بعكس اللون الأبيض يقترن الأسود بصفات إعتامية كثيفة تجعل منه - بامتياز – نقيض النصاعة والوضوح؛ فهو اللون الذي يتفق على أنه نقيض الأبيض- وبقية الألوان لا نقيض واضح لها – وهو اللون الذي تبتلع عتمته جميع الأشياء وتستدعي معها أكبر قدر من الشؤم والسلب؛ فهو لون الحداد والحزن، ولون الحقد والضغينة (القلب الأسود) ولون الغبن والـغش(السوق السوداء) ولون العبودية والوضاعة (الجنس الأسود) ولون الكــآبة والأسى (الأفكار السوداوية) وفوق كل هذا هو لون المحن والشدائد (اليوم الأسود، والزمن الأسود...)
بهاء بن نوار
وهذا ما يجعله معادلا لكل ما يحيل إلى القصور والنقصان، والعتمة المفضية إلى الموت والانطفاء.
ولكن حضوره في رواية «ذاكرة الجسد» يتحرَّر من جميع تلك المرجعيات، ويكتسب سمات جديدة، تعلو فيها ملامح الحركة والحياة؛ فهو – وفي شق كبير من تمظهراته – فضاء الوجود المتحقق، أو فضاء اليقين والتحدُّد، وإشعار بديمومة الحياة، وبأنَّ بعضا من أيامها قد عيش واستهلك، وشُهدت فيه بعض الأحداث والتغيرات، ذات الأثر التحويلي، الذي من شأنه إقصاء الرتابة والجمود، والقضاء على نمطية الزمن واستواء أجزائه، وتلمس هذا لحظة تسويد أوراق المفكرة، وإتراع بياضها بجملة من الأحداث والمواعيد، لها الفضل في استشعار شيء من الحركة  والتفاعل مع الآخر، والإيحاء بأن ثمة أهدافا تستحق أن يعيش المرء لأجلها:
«كانت أيامي مثل أورق مفكرتي ملأى بمسودات لا تستحق الذكر، وكنت أملؤها غالبا كي لا أتركها بيضاء، فقد كان اللون الأبيض يخيفني دائما عندما يكون على مساحة ورق.» ص75. ويتضح من هذا القول طرفا معادلة ضدية؛ أحدهما يحيل إلى الموت (الأبيض) والآخر إلى الحياة ( الأسود ) ويتضمن – على الرغم من ذلك – معنى عدمياً يستدعي القتل بالضرورة؛ فالبطل – حين يسود مفكرته، ويتغلب على بياضها الميت يصل إلى – درجة عليا من تحقيق الوجود، ويقضي على ترهُّل الاحتمالات، وانطماس الذات، ولكنه في الوقت نفسه يقصي احتمالات أخرى كان يمكن أن تقع، ويجعل من صميم الأحداث متقوقعا في شرنقة الماضي ، الذي استهلك واستنفد، أو المستقبل القريب الذي لا مفر من انطفائه، وانقلابه ماضيا ممتصا، مات وانتهى.
ومن جهة أخرى، يمكن تلمس حضور حيوي آخر للأسود، يقترن في جوهره بالمرأة، ويضفي على علاقتها بالرجل طابعا تكتميا كان له الفضل الأكبر في اجتناب تطفل الآخر، من جهة، وضمان ديمومة العلاقة من جهة أخرى؛ فخالد لا يلتقي بمن يهوى من النساء إلا في الظل والظلام بعيدا عن الأعين، والرقباء؛ عشيقته الفرنسية «كاترين» كانت – كما يقول  تحب أن تلتقي به ولكن دائما في بيته أو بيتها، بعيدا عن الأضواء، وبعيدا عن العيون.»ص83.
وحبيبته «أحلام» لا يلتقيها إلا في مقهى أو مطعم بعيد عن أعين معارفها، أو في مرسمه الصغير حيث لا يراهما أحد.
وهنا يأتي السواد المعتم معادلا لاستدامة الحال العشقية، وتواصل طرفيها: المرأة والرجل.
وحين ينبت حبل اللقاء أو يكاد بين خالد وأحلام، يظهر هذا السواد من جديد، ولكنه لا يتراءى هذه المرة همزة وصل بين الطرفين، ولا ملاكا حارسا لأحلامهما، بل يطل علينا وقد غدا فضاء مواجهة كبرى، بين الحلم والواقع، أو بين الحال الأولى التي أثثها الوصل والتلاقي، والحال الثانية التي ملأتها الوحشية نأيا واغترابا، تبخر فيها أي أمل في اللقاء. ولدى توضح لحظة المواجهة هذه، يطلُّ اللون الأسود بإلحاح، متوزِّعا على مرحلتين، يختبر  في أولاهما خالد علاقة أحلام بزياد، حين يفتح المفكرة السوداء لهذا الأخير، ويشرع في النفاذ إلى أسرارها العميقة، التي لا تطفئ وساوسه، ولا تهبه الراحة والسكينة، بل تزيده اضطرابا، وبلبلة، وشكّا، وتبقى الحقيقة ضبابية متعتمة، لا سبيل إلى تقصِّيها أو محالة الكشف عنها.
وفي المرحلة الثانية، يظهر السواد لدى حضور خالد زفاف حبيبته، وارتدائه بهدلة سوداء، يتأمل من خلالها عجائبية ذاك اللون، وإدهاشه؛ فهو اللون الذي يلبس في الأفراح والمآتم معا، وهو لون الزهَّاد والمتصوفين، ولون الصدمة، والصبر، واللون الذي يحمل نقيضه دائما، ويضع حاجزا بين مرتديه والآخرين. ص 419.
     وبغض النظر عن المعاني الكثيرة التي يستجلبها هذا اللون، فإنَّ معنى وحيدا يعنينا في هذا المقام هو المعنى الذي يتضمن صفات الغموض، والإبهام، واللايقين، التي تطوق هذا اللون، وتلازمه في كثير من تجلياته.
وقد أتى الأسود هنا ليرسم مشروع مواجهة كبرى مع الذاكرة، أو مع الماضي الذي تكتنفه لا محالة لحظة الاصطدام بالحاضر والصراع معه، وتضخم إشارات التوتر والتناقض بين ما يحمله كل منهما من معان متناقضة مفترقة، كانت في شقها المنغرس في صميم الماضي متسمة بحد أعلى من التزأبق والتقلب في فضاءات الشك والاحتمال؛ الفضاءات التي سبقت لحظة فتح المفكرة السوداء، وولوج أسرارها الدفينة.  أما الشق الثاني؛ وهو الشق الآنيّ، المنفتح على الذاكرة والحاضر معا، فتمزق بين لحظتين متواليتين؛ أولاهما لحظة المواجهة المطلقة، والتحديق بإلحاف فيما هو كائن، بحضور حفل الزفاف أولا، وتغليف هذا الحضور بإطار أسود، يضع حاجزا بين الأنا – خالد – والآخر – أحلام – أو يسدل الأستار بين جوهر الذات الثابت، الذي لا يتزحزح، والطارئ الذي قد يعترضها ويؤثر فيها.
وقد بدا هذا الطارئ متمثلا في ذات «أحلام» امرأةً أحبها البطل، وتمناها ثم لم ينلها، فكانت العصب الموجع من ماضيه، والأنين المتصل بحاضره، وآتيه.
وهنا تتوضّح اللحظة الآنية الثانية، وفيها ينقلب فعل المواجهة الأولية مع الذاكرة، إلى فعل مواجهة ثانية مع المكان، يعود من خلالها خالد إلى جذوره الأصيلة، ملتحما بمهده الأول؛ قسنطينة: المدينة التي يصفها بأنها «تتربص بكل فاتح... تلف نفسها في ملاءتها السوداء، وتخفي سرها عن كل سائح.» ص 345؛ المدينة التي كانت المبدأ، وأصبحت المنتهى، في أزقتها  وزواياها، و فوق جسورها يلمم خالد بعضاً مما تبقى من نزف ذاكرته، ووجع خيبته وآلامه، مذيبا سوداوية نفسه في سوداوية مدينته، باحثاً عن فسحة أوسع للنسيان، وأفق جديد أنصع، وأنقى من الذي سبقه؛ فلا يجد سوى الشحوب الحائل ومزيج منفر من الوحشة والإعتام، يتراءى في السواد الحداديِّ المكبل حركية المدينة، والمتبدِّي بشكل صارخ في زيّ نسائها اللواتي انقلبن من كونهن بارقة جذب وإغراء، وفتنة، واستمالة، إلى مصدر للكآبة، والحزن، والجفاف؛ يلتحفن السواد، ويجعلنه لازمة مظهرية، وواجهة يطللن من خلالها على العالم، ويتفاعلن بواسطتها معه، مضفيات بهذا التفاعل جوا ثقيلا من العدمية، والضياع، لم يحتمل عتمتهما خالد، ورأى فيهما امتداداً لغموض الأبيض، وخوائه، واتساع مساحة الكذب، والاحتمال فيه:
«.. أريد أن أصبَّ الآن لعنتي، أبصق مرارة عمر من الخيبات، أفرغ ذاكرة انحازت للون الأسود  منذ انحزت لهذه المدينة الملتحفة – حماقةً – بالسواد منذ قرون، والتي تخفي وجهها – تناقضا – تحت مثلث أبيض للإغراء... ربما رسمت نساءً بملاءات سوداء، ومثلثات بيضاء، وعيون كاذبات، واعدات بفرح ما، فاللون الأسود لون كاذب في معظم الأحيان... تماما مثل اللون الأبيض.» ص 400- 401.
