هل يسمح الفضاء الثقافي الجزائري بثرائه وتنوعه بما أصبح يُسمى التعددية اللغوية.. ؟ وإذ كان الأمر كذلك فلماذا ينزعج المثقف المفرنس من المعرّب أو العكس .
إستطلاع/ نوّارة لحـــرش
هل انتهى عهد ما كان يُسمى أنّ اللّغة الفرنسية «غنيمة حرب» وهل هناك من حوار جديّ بين الطرفين خالٍ تمامًا من أدوات التراشق الإيديولوجي الّذي ساد السياسة اللغوية في الجزائر. الأدوات الكامنة في تلك الأحكام الجاهزة بين الطرفين باعتبار أنّ المثقف المعرب في نظر زميلة المفرنس لا زال لم يتخلص بعد من مرجعيته الأصولية وغير قادر على مساءلة المُقدس، والمُثقف المُفرنس أيضا في نظر زميله المُعرب مُثقف تغريبي ومنبهر بلغة الآخر ولا يرى الحداثة إلاّ من منظور لغة فولتير؟
متى تفتح المؤسسات الأكاديمية ومخابر البحث نقاشًا حُرا ومسؤولا لمعالجة ظاهرة الازدواجية اللغوية أو التعددية اللغوية مُعالجة علمية تفتح سؤال الكتابة واللّغة بما يحرّر ظاهرة الازدواجية اللغوية من التجاذبات الإيديولوجية والتدخلات الحزبية والسياسية؟
حول هذا الشأن «إشكالات التعددية اللغوية في الجزائر»، كان ملف «كراس الثقافة» لعدد اليوم، مع مجموعة من المفكرين والباحثين الأكاديميين، الذين تناولوا المسألة، بكثير من المساءلة أيضا.

أحمد دلباني/كاتب ومفكر
النِقاش اللغويَّ لا يُرادُ له أن يخرجَ إلى فضاءٍ جديد من المعقولية
يبدو لي أنَّ النِقاشَ اللغويَّ في الجزائر لا يُرادُ له أبدًا أن يخرجَ إلى فضاءٍ جديدٍ من المعقولية الكفيلة بأن تخلصه من الرغبات المُضمَرة في «التطهير اللسانيّ» الباحث عن صفاء الهوية من جهةٍ أولى، أو آلية المهزوم اللاواعية في اعتبار «عدو العدو» صديقا ومُخلصا من جهةٍ ثانية كما لاحظنا مؤخرًا. لقد انتقلنا من اعتبار اللّغة الفرنسية «غنيمة حرب» إلى اعتبار غريمتها الإنجليزية «لغة العِلم والتقدم». لا يهم. فنحن مُستلبون ولا نستطيع التفكير خارج ردود الأفعال الظرفية والمهتاجة. الفرنسيّة ليست غنيمة فحسب بقدر ما هي، منذ أكثر من قرن، جزءٌ عضويّ حيّ من النسيج الثقافي الجزائري كما يتجلى ذلك في الأدب الّذي يُعتبرُ الراحل كاتب ياسين نفسه من أعلامه. كذلك ليست اللّغة الإنجليزية «لغة العِلم والتقدم» هكذا بإطلاق بقدر ما هي إمكانُ انفتاح على العصر وانخراط فيه لا غير ولكن متى توَفر الجزائريّ على العقل المُتحرّر المُبدع.
لكن لنعُد قليلا إلى جذر المشكلة. إنَّ المسألة اللغوية في الجزائر وما يُرافقها من صراع علنيّ أحيانًا ومُضمَر أحيانًا أخرى لا تمثل، في حقيقة الأمر، إلاّ الجزء الظاهر من الجبل الجليدي. فهذا الصراع – فضلا عن أبعاده الهُوياتية الظاهرة المُتعلقة باللّغة– إيديولوجي بالأساس، وهو يتعلق بخيارات سياسية وثقافية ومواقف فكرية ترجع إلى بدايات بناء الدولة الوطنية عشية الاستقلال. فانقسامُ النُخب، يومها، لم يكن انقسامًا لغويًا فحسب وإنّمَا انشقاقا في التصوّر والمرجعيات الإيديولوجية المُرتبطة بالبناء السياسي والاجتماعي. وبالتالي فالأمرُ ليس جديدا على المشهد الثقافي والسياسي الجزائري، ولكن ما يُلفت الانتباه وما يُثير الاستغراب هو دوامُ التشنج الإيديولوجي التقليدي بين موقفين متصادمين ورؤيتين للعالم لا تكادان تلتقيان. ففي حين يرى أنصارُ العربيّة في حضور اللّغة الفرنسيّة إرثا كولونياليًا ومدخلا ثقافيًا أو «حصان طروادة» يضمنُ أبديًا تأمين مصالح فرنسا الاقتصادية والسياسية؛ يرى الفرنكوفونيون الجزائريون، بالمقابل، في اللّغة العربيّة وتراثها مَعينـًا للأصولية الدينية ومعاداة الحداثة الحقوقية والسياسية والثقافية والتحنط في مناخ القرون الوسطى. هذا الصدامُ، على ما أرى، لم يستطع إلى اليوم تجاوز المُسبَّقات الثقافية والعرقية التي تأسَّس عليها التنابذ بين مكوّنات النُخب الجزائرية منذ عقود. إذ يشهدُ الواقع الجزائري اليوم –ثقافيًا وإيديولوجيًا– بروز نُخب جزائرية مُعرَّبة تُناضل من أجل سيادة رؤية مُختلفة وغير أصولية للأشياء، وهي نُخبٌ –أحسبني أنتمي إليها- مُنفتحة على مُنجزات العقل الحديث ومُشكِلات العصر وقضايا التحديث ولا تعوّل على ارتباط العربية بالمقدَّس الدينيّ من أجل إنقاذها. بينما لا يزال الكثير من الكُتاب الفرانكوفونيين عندنا يُعيدون علينا بصورةٍ مُملة جدا تلك الغنائية المُبتذلة -المُتحدرة من محمّد ديب أو كاتب ياسين وصولا إلى لحظة كمال داود- والتي تعتبرُ اللّغة العربية «لاتينية» أخرى نُطيل أمدَ حضورها بيننا.
ما أردتُ أن أشيرَ إليه هو أنّ نبرتي التخوين من جهةٍ أولى والاستعلاء من جهةٍ أخرى لا تزالان تحكمان العلاقة بين المُعسكرين اللذين يبدو أنّ بينهما -كما يُعبر البروفيسور محمّد أركون– «جدار برلين» إيديولوجيًا لم يجد من يُهدمه كي يتمَّ تجاوز هذه الثنائية اللغوية التي تُمزق الوعي الجزائري وتشطره بصورةٍ دائمة إلى شطرين. ويبدو لي أنّ أسباب الصراع اللغوي -التي أصبحت في حُكم الماضي عمليًا- لم تقنع الكثيرَ من الفرانكوفونيين الجزائريين بضرورة تغيير الخِطاب العدائي التقليدي للغة العربيّة والّذي لا يرى فيها إلاّ لغة ميتة لا يُمكنها أن تتنفس خارج مناخ المُقدَّس الديني أو السلطة السياسية الرجعية الباحثة عن شرعية لها في العودة إلى الماضي التدشيني بعد أن خسرت رهان المُستقبل بفشلها على جميع المستويات. كأنّ العربيّة منذورة -منذ البداية- لعناق الأبدية ومشلولة أمام مدّ اليد إلى تفاحة السقوط في منافي المغامرات التاريخية. ولكنّني أعتقد أنّ راهن العربيّة منذ أكثر من قرن من الزمان -عبر امتداد العالم العربيّ- يُبيّن بجلاء قدرتها الإبداعية العالية واحتضانها المُدهش لإيقاع التحوّل إبداعيًا وفكريًا. إذ إنَّ تراجعها وانكماشها أمام صيرورات التاريخ والمعرفة وتحنطها في حضن المُطلق والماضي يرجع إلى انسحاب العقل العربيّ–الإسلامي لأسباب عديدة من مغامراته المُدهشة في اكتناه العالم والوجود قبل قرون خلت ولا يعودُ إليها باعتبارها لغة. أعتقد أنّ هذا من تحصيل الحاصل. ولكن الموقف الإيديولوجي لخصوم العربيّة لا يرى ملامحَ الحداثة في عقل فولتير وإنّما في لغته. كأنّ التقدم الحضاري يرتبط باللّغة لا بالعقل المُبدع.
هذا من جهةٍ أولى. ومن جهةٍ ثانية أرى أنّنا أصبحنا، مؤخرًا، نتأرجحُ بين الخيارات التي نعتقدُ أنّها قد تُوفر لنا مفتاحًا يمكننا من ولوج مغارة «التقدم» السحرية. وها هي الحرب تندلع بين الفرانكوفونيين والأصوليين الذين يرمون إيديولوجيًا إلى شيئين: «تطهير» تاريخنا وواقعنا من رواسب الكولونيالية، وتجاوز شللنا العلمي والتكنولوجي من خلال اعتماد اللّغة الإنجليزية في الجامعات بديلا عن الفرنسية. وهل يمثل القرارُ الإيديولوجيّ المُتسرّعُ، اليوم، بضرورة اعتماد لغة شكسبير في الجامعة الجزائرية إلاّ استمرارًا لهذا التشنج الّذي أشرنا إليه وهروبًا إلى الأمام أمام واقعنا اللغوي المُتعدد بفعل الواقع وملابسات التاريخ؟ هل يمكن، فعلا، ولوجُ الحداثة التقنية والعلمية والتكنولوجية من الباب اللغويّ قبل إصلاح أعطاب المنظومة التربوية المُتهالكة والماضوية والفاشلة وقبل ترسيخ قيم العقلانية وحرية التفكير والانفتاح على العالم والتأسيس لشروط البحث العلمي الصحيح؟ هل ضمن اعتمادُ اللّغة الإنجليزية التقدمَ المأمول لمعظم بلدان إفريقيا والعالم العربي التي كانت خاضعة للحماية البريطانية؟ المشكلة، على ما أرى، تتجاوز ما يصبو إليه من يريدُ الاستثمارَ السياسيّ المُباشر في محاربة «لغة المُستعمِر» التقليديّ. وها هو شكسبير يحل محل فولتير بسهولةٍ لدى من يجهل أنَّ التقدم عقلٌ جديدٌ وشروطٌ تتجاوز البحث عن «لغة العِلم والتقدم».
إنّني أجدني، هنا أيضا، مُلزمًا بالإشارة إلى أنّ قضية اللّغة في العُمق ليست قضية بحثٍ عن وسيلة أو آلة لــ»التقدم» وإنّما هي قضية هُوية وإفصاح عن الحضور المُتميز في العالم. اللّغة ليست أداة تواصل فحسب وإنّما هي ذاكرة وانتماء ثقافي وحضاري أيضا. إنّها بيتٌ يضجُ بأصداء الذات الجماعية ورموزها وحكاية إفاقتها على حادثة الوجود في بيت التاريخ. لذا أرى من السُخف أن نتناول إشكاليات اللّغة في الجزائر من منظور التقدم والتخلف كما يتناولها المُعسكران المتناحران عندنا.

عبد الحميد بورايو/ ناقد ومترجم وباحث في التراث
التوجهات الإيديولوجية تزيد من عوامل الصراع اللغوي في الجزائر
لقد ظهرت الازدواجيّة اللغويّة (عربيّة/ فرنسيّة) في الجزائر في منتصف القرن التاسع عشر بعد قيام المؤسسة التعليمية المدعوّة فرانكو- ميزيلمان franco-musuman، والتي تم تطبيق برنامجها عبر ثلاث ثانويات في البداية: المدرسة الثعالبية بالجزائر العاصمة ومدرستي كلّ من قسنطينة وتلمسان، وقد توسعت فيما بعد (إثر الحرب العالميّة الثانية) لتظهر مدارس أخرى مثل الثانوية المُسماة اليوم “عمارة الرشيد” ببن عكنون وغيرها.. كان الهدف من إنشاء هذه المدارس يتمثل في تكوين أُطر يتولون الوظائف التي لها علاقة مباشرة بالشؤون الأهلية للمسلمين في الجزائر، وبالخصوص ما تعلق منها بالإدارة والقضاء، هكذا اِندرج التأسيس لهذه الازدواجية في الخطة التعليميّة الفرنسيّة، واستفاد منها قِلة من المحظوظين الجزائريين في الفترة الاستعمارية، تولوا مناصب في الإدارة الأهلية وفي محيط القضاء والتعليم، وشكلوا فِئة لها مكانة تعليميّة مُميزة. وقد لعب هؤلاء دورا هامًا في فترة ما بعد الاستقلال مُباشرة لما تكفلوا بمهمة تعليم اللّغة العربية وآدابها في الثانويات والجامعات إلى جانب خريجي جامعات المشرق العربي من الجزائريين، وقد كان مستواهم رفيعًا في اللغتين العربيّة والفرنسيّة معًا.
بعد الاستقلال وظهور المؤسسة التعليميّة الوطنيّة، تم الاعتماد في التكوين على توجهين؛ التعليم الّذي سُميَّ “مُزدوجًا”، والتعليم المُعرّب. وكان للصراع الإيديولوجي دورا في اتساع الهوة ما بين البرنامجين، إذ غلبت على البرنامج الأوّل الفرنسيّة، بينما غلب على البرنامج الثاني اللّغة العربيّة، فظهر حينذاك التكوين باللّغة الفرنسيّة كلغة أساسيّة بالنسبة لقسم من المؤسسة التعليميّة والتكوين باللّغة العربيّة بالنسبة للقسم الآخر. كان القسم الأوّل متفوّقا عددا في السنوات الأولى من الاستقلال (في الستينيات والنصف الأوّل من السبعينيات)، بينما تزايد عدد القسم الثاني تدريجيًا خلال السبعينيات والثمانينيات وما بعد. وظهر حينئذ نمط “المفرنس” الضعيف في اللّغة العربيّة، والمُعرب، الضعيف في اللّغة الفرنسيّة، بسبب ضُعف التكوين في اللّغة العربيّة، لأسباب تتعلق بمنهجية التعليم التي لم تتطوّر كثيرا، وطبيعة المدونات المُستعملة في تدريس اللّغة (النص الديني والأدبي العربي القديم بالنسبة لتعليم اللّغة العربيّة)، وازدياد عدد المتمدرسين الّذي أثر سلبًا على نوعية التكوين في اللّغة العربيّة بالنسبة للمفرنسين، وضُعف التكوين باللّغة الفرنسيّة بالنسبة للمعرّبين، من ناحية، وبفعل الصراع السياسي على شغل مناصب الدولة، والدعوة للتعريب الشامل مقابل الدعوة لضرورة الحفاظ على اللّغة الفرنسيّة خاصة في الميادين العلمية والطب والتسيير الإداري.
حينئذ اِفتقد الوسط الثقافي والتعليمي تجانسه كما افتقد الازدواجية الحقّة التي عرفتها الجزائر مع نمط الفرانكو-ميزيلمان franco-musuman، وسارت في اتجاه بروز نمطي المُفرنس الّذي لا يتقن اللّغة العربيّة والمُعرّب الّذي لا يتقن اللّغة الفرنسيّة. واحتدّ الصراع الّذي تحكمت فيه المواقف الإيديولوجيّة بين مُعرّب ذي تكوين مُحافظ -في الغالب- يُغلّب الرؤية الدينيّة للكون، والمُفرنس المُنفتح على الثقافة الفرنسيّة، والّذي يفصل بين الدين والحياة في رؤيته للوجود البشريّ. وأصبح الأوّل يتغنّى بكونه يُمثل الهوية والأصالة، ورأى في الثاني التغرّب والابتعاد عن الأصالة، بل أحيانًا اتهمه بالتبعيّة لفرنسا الاستعماريّة. بينما كان الثاني يعتبر نفسه مُنفتحًا على الحداثة والأكثر رقيًا وثقافة ومُواكبة للتطور.
جاءت التوجهات الإيديولوجية التي طغت على المُجتمع منذ بداية الثمانينيات والمتمثلة في الاتجاهين الإسلامويّ والبربريّ لتدعّم هذه الفروق وتزيد من عوامل الصراع الثقافي بين الجزائريين. حيث أخذت العربيّة مركز الصدارة في الخِطاب الإسلامويّ، بينما اعتمد دُعاة الاعتراف باللّغة الأمازيغيّة على اللّغة الفرنسيّة في نشاطاتهم المُختلفة بِمَا فيها التعليمية. كلّ ذلك أدّى إلى ما نعرفه اليوم من تجاذبات في الموقف من اللّغة. ويُلَاحَظُ في الآونة الأخيرة مع الثورة المدعوة “حِرَاكًا” غلبة لاستخدام اللّغة العربيّة مع حضور واضح للغة الأمازيغيّة والفرنسيّة في الشِعارات إلى جانب اللّغة العربيّة الدارجة في الشِعارات وفي الأغاني. مِمَا يُشير إلى أنّ المجتمع الجزائري بدأ يتصالح مع نفسه فيستبعد مواقف المُواجهة بين الاستعمالات اللغوية الموجودة في حياته، ويعترف بالتعايش بينها. وهو ما يحتاج في المستقبل إلى خُطة إستراتيجية تتبعها دولة المستقبل للتخفيف من حِدّة الصراع والاستفادة من هذه التعددية اللغوية ومُراعاة البُعد النفعي في مُختلف المجالات، والاعتراف بالقيمة المُضافة للإنتاج الْمُنْجَز بجميع اللُغات المُستعملة في الجزائر، والمُوازنة بين المطلب الهويّاتي وضرورة الانفتاح على الآخر ومُواكبة ركب التطور الثقافي والمعرفي العالمي.

محمّد شوقي الزين/ كاتب وباحث أكاديمي ومفكر
لا يمكن للمسألة اللغوية أن تتلقفها القرارات الشعبوية والديماغوجية
لا يمكن للمسألة اللغوية أن تتلقفها القرارات الشعبوية والديماغوجية الطائشة، مثلما تلقفت العديد من الملفات وأودت بها إلى الكارثة. هناك شيء اسمه «الفعل» (action) و»رد الفعل» (reaction).  لا يمكن لرد الفعل أن يبني شيئاً متيناً وصادقاً. إنّما هو نار تستهلك نفسها بعدما استهلكت موضوعها. الغريب في الأمر أنّ جُل القرارات التي نتخذها هي ردود أفعال وليست أفعالاً مُؤسسة لمعقولية جادة. بدلاً من التوجه الأيديولوجي «لغة مكان لغة أخرى»، أؤمن بالمعية: «لغة إلى جانب لغة أخرى». كان الفيلسوف الألماني غادامر من الداعين إلى تعلم أكبر عدد مُمكن من اللغات، وأنّ هذه اللغات التي هي عوالم خاصة ورؤى في العالم، تُحقق ما سماه «امتزاج الآفاق « (Horizontverschmelzung)، لا تتقاطع فحسب، بل تتداخل وتتعايش؛ ربمّا لحنين أصلي هو الذاكرة البابلية العريقة.
لا توجد علاقة «سببية» (علة ومعلول) بين تبني لغة من اللغات والتقدم الحضاري. إنّما هذا أسطورة شائعة (légende urbaine). التقدم هو مسألة إرادة: نريد أن نتقدم أو لا نريد، بمعزل عن الوسائل التي يمكن تسخيرها. المسألة نسبية جداً: كويبيك (Québec)  الفرنكوفونية أحسن حالاً من إثيوبيا الأنجلوسكسونية، التي تواجه معضلات خاصة، آخرها الانقلاب العسكري. فلا يمكن النظر إلى اللّغة كما لو كانت هي سبب التقدم. بل يؤسفنا أن نقول بأنّ الحالة المتفشية في ديارنا هي حالة الكسل والعزوف عن العمل. فلا يمكن التحجج بلغة عالمية إذا كان صاحب القول كسولاً لا يعمل. تبني اليابانية لا يجعلنا متطورين كاليابان؛ ولا تبني الألمانية يجعلنا أكثر عبقرية مثل الألمان.
ثم إنّ اللّغة التكنولوجية ولغة المال والأعمال التي تستوعبها الإنجليزية، هي فقط إقليم من قارة أوسع تشمل كذلك الآداب والفنون والفلسفة والإنسانيات. هذا ما تذهب إليه الفيلسوفة رزيقة عدناني في قراءتها لوهم اختزال وطن من الأوطان في نطاق هو التقدم التقني دون التقدم الإنساني في مختلف أشكاله وتجلياته.
تشايعها في ذلك الفيلسوفة باربارا كاسان (Barbara Cassan) التي تندّد بما يُسمى  Globish، اختصار لعبارة (Global English)، اكتساح عارم للإنجليزية في صيغتها المبدئية والبسيطة، وأحياناً التافهة، بينما الوجود الإنساني في العالم هو وجود شامل ومتعدّد الأوجه والتعابير والألسنة.
ينطبق إقصاء اللغات الأخرى بحجة أنّها ليست لغة العلم والتكنولوجيا أيضاً على اللّغة العربية التي ليست هي كذلك لغة العِلم والتكنولوجيا بالمقارنة مع الإنجليزية. لا يمكن بناء شيء بالأوهام والأساطير، مع أنّ الأوهام والأساطير هي التي تُحرك الخطابات الشعبوية، الأيديولوجية منها والرسمية.
الجزائر التي سعت قبل سنتين إلى الإقرار باليوم العالمي للعيش معاً في سلام، الّذي صادقت عليه أكثر من 180 دولة في الأمم المتحدة في 2018، ويصادف يوم 16 مايو/أيار من كلّ سنة، لا يمكنها أن تكون بلد الإقصاء. لا بدّ أن تكون بلد العيش معاً في سلام، على المستويات اللغوية والإثنية والدينية. عليها أن تضرب المثل بما سعت إلى تعميمه على المستوى الدولي.

قلولي بن ساعد/ كاتب وناقد
المسألة اللغوية محل تراشق إيديولوجي غير صحي بين بعض الزُمر
لم تنل المسألة اللغوية في الجزائر، حقها من النقاش العلمي والتناول الأكاديمي من منظور عِلم الاجتماع الثقافي، وظلت ولا تزال المسألة اللغوية محل تراشق إيديولوجي غير صحي بين بعض الزُمر السياسيّة والثقافيّة، مرتبطة بأجندة ظرفية لا تصمد طويلا أمام أبسط الحقائق الحية وباستثناء ما قدمه السوسيولوجي الجزائري عمار بلحسن، من تحليل للمسألة اللغوية، لا أعرف ولم أقرأ أبدا دراسة أو بحثًا أكاديميًا عالج ظاهرة الازدواجية اللغوية أو ذلك التنافر بين معسكرين: معسكر المثقف المعرب ومعسكر المثقف المفرنس، وحُجج هذا وذاك على بساط البحث والتناول الهادئ بعيدا عن تأثيرات الميديا وردود الأفعال الظرفية والنفسية المشحونة بأسئلة التمزق أو القطيعة المُفتعلة لأسباب غير وجيهة. لقد استطاع عمار بلحسن تعرية الخطابين، الخطاب الإيديولوجي  الثقافي الفرنكفوني والخطاب الأصلاني والكشف عن النسق الأصولي المتبادل بينهما، ويعني بذلك أولا أصولية النُخب الفرانكفونية التي ليس من مصلحتها أبدا نشوء وتبلور نخبة مُعربة تنويرية تتجاوز في منطلقات أُسس التفكير لديها عديد المفاهيم والمقولات الإطلاقية والوثوقية في الثقافتين العربيّة والفرنسيّة وتُكرس لقطيعة معرفية مع ثوابت الاستقطاب الإيديولوجي اللغوي واللساني والتي هي ملمحٌ ومؤشر استبدادي هيمني وتكشف عن أبعاد تسلطها في سيرورة التشكل المجتمعي وهي النخبة التي يعتبرها بلحسن «كمنتوج للأنتلجانسيا المهنية والفكرية المفرنسة التي أعطتها الأداة اللغوية والخبرة المهنية سُلطا مُتعدّدة في مراكز الحل والعقد والإدارة العُليا والاقتصاد والتسيير ومناصب إتحاد القرار». ووصف الباحث لهذه النُخبة بالأصولية الجديدة نابعٌ من كونها تبدو مثلما يعلن عن ذلك صراحة «غريبة عن المجتمع الأهلي ومتغربة عن نمط حياة وتفكير ومخيلة الغالبية الساحقة من المواطنين التي تتبنى طروحات مُصاغة في خطابات تابعة للخطاب السياسي الإيديولوجي الغربي، مفصولة عن المخزون الثقافي الشعبي ولغات المجتمع عاجزة عن فهم حركة استعادة الهوية واللّغة الوطنية وترسيخ أدوات هذه الحركة «ثمّ أصولية النُخب المُعربة المُتمسكة بأدلجة النقاش اللغوي في بُعده الهوياتي مع الخِطاب الإيديولوجي الإسلاموي في عملية هي أشبه «بالنقد المزدوج» بتعبير عبد الكبير الخطيبي كثمرة لقاء بين لغتين وثقافتين هما الثقافة الوطنية العربيّة واللّغة الفرنسيّة بمحمولها الجمالي والثقافي والسياسي والإيديولوجي، لا يمكن أن تتجلى عند عمار بلحسن إلاّ في معرفة ونقد الأنا والآخر من أجل التأسيس لبعدين أساسيين كان يرى عمار بلحسن أنّهما ضروريان. البُعد الأوّل يقول أنّه «بعدٌ وطني بمفهومه الثقافي مُناقض لكلّ شوفينية إثنية وعرقية، أي كتجسيد لانغماس المثقف وتغلغله في أعماق وأغوار الواقع الثقافي الوطني وتصميمه على المشاركة في الكونية العالمية المعاصرة، وبُعدٌ ثانٍ كفيلٌ بنقل خصوصيته إلى الآخر وإيجاد القواسم المشتركة بينه وبين العالم فِكرا وإبداعًا ولغة «وأعتقد أنّ غياب التعددية اللغوية في جزائر المثقفين ناتج أساسًا عن غياب الفعل الديمقراطي ذاته كسلوك حضاري، الّذي يبقى منوطا بممارسة هذه الديمقراطية داخل محيطنا الاجتماعي القريب ولا أعفي نفسي أيضا من المسؤولية، فكلنا مسؤولون أمام هذا الشرخ الّذي يزداد عُمقا من يومٍ لآخر ولا ندري حقا كيف يمكن الخروج منه. ومن هذه «الأسيجة الدوغمائية المغلقة» بتعبير محمّد أركون لإخراج الأفكار والقناعات الإيديولوجية الراهنة من قوقعتها المفاهيمية والنظرية ومنحها ذلك البعد الوظيفي للنزول بها إلى فضاء الممارسة اليومية الاجتماعية الحية، فلا معنى أبدا على ما يرى غرامشي «للأفكار خارج محمولها ونبضها الواقعي المثال الوحيد الّذي لا أعتقد أنّه يتكرر في محيطنا العربيّ  البائس. نجده في تجارب بعض النُقاد في المغرب الأقصى على غِرار عبد الله العروي وعبد الفتاح كليطو على وجه الخصوص، فالعروي كتب أعماله الفكرية كلها بما في ذلك كتابه المرجعي «الإيديولوجيا العربية المعاصرة» باللّغة الفرنسيّة، بينما لم يجد مانعًا في أن يكتب أعماله الروائية باللّغة العربيّة وهناك تجربة أكثر انسجامًا مع الذات على الصعيد النفسي، هي تجربة الناقد المغربي عبد الفتاح كليطو الّذي أخذ على عاتقه مهمة دراسة التراث السردي العربي القديم بعيون معاصرة وقد قدم كليطو كلّ الدراسات التي كرسها لدراسة الموروث السردي العربي باللّغة الفرنسية في الوقت الّذي فضل فيه كتابة الرواية باللّغة العربيّة. وهو موقف بالطبع ينسجم تمامًا مع ما أصبح يُسمى بالعدالة اللغوية التي لا تتنافى بالطبع مع نداء الأصلانية  أو «الولع بالأصل» الولع الّذي يجد مضمونه في ذلك اليتم الخاص الّذي تحدث عنه عبد الكبير الخطيبي عندما اعترف أنّه عندما يكتب بلغة الآخر فإنّه يشبه ذلك الطفل اليتيم الّذي يبحث عن شكل من أشكال التبني. ومنها ما ذكره أيضا الروائي التونسي اليهودي الأصل ألبير ميمي في مقاله الشهير (الوطن الأدبي للمستعمر) فأرجع سبب ذلك إلى صعوبة التغلب على «عقبة سيكولوجية موجودة بأعماق المستعمر في التحقير الّذي يُعامل به المُتمسكون في الكتابة بلغتهم الأصلية»، وهذا لا يعني بالضرورة الانقياد السريع «لقابلية الشطب والمحو» كما قال بختي بن عودة «شطب الّذي لا يُحاكي النسق ولا يمشي حيث يمشي»، بما يستدعي تجاهل الخصوصية الثقافيّة المغاربيّة في فضاء هو الفضاء الثقافي المغاربي المشحون بالإرث الكولونيالي الّذي يجد ضالته في تلك الصيحة الشهيرة التي كان قد أطلقها كاتب ياسين عندما كتب مسرحيته «الجثة المطوقة» القاضية باعتبار اللّغة الفرنسيّة «غنيمة حرب».
ومن هنا يتبدى لنا أنّ التعددية اللغوية أو ما يسميه عبد الكبير الخطيبي «العشق المزدوج للسان» هو مجرّد خطاب ظرفي لا يصمد أمام أبسط لاءات «الهويات الفائضة» والإقصاء المتبادل بين طرفي النزاع اللغوي واللساني بسبب «القصور العقلي» بتعبير إيمانويل كانت الّذي لازال  يميزنا عن باقي المجتمعات ذات التقاليد الديمقراطية التي قطعت أشواطا مُهمة على هذا الدرب العسير، فالتقسيم الميكانيكي اللغوي واللساني للنُخب المُثقفة في أبعاده القصيرة المدى وما يترتب عليه من تمزق وانشطار ينتج في النهاية انقسامًا وتوترا وتحولا باتجاه نص آخر هو «النص الغريب عن اللسان» بتعبير الناقدة الفرنسية البلغارية جوليا كريستيفا، ويقع على عاتقه غياب التعددية اللغوية في بعدها المنتج من لدن المثقف الحر الخارج عن املاءات طرفي النزاع اللغوي باتجاه التأسيس لبُعدٍ آخر هو البُعد القائم في ما سماه الخطيبي «بالنقد المزدوج» نقد الآنا والآخر وفاقد الشيء بالطبع لا يعوّل عليه.

ميلود حكيم/ كاتب ومترجم
التعدّد حقيقة تمّ إهمالها حتى من المثقف الذي خضع لتوجيهات أيديولوجية
لم تفلت المسألة اللغوية في الجزائر من أسر التوظيف السياسوي والتوجيه الأيديولوجي والديني، واندرجت دائمًا في الصراعات المفتوحة حول الهوية المُلتبسة كما صاغتها الدولة الوطنية بعد الاستقلال، التي غلب عليها التوجه الأحادي في صياغة مشروع مجتمعي هو بناء ترقيعي من مرجعيات مُتناقضة ومختلفة لا يمكن الجمع بينها، مِمَا أدخلنا في أزمات متواصلة. لعلّ إهمال التنوع والتعدّد الثقافي والإثني واللغوي للجزائريين كان مصدر كلّ الأخطاء الأخرى.
لقد كانت الجزائر عبر تاريخها دائمًا مكانًا للتنوع والاختلاف بحكم المعطيات الجغرافية والتاريخية، وشساعة مساحتها التي مرت عليها أعراق وثقافات كثيرة. من هنا فهي محصلة لروافد متعدّدة وغنية، منها المتوسطية والإفريقية والعربيّة الإسلامية، والأمازيغية. هذه المرجعيات نجد أنّها مازالت حية في النسيج المجتمعي ، لكنّها غائبة عن الخطابات الفكرية والأدبية والسياسية بسبب الكبت المُمارس، والعُقد التي غرقت فيها النخبة، والقمع المُبرمج من سلطة تعاملت دائمًا بحساسية وبتناقض مع مكونات المجتمع، وحاولت فرض قرارات فوقية حول مسائل مصيرية، دون وعي بأخطار وعواقب هذه الخيارات، مثل قرار التعريب في الستينات الّذي لم تُهيأ له الظروف والشروط المُناسبة، بل كان رد فعل مُتسرع على استفزازات فرنسا، واندرج في إطار سياسات استرداد الهوية والقطيعة مع الاستعمار، في حين بقيت الفرنسيّة لغة الإدارة والنُخب والتسيير، والعربيّة لغة الجامع والمدرسة في مراحلها الأولى، كما تم استبعاد اللغات المحلية واللهجات بكلّ ما تمثله من إرث لساني وثقافي وأدبي، كما تم الحط من العلوم الإنسانية والآداب بحجة أنّنا لا نتطور بها ولكن بالعلوم والتكنولوجيا، وللأسف ما زال هذا الخِطاب مُهيمنا على النخبة الحاكمة إلى يومنا هذا.
