نشر الفيلسوف السلوفيني سلافوي زيزاك مساهمة بجريدة “ذا إندبنت” البريطانية ، وتزامنت مع موجة حر قوية ، و يحلل زيزاك الأمر من منطلق فلسفي وبأسلوب لا يخلو من الطّرافة، رغم عمق الأدوات العقلية التي يستخدمها لمقاربة المشكلة من زوايا لا يتم التطرق إليها إلا قليلا، بعد أن صارت الطبيعة، والبشرية كواحدة من انعكاساتها، مهددتان بالزوال في غفلة من العالم.  “النّصر” تقدم لقراء “كراس الثقافة” ترجمة للمقال إلى العربية، حيث يتحدث فيه زيزاك عن خروج عواقب صنيعة الإنسان عن سيطرته ما يهدد بقاءه في المستقبل، في حين تثير المساعي العلموية المخاوف بسبب طموحاتها غير المحدودة نحو العبث بأنماط الطبيعة وخلق أشكال جديدة مستقلة في تطورها، ما يجعل الطبيعة في نفس الوقت تحدّ من حرية البشر.
سلافوي زيزاك/ ترجمة: سامي حبّاطي
تدرك أنّك قد تحوّلت إلى حالة فرويدية كلاسيكية، عندما تفقد ذاتك في تأملات فلسفية، فقط لتلهي نفسك عن التفكير في درجة الحرارة، أو تحاول ذلك.
لا أحبّ الحر، وفي هذه الأيام، أحلم أن أكون على جزر سفالبارد شمال النّرويج، على بعد مسافة قريبة من القطب الشمالي، ولكن بما أنني عالق في منزلي، فإن أكثر ما يمكنني فعله هو أن أشغّل مكيف الهواء وأقرأ ... حول موجة الحر المستمرة والاحتباس الحراري بكل تأكيد.
وهو أمر (موجة الحر والاحتباس الحراري) يستحق أن نقرأ حوله. لم يعد تجاوز الحرارة لخمسين درجة بالخبر العاجل، فهذا يحدث في الهلال الواقع من الإمارات إلى جنوب إيران، وفي بعض مناطق الهند ووادي الموت (كاليفورنيا)، كما أننا نعلم اليوم أن التوقعات أكثر سوداوية، ولم تعد تهدد المناطق الصحراوية فحسب. وقد قرر الكثير من الفلاحين في الفييتنام النوم في النهار والعمل خلال الفترة الليلية بسبب الحرارة التي لا تُحتمل.
وفي حال استمرار الاحتباس الحراري، فإن أكبر المناطق أهولًا بالسكان في الصّين – السّهل الشمالي من بكين إلى شنغهاي، أين تتركز الكثافة السّكانية والإنتاج الغذائي - لن يكون قابلا للسكن بسبب التركيبة المميتة للحرارة والرطوبة التي تقاس بما يعرف بـ”حرارة الميزان المبلّل”. وما إن تبلغ حرارة الميزان المبلل 35 درجة، يُضْحِي جسدُ الإنسان عاجزًا عن التّبريد الذاتي من خلال التّعرّق، وحتى الأشخاص الذين يجلسون في الظل يموتون خلال ست ساعات.
ماذا يحدث إذن ؟ يزدادُ وعيُنا بعدم التأكد المطلق من بقائنا باستمرار، ويكفي أن يهزّ الأرضَ زلزالٌ مدمّر أو أن يضربها نيزك عظيم أو موجة حر قاتلة لينتهي كل شيء. كتب جيلبرت كيث تشيستيرتون : “أزيحوا الخارق للطبيعة ولن يبقى لكم إلا غير الطبيعي”. ينبغي علينا تأييد هذا القول، لكن في المعنى المعاكس له، وليس بالمعنى الذي أراده تشيستيرتون. “يجب أن نقبل أنّ الطبيعة ليست طبيعية، بل هي عرضٌ فظيع من الاضطرابات الاعتباطية دون أية قافية باطنية. ويحدُثُ أكثر من ذلك بكثير أيضا.
ومع كل نشاطاتنا الرّوحية والعمليّة، يجعلُنا الاحتباس الحراريّ أكثر وعيًا بأنّنا، في المستوى الأكثر قاعدية، مجرّد كائناتٍ أخرى تعيشُ على كوكب الأرض، ويتوقف بقاؤها على بعض المعايير الطبيعية التي نظنّها مضمونةً بصورة آليّة.