     وهنا تتوضّح نقطة اللقاء والامتزاج بين اللونين السحريّين؛ الأبيض والأسود؛ كلاهما يطوق خالدا من كلّ الجوانب، ويربكه: باريسيا عن طريق «أحلام»؛ المرأة المتشحة بالبياض دائما، والجاعلة من حلكة شعرها مصدر الإرباك وجوهره.
وقسنطينيا عن طريق نساء المدينة، اللواتي كلهن سواد، ولا بياض إلا في براقعهن المثلثة الناصعة.
وفي صميم هذا الامتزاج يتبدّى طرفا معادلة ضدية، يهيمن في شقها الأول البياض – أحلام- ويهيمن في الثانية السواد – نساء قسنطينة – وكلاهما يرتبط بالمكان، ويصبّ في بؤرته المفصلية العميقة، التي يمكن وصفها بأنها هاجس الرواية، ولبها  الحركي، تتوزع زمنيا على ثلاث حركات، جميعها تلتحم بالأصل، والرحم الأولى؛ ماضيا بعيدا يتلمس من خلال محاربة الاستعمار، وتقديم النفس فداء الوطن، وماضيا قريبا يتراءى لحظة البعد عنه، والانغماس في غياهب الغربة والحنين، وحاضرا منفتحا على المستقبل، يتبدى لدى العودة الارتدادية إلى أحضانه، وإثلاج الصدر بمرأى أزقته وجسوره، التي لم تعد – في واقع الأمر – رؤيتها تعني شيئا، مما يعني توضح ملامح مفارقة، فقد فيها المكان صفاته الإيجابية المترعة بالحميمية، والتآلف، والتوحد مع الجذور، ليغدو امتدادا لفضاء الغربة؛ عدميا، وحافلا بالوحشة واللاجدوى.
   وأخيرا لا ينبغي القول بأن جميع ملامح السواد اقترنت في هذه الرواية – بسلبي الدلالات ومعتمها فحسب ، بل يمكن تلمس كثير من المعاني الإيجابية المشرقة ، لا زمت هذا اللون في كثير من المواضع وأحالت حلكته ألقا وإشعاعا ، أضاءا جميع مدلهماته، ودهاليزه  وانقلبا به  من بؤرة شر مطلق إلى بؤرة خير مطلق .
ومن ذلك ما يمكن قوله على جملة الملمات المهيمنة على جو الرواية ، بدءا بمشكلة الاستعمار التي أفضت إلى الإعاقة وفقدان الذراع ، فمشكلة الصراع مع سماسرة ما بعد الاحتلال التي انتهت بالغربة وهجر الوطن ، وانتهاء بملمة الحب وخيباته التي أفضت إلى تشظي النفس وضياعها ، وتخبطها في متاهات الألم والذكرى .
وجميع هذه الملمات السوداوية القاسية أفضت حتما إلى انبلاج بصيص من الأمل والنور ، لم تعد معه عامل عرقله وانكفاء ، وجمود ، بل غدت تمتلك مزيجا من الصفات الإيجابية المشرقة ؛ فهي – من جانب تمثل سواد العتمة التي لولاها ما تبين الضوء ، ومن جانب آخر تمثل التحول السيروري الذي بفضله تتبرعم الحياة ، وتستطيل متحدية كوة العدم ،والانكفاء ، وهذا بدءا بنقمة الاحتلال التي انتهت بإنتاج حس ثوري ووعي جديد بضرورة التحدي والنضال ، ونقمة العطب التي بقدر ما سحبت الذات نحو دائرة الضعفاء ، والمحرومين بقدر ما فجرت فيها ينابيع التوثب والرؤيا ، والقدرة على التخطي والاستباق ، فكان أن ولدت موهبة الرسم ، وانطلقت الفرشاة مستوحية ملامح المكان – قسنطينة – جاعلة منها هاجسا إبداعيا ، وتحليقا به تلتئم أجزاء اللوحة  وتتماسك بالغة والوحدة ، والانسجام ، ساحقة – في الوقت نفسه – عتمة البياض وعدميته.
أما نقمة الحب ، وسوادوية خيبته ، فانتهت بأمرين ؛ أحدهما العودة إلى أحضان الوطن المهجور  والانفتاح على عبق ذكراه ، وحميمياته الأليفة ، والثاني الانفتاح على ألفة الكلمات وسوادها المشع المخترق صمت الورقة وبياضه ، فكان أن ولدت «ذاكرة الجسد» رواية جارفة يرويها «خالد»، وتفيض خواطره في صقل مشاهدها وأحداثها سلاحا يشهره طلقات مكتومة في وجه غريمته «أحلام» وعلاجا يستطب به، ويسعى إلى الشفاء من ذاكرته به.

الرجوع إلى الأعلى