إنّ التكوين اللساني الفعلي في الجزائر: أمازيغي عربي، فرنسي وإسباني من جهة، ومن جهة أخرى نجد أنّ اللسان العربي مزدوج اللّغة، فيه اللّغة العربية الفصيحة، التي تمثل الذاكرة المكتوبة، والآخر يمثل كلّ الإرث الشفهي الموزع في لغة الكلام الحي المستعملة في شؤون الحياة اليوميّة باللّغة الدارجة وفي ما نسميه الثقافة الشعبية. وينتج عن هذا التعدّد اللغوي تنوع أدبي وثقافي، إذ نجد آدابًا مكتوبة باللّغة العربية الفصحى، وآدابًا باللغات الشفهية الأمازيغية والدارجة العربيّة، ترتحل بين الشِّعر الشعبي والمسرح والغناء والحكايات والخرافات والممارسات السحرية والصوفية والطقوس وغيرها.
هذا التعدّد اللغوي هو حقيقة واقعية تمّ إهمالها للأسف حتى من المثقف الّذي خضع هو الآخر لتوجيه أيديولوجي وسياسي أبقاه في الثنائية اللغوية عربيّة/فرنسيّة وما نتج عنها من صراعات، مع إهمال رهيب للثقافة الشعبية، وللإبداع الّذي أنتجته اللغات المحلية خاصة ما نجده في المسرح الّذي يمثل اللّغة الحية للثقافة الوطنية بامتياز أو الشِّعر الشعبي والأغاني والأهازيج، إلاّ عند القلة من المثقفين والكُتًّاب. هذا الانفصام اللغوي جعلنا نبقى أسرى الأُطر الدوغمائية التي وضعتها السلطة، أو النزعات التي تتوغل في تطرفها دون وعي بأنّ التعدّد اللغوي هو غنى وثراء، خاصة مع الأجيال الجديدة التي أصبحت تنحاز للانجليزية باعتبارها لغة تواصل مع العالم.
إنّ المسألة اللغوية في الجزائر يجب أن تُطرح بعيدا عن الإنحيازات الأيديولوجية والدينية، من منطلق الوعي أنّ اكتسابنا للغاتٍ أخرى ليس تهديدا لا للعربيّة ولا للفرنسيّة التي تبقى حاضرة في نسيجنا الثقافي. إنّ العالم يتوجه الآن إلى لغات هجينة أو جديدة ومتعدّدة، في مُدن كوسموبوليتية نجد لغات وأعراق وثقافات مُختلفة تتعايش دون تصادم لأنّها استوعبت أنّ الحضارة هي تنوعٌ واختلاف.
إنّ حل المشكلة اللغوية في الجزائر يحدث عندما ننتقل إلى دولة ديمقراطية تعترف بالمواطنة الحقيقية التي لا تُبنى على التعصب الديني أو اللغوي أو السياسي. حينها تنتهي أوهام الهوية العمياء، وأمراضها. أمّا صراع الكُتّاب والمثقفين عندنا منذ الستينات بين المُعرب والمُفرنس، فهو صراعٌ وهمي من اختلاق السلطة ويندرج في المسار الّذي وضعته الدولة الوطنية بعد الاستقلال لتوظيف مثقفين لضرب مثقفين آخرين كي تكسر شوكتهم وتستبعدهم من أي مساهمة في بناء مستقبل البلاد، وهكذا أنتجت لنا مفهوم المثقف الموظف الّذي يخدم السلطة دون مناقشتها أو الاعتراض عليها، وتجلى هذا الصراع خاصة عند الأجيال القديمة التي لم تتخلص من عُقدها ومكبوتاتها الدينية والأيديولوجية، أي تلك التي لن تتصف بالوعي النقدي الراديكالي في التعامل مع السلطة بخلاف المثقفين المنشقين الذين كان وعيهم بالمسألة اللغوية أكثر انفتاحًا وتحررا كما يتجلى عند محمّد أركون أو جمال الدين بن شيخ وبعض الكُتّاب الذين أتقنوا وكتبوا بلغات كثيرة دون عُقدة أو حساسية.              ن/ل

الرجوع إلى الأعلى