إنّ الدرس الذي يعلمنا إياه الاحتباس الحراري يتمثل في أن حرية الجنس البشري تحققت فقط بفضل ثبات المعايير الطبيعية للحياة على الأرض، على غرار الحرارة ومكونات الهواء وتوفر المياه بكميات كافية والتزود بالطاقة وغيرها. لا يمكن للبشر “أن يفعلوا ما يشاؤون” إلا بقدر بقائهم هامشيّين بما يكفي لعدم العبث بتلك المعايير الطبيعية للحياة بشكل خطير. وعندما تنمو حريتنا باعتبارنا كائنات تؤثر على العالم، فإن الطبيعة تستجيب بالحد من حريتنا، وتتحول “الطبيعة” في ذاتها إلى واحدة من الفئات الاجتماعية.
لم يعد العلم والتكنولوجيا يسعيان إلى فهم سَيْرِ العمليات الطبيعية وإعادة إنتاجها، بل صارا يستهدفان توليد أشكال جديدة من الحياة ستفاجئنا، فالهدف لم يعد الهيمنة على الطبيعة فحسب (كما هي) وإنما خلقُ شيء جديد، أقوى وأعظم من الطبيعة الاعتيادية، بما في ذلك ذواتنا. ويُعدّ الهوس بالذكاء الاصطناعي خير مثال على هذا التوجه، إذ يسعى إلى صناعة عقل أقوى من العقل الإنساني، وتعززت هذه المحاولات التكنولوجية بالحلم بإطلاق عملية دون عودة، وقادرة على إنتاج نفسها بأضعاف مضاعفة وتواصل ذلك بمفردها.
وأصبح مفهوم “الطبيعة الثانية” اليوم أكثر تداولا من أي زمن سابق بمعنييه الرئيسي، فمعناه الحرفي الأول يتجسد في الطبيعة الجديدة المولّدة اصطناعيا: وحوش الطبيعة، والأبقار والأشجار المشوهة، أو – الحلم الأكثر إيجابية – الكائنات المعدلة جينيا، التي “تُحسَّن” في الاتجاه الذي يناسبنا.
ثمّ، تأتي “الطبيعة الثانية” في معناها الأكثر أساسية والمتعلق باستقلالية نتائج نشاطاتنا، وتتجلى في هروب أفعالنا منا إلى عواقبها الخاصة بها وفي خلق وحش له حياته الفردية، وليست قوة الطبيعة الخارجة عن سيطرتنا ما يثيرُ الصّدمة والرّعب، وإنما هو الخوف من النّتائج غير المتوقعة لأفعالنا.
ولا يقتصر التهديد بالخروج عن السيطرة على سير العملية الاجتماعية للتطور الاقتصادي والسّياسي، بل أصبحنا في مواجهة تهديد عمليات طبيعية جديدة، من خطر الكوارث النووية والاحتباس الحراري إلى العواقب غير المنتظرة للتلاعبات بالنشوء الحيوي. وهل يمكن لأي منا تخيل النتائج غير المتوقعة للتجارب النانوتكنولوجية، حيث تُنتج أشكال جديدة نفسها بطريقة مستقلة تماما على شاكلة داء السرطان ؟
نحن، بالتالي، ندخل مرحلة جديدة أصبحت فيها الطبيعة “تذوب في الهواء” مثلما يقول ماركس في البيان الشيوعي Communist Manifesto، بمعنى أن أهم عواقب هذه الفتوحات في علم النشوء الحيوي هو نهاية الطبيعة. يفرض علينا هذا الأمر أن نضع تحريفا بسيطا لعنوان كتاب فرويد «قلق في الحضارة» Unbehagen in der Kultur  فيصبح السّخط والقلق في الثقافة. وفي ظل التطورات الأخيرة، انتقل السخط من الثقافة إلى الطبيعة نفسها، فلم تبق الطبيعة “طبيعية” أو تجسد الخلفية “المُكثفة”، التي يمكن الاعتماد عليها، لحياتنا. لقد تحولت اليوم إلى آلية هشة قابلة للانفجار بصورة كارثية عند أي نقطة.
لقد انتهى بي التفكير في موجات الحر والسّرحان في تخميناتٍ نظريّةٍ إلى نسيان الواقع المزري للحرارة التي لا تحتمل. وباختصار، إنني وقعت في فخّ ما سماه فرويد “الإنكار الفيتيشي”، وأنا أعلم جيدا مدى خطورة الأمر، لكنني، مع ذلك، غير قادر على أخذ المسألة على محمل الجد. لا أصدّق فعلا أن هذا يمكن أن يحدث.
وربما، لا يمكن أن نستفيق إلّا على وَقْعِ صدمةِ كارثةٍ حقيقية لسوء حظنا، لنصبح بعد ذلك أكثر وعيا بمدى سخرية الصراعات بين دولنا مثل ألعاب “أمريكا أولا” (شعار دونالد ترامب) والبريكسيت، في وقت يتفتّت فيه العالم بأسره تدريجيا ولا يمكن لشيء أن يبعث فينا الأمل إلا الجُهد الجماعيّ الواسع.

الرجوع إلى الأعلى