريع ومُتزايد، هذا ما انعكس على المجتمع وطريقة أداء الأعمال والنشاطات والعيش والانتقال تدريجيًا من التقاليد السوسيولوجية القديمة إلى الطُرق التكنولوجية الدقيقة والسريعة. كلّ هذه المُتغيرات ساهمت في تطور وتبلور مفهوم المدينة المُتعدّدة التقنيات كالمُدن الرقمية، الالكترونية، الافتراضية، المعرفية والذكية، جميع هاته المُدن مُرتبطة بالجغرافيا والإنسان. فكيف انتقلت إذا المدينة من الأركيولوجيّا إلى التكنولوجيا؟
يقول محمّد لعقاب في كتابه «المواطن الرقمي» الصادر عن دار الوطن اليوم: «في مطلع 2011 أصبح في العالم نحو 1,5 مليار مُستخدم لشبكة الانترنت، يرسلون يوميًا نحو 2 مليار رسالة بريد الكتروني وأنّ 90 بالمائة منهم أي حوالي 940 مليون يتواجدون بشكل مستمر في المواقع الاجتماعية...»، هذا في 2011 ولا شك أنّ الأعداد والإحصائيات تضاعفت ونحن على أبواب 2020. لا شك أنّ هذا الكم الهائل من التكنولوجيا والتغيرات التي شهدها العامل نقلتنا تدريجيًا من إنسان الكهف إلى «روتنبرغ»، وقفزت بنا من المواطن الرقم إلى المواطن الرقمي، ومن فكر القبيلة إلى فكر القرية العالمية الصغيرة، ومن شح المعلومة إلى غزارتها، ومن السكون إلى التفاعليّة، وانتقلنا من المجتمعات التقليدية المُحافظة والمُنغلِقة إلى المجتمعات الحديثة المُتفتِحة. وهنا يُمكن الإشارة إلى أعمال ودراسات المُفكر الأمريكي «الفن توفلر» وهو باحث وعالم في المُستقبليات حيث صنف التطور الحضاري إلى ثلاث مراحل أساسية، الحضارة الأولى زراعية والثانية صناعية، أمّا الثالثة فهي مرحلة المُجتمع ما بعد الصناعي أو مجتمع الإعلام والمعلومات. حيث وضّح أنّ الموجة الأولى ارتبطت بشكل أساسي وحتمي بالأرض، وهي نِتاج الثورة الزراعية ومازال إلى اليوم العديد من البشر يعيشون ويموتون في مجتمعات زراعية ما قبل الحداثة، يُفلِحون الأرض مثلما كان يفلحها أجدادهم منذ قرون عديدة. والحضارة الصناعية بدأت في الفترة التي تأكد فيها عِلم نيوتن وبدأت الآلة البُخارية تُستغل اقتصاديًا وانتشرت المصانع في أوروبا تجذب العمال من المزارع وبدأوا ينزحون إلى المدينة... ثمّ جاءت المرحلة الثالثة بداية 1956 تقريبًا حيث أصبح المُشتغلون في غير الزراعة أكثر من الـ50 بالمائة.. وبدا فيها قطاع الإدارة والخدمات بالتقدم، وظهر بعدها مُصطلح العولمة بالنظر لانتشار المعلومات باستعمال الكمبيوتر والشبكات المختلفة. واستمر التطور التكنولوجي بوتيرة سريعة ومس جميع مناحي الحياة دون استثناء... حيث باتت تقنية المعلومات والاتصالات ونُظم المعلومات الجغرافية ركنٌ أساسي في حياتنا اليوميّة. وبدأ مفهوم المُدن الذكية والخدمات الرقمية والالكترونية، يتردّد على مسامعنا أكثر من أي وقت مضى، بعدما اعتادت آذاننا على عبارات مثل الهاتف الذكي، والتلفزيون الذكي، والسيارة الذكية، والمنزل الذكي ويبدو أنّ «الذكــاء» أصبح بحجم كرة ثلج كبيرة تتدحرج لتضم مُدناً بكاملها. هذا التطور أنتج لنا نقلة نوعية بين ثلاث أنواع من المُدن والتي تُصنف حسب إدارتها ونوعية الخدمة داخلها حيث انتقلنا من المدينة التقليدية إلى المدينة الرقمية ثمّ إلى المدينة الذكية.
نعتقد أنّ هذه المقاربة التاريخية ضرورية لفهم إرهاصات المدينة الذكية. خاصة التجربة الجزائرية، فمُدُنُنا مازالت تعاني مشاكل لا تُعد ولا تُحصى على بساطتها جعلت من الأوساط الحضرية مراقد فقط تخلو فيها أُسس العيش الكريم، فقبل أن نبني مُدنا ذكية وجب علينا أولا بناء مُدن فقط. والمدينة الذكية برأينا ليست «قرار سياسي» إنّما بناء سوسيوثقافي وحضاري. وللوصول إلى ركب المُدن الذكية يجب أولا تكوين منظومة كبيرة، أساسها التكامل بين نُظم المعلومات الجغرافية المجالية والتقنيات الأخرى مثل تكنولوجيا المعلومات والاتصال وأنظمة إدارة البيانات هذا يؤدي إلى التسيير السلس والسليم والتشاركي للمدينة وسهولة اتخاذ القرار بها. من الواضح أنّ هناك «فجوة الكترونية» بين الجانب الإداري (القرار السياسي) والجانب العَملي في تطبيق مفاهيم الإدارة الالكترونية والحكومة الذكية في الجزائر ومن هنا يبدأ العمل.

عادل رحماني/ أستاذ هندسة معمارية وتسيير حضري -جامعة باتنة
نحن في حاجة إلى إعادة اختراع الأشكال العمرانية و المباني
تُواجه المُدن الآن صعود التكنولوجيا الرقمية، وفي هذا السياق ظهر مفهوم المدينة الذكية في التسعينات، إلى جانب ظهور ما يُسمى بتكنولوجيا الإعلام والاتصال. ونظرا لتنوع استخداماتها، أصبحت التكنولوجيات الرقمية أحد العناصر الرئيسية في الواقع الحضري المُعاصر، وتحتل مكانة مركزية في المشاريع الإستراتيجية الحضرية.
الحديث عن المُدن الذكية يقودنا للحديث عن الاستدامة والمرونة والأمن في المدينة، وعن نموذج يمكن أن تميل إليه النُظم الحضرية بفضل التكنولوجية الحديثة، نموذج من السهل تطبيقه في حالة ما يُسمى بالمُدن الجديدة وأمثلة مختلفة في العالم مثل «سونغدو» في كوريا الجنوبية و»مصدر» في الإمارات العربية المتحدة خير دليل. ولكن من الواضح أنّ مفهوم المدينة الذكيّة لا يقتصر على المُدن الجديدة وحدها. والسؤال هو: كيف يمكن أن نجعل من المدينة ذكية ().
على غِرار مُدن العالم، يجب على المدينة الجزائرية أن تُواجه تحديات مُتعدّدة بسبب تطورات العالم المُعاصر. وتُصبح الحاجة إلى تنمية حضرية مُتجانسة ومُستدامة في بيئة آمنة من الأولويات. بمرافقة هذا التطور، يجب على صانعي القرار على وجه الخصوص، إعادة النظر في طُرق بناء البنية التحتية والخدمات من الآن فصاعدا بنهج استراتيجي يحتوي على نظرةٍ جديدة للبُعد المعماري للمدينة بعد أن أصبح هذا مُمكنًا من خلال التنمية الرقمية وتكنولوجيات الإعلام والاتصال الحديثة. لم تعُد المدينة راضية عن التخطيط التقليدي الّذي اعتادت عليه، بل أصبحت تحتاج إلى أسلوبٍ جديدٍ ورشيد يتجاوز بكثير هذا التخطيط، مهما كان شاملا أو مُعقدا، لأنّ مفهوم الحيز الحضري قد تغير عمَا كان عليه. لتصبح المُدن الجزائرية ذكية سوف تضطر إلى وضع وتطوير طُرق جديدة للإنتاج الحضري والمعماري على سبيل المثال مسألة: النقل والتنقل الذكي في المدينة، فأحد التحديات هو دمج وسائل النقل المُختلفة في نظام واحد ويسمح هذا في الحد من الأثر البيئي، ويُحسِن استخدام الحيّز الحضري ويُوفر لسكان المُدن خيرات مُتعدّدة وواسعة من الحلول المُتعلقة بالتنقل. ودون نسيان مسألة التوسع الحضاري العقلاني وما يُعرف بالسكن الذكي فارتفاع قيمة العقارات في وسط مدينة مع محدودية توفر الأراضي جعل مهمة المدينة في التوسع العقلاني مُعقدة. والواقع أنّ نموذج التوسع الحضري، الّذي كان مُكلِفًا من حيث الحيّز والمرافق العامة والطاقة لم يعُد مُمكِنًا. نحن بحاجة إلى إعادة اختراع الأشكال العمرانية والمباني التي تحتاج أيضا إلى أن تكون أكثر ذكاءً من أجل تيسير وتحسين إدارة الطاقة، ويتطلب وضع إستراتيجية لمدينة ذكية، أولا وقبل كلّ شيء، دراسة مفصلة للسياق، أي ما هو موجود بالفعل وما يمكن تحسينه. هذا يبدو سهلا وبسيطا، ولكن التجربة تُظهر أنّه من السهل الانخراط في رؤى وتخطيطات لمدينة مستقبلية والمرور جانبًا في القضايا المحلية الحقيقية التي تستحق التطوير. إنّ البدء في إستراتيجية أو نظرة لتطوير وعصرنة وجعل أي مدينة ذكية لا ينبغي أن يكون إلاّ بعد اختيار عِدة مجالات للتركيز عليها بالتوافق مع تاريخ وثقافة الإقليم.

عبد الرزاق أمقران/ أستاذ وباحث أكاديمي -جامعة محمّد لمين دباغين سطيف2
المدينة الذكية نتيجة مسار تاريخي و لا تبنى بتصوّر بيروقراطي
تعاظم الحديث في الجزائر حول المدينة الذكية في السنوات الأخيرة ليس فقط على المستوى السياسي لكن أيضا على مستوى بعض مراكز البحث والسلطات المحلية، في مسعى جماعي يكشف تنسيقا يستهدف التفكير في مدينة جزائرية أفضل. الحديث عن المدينة الذكية بالقدر الّذي أسعد البعض فإنّه أيضا فرض مجموعة من الانشغالات توجب إيلائها الاهتمام الكامل.
يتمثل الانشغال الأوّل في تحديد المسار التاريخي المفضي إلى محطة نهائية تجعل من المدينة الذكية مشروعا متاح تحقيقه. لا يجب أن يغيب عن الأذهان أنّ العالم راهنا تتحكم في سيرورته مفاهيم تنتجها مجتمعات بعينها وتستهلكها مجتمعات أخرى لا تقوى على استنبات مفاهيمها الخاصة وفرضها على الآخرين. وعليه، مفاهيم مثل التنمية المستدامة، البيئة والمدينة الذكية هي تصورات للذات والعالم يولدها العالم الغربي وهي في كنهها تتويجات لمسارات فكر مر بمخاض كبير قبل أن يبلغ مرحلة نضج متقدمة. وبالتالي، المدينة الذكية كمشروع يجد سُبُل تحقيقه وانجازه في الحاضنة التي أوجدته، ولا دليل متوافر على أنّ نفس المشروع يلقى طريقا للتجسيد في عوالم غريبة عنه.
من الواضح أنّ المدينة الذكية في الجزائر تواجهه حتميًا مشكلات التكيف مع منتج تصوري للمدينة هو في الحقيقة عنصر ثقافي وافد ومنه تُطرح قضايا المقاومة والرفض انطلاقًا من مقومات الشخصية الجزائرية.
مشروع المدينة الذكية في الجزائر يطرح من مصادر صنع القرار في الوقت الّذي تعاني فيه المدينة الجزائرية الواقعية من مشكلات عويصة على جميع الصُعد. التساؤل إذا، هل التكنولوجيا بإمكانها فعلا التخفيف من معاناة السكان أم أنّ المشكلات الهيكلية والبنيوية تغرقها في فوضاها فتتحوّل التكنولوجيا إلى معيق إضافي يُثقل كاهل المدينة والفاعلين فيها. المدينة الذكية من حيث أنّها مشروع يهدف إلى تسهيل حياة السكان بتوظيف التكنولوجيا يصطدم في الواقع الجزائري بالأمر الحيوي التالي: هل المؤسسات والهيئات التي ستضطلع بمهام تجسيد مضامين المدينة الذكية مؤهلة بالشكل المؤثر أم أنّها ستعتمد على التصور التقني والبيروقراطي في تحركها؟ وقبل ذلك، هل تملك معطيات دقيقة تؤكد على الحضور الفعلي للذكاء المجتمعي الكفيل بأن يستوعب ويتفاعل مع متطلبات المشروع؟

الرجوع إلى الأعلى