أكبر و أخطر رقيب على الإبداع هو القارئ العربي
يتحدّث الروائي والأكاديمي الدكتور أمين الزاوي للنصر في هذا الحوار، عن الرقابة الذاتية، وعن ما إذا كانت تتعارض مع حرية الكتابة والإبداع أو لا؟، كما يتحدّث في ذات السياق عن الذات الكاتبة لحظة الكتابة. الزاوي الّذي خاض في سؤال الرقابة بكثير من الإجابات والقناعات التي لا يحيد عنها، خاض أيضا في سؤال السيرة، وفي إشكالية عزوف الكاتب العربي/الجزائري عن كتابة سيرته الذاتية؟ إذ نادرا ما يكتب «هذا الكاتب» سيرته بصدق الشرط الضروري لكتابة سيرة ذاتية حقيقية، وبأمانة واضحة وخالصة للحياة والفن والأدب.
حاورته/ نوّارة لحـرش
أيضا تحدّث الزاوي عن غياب المحرّر الأدبي في العالم العربي، وعن الكاتب الجزائري/العربي الّذي يرفض تدخل المحرّر الأدبي في نصّه، وعن دور النشر التي من جهة أخرى لا تعير أهمية لوجوده.
هل تتعارض الرقابة الذاتية مع حرية الكِتابة، في وقت لم تعد فيه للرقابة التقليدية على الإبداع سلطة فاعلة كما كان الحال في سنوات ماضية؟ لكن بشكلٍ ما لَم يتمكن أغلب الكُتّاب من التملّص أو التخلّص من الرقابة الذاتية.  
أمين الزاوي: في رأيي، إنّ أكبر خطر وأكبر رقيب على الإبداع الحر في الثقافة العربية المعاصرة هو القارئ العربي الّذي أنتجته قرونٌ من تراكمات الثقافة المتعصبة الدّينية، القارئ العربي، وفي حالة الجزائر القارئ المُعرب، يُخيفني كثيرا وأفكر في عنفه وتشنجه الخارج/تاريخي أكثر مّا أُفكر في رقابة مؤسسات الدولة.
إنّنا حين نُنتج أدبًا خارج المقاييس المُتعارف عليها، مع أنّني لا أومن بأنّ هناك مقاييس مُتعارف عليها في الأدب من حيث شكل التناول والموضوعات المطروحة، حين نُنتج نصًا خارج نصوص القطيع نشعر بنوعٍ من الخوف من قارئ معرب قد يسقط بين يديه النص الروائي، وأقول يسقط بين يديه، لأنّ ليس للقارئ بالعربية تقاليد قراءة الرواية، لذا فقراءته إمّا مُغرضة أيّ بنية التصيد، أو قراءة بالصدفة ومرّات تكون القراءة بحكم الواجب البارد (عمل جامعي)، وفي كلّ هذه الحالات فهي قراءة غير متحرّرة من  الذاكرة الدّينية السّياسيّة المتعصبة، لذا فالخوف الفاناتيكي يجيء من مثل هذه الحالات السائدة في الثقافة العربية وفي أوساط القارئ المعرب.
إنّ الّذي يقرأ الرواية من منطلق الفقيه أو رجل الدّين أو الإمام أخطر بكثير من ذاك الّذي يقرأها بعين رجل المخفر والشرطي، لأنّ الأوّل ينتمي إلى الغوغاء وهي قادرة على إنتاج الفتنة في المجتمع والثاني ينتمي إلى مؤسسة قمعية دون شكّ ولكن لها تقاليد المجتمع المدني.
أمام خوفي من القارئ العربي والمعرب، لا أريد أن أعمم لكن الاِستثناء يُؤكد القاعدة، حين أكتب أحلم بيومٍ يتمُّ فيه الفصل مّا بين الإبداعي من جهة والدّيني من جهة ثانية في رأس وتقاليد القراءة عند القارئ العربي والمعرب، وقتها تتحقّق حرية المُبدع ويتخلص من الخوف السّاحق: الخوف من القارئ الببغائي الفناتيكي.
وأعتقد أنّ الكِتابات التي يُعاديها القارئ المُعرب ويُمارس ضدّها الترهيب هي تلك النصوص الإبداعية التي تعمل على خلخلة الجاهز القائم في نمط الثقافة والفكر وفي نمط الحياة، فالقارئ الببغائي كلّما شَعر بأنّ إبداعًا يهز الأرض من تحت قدميه يُمارس الهجوم من موقع غير موقع الأدب، يُمارس الهجوم من موقع الفاناتيك الدّيني والمُعاداة  للمُختلِّف وللآخر. من هنا يصبغ على كلّ إبداع يذهب مذهب الحداثة المُناهضة للتقليدية الماضوية وللتكلّس بأنّه إبداعٌ غريبٌ وشاذ وأنّ غرابته وشذوذه من نِتاج التأثر بالآخر وهي تُهَمٌّ مُؤسسة على فوبيا الآخر وهي دعوة تريدُ عزل الثقافة العربية عن الثروات الإنسانية وقطعها عن كلّ سياقاتها التاريخيّة.
رقابة الكاتب لأدبه وفكره وكتاباته وموضوعاته، هي رقابة داخلية تنبعث من الكاتب نفسه. هل ترى أنّها رقابة ضرورية؟ وهل يمكن للذات الكاتبة أن تخيف الكاتب لحظة الكتابة؟
أمين الزاوي: شخصيًا لا تُخيفني ذاتي حين الكتابة، لأنّني وأنا أطرحُ وأسائِل في رواياتي جميعها (منذ أوّل رواية لي وهي «صهيل الجسد» مرورا بــ: «آخر يهود تمنطيط»، و»الخنوع، حارة النساء، شارع إبليس، لها سرّ النحلة، حادي التيوس، غرفة العذراء المدنسة، وليمة الأكاذيب، يصحو الحرير ، الرعشة، السّماء الثامنة... وغيرها) الموضوعات الممنوعة كالجنس والدّين والسُّلطة والمرأة،،، وهي الموضوعات التي لا تغفل عنها عين الرقيب الدّيني والسياسي المؤسساتي، حين أقارب روائيًا هذه الموضوعات، أقاربها من باب المعرفة، فبقدر ما أكتب روايات للمتعة إلاّ أنّها روايات عالمة في التراث وبه، فتكسير الطابوهات ليس لعبة مراهقة أدبية إنّها عمل إبستيمي معرفي مُؤسس على القراءة والسؤال والمعرفة، أنا ضدّ تكسير الطابوهات المجانية التي يكون فيها النص ينزلق على مسألة الغواية أو الاِستفزاز المجاني، تكسير الطابوهات عملية تاريخية مارسها الفلاسفة العقلانيون والأدباء الذين اِنتموا إلى فلسفة العقل وإلى وهج الحياة سواء في الثقافة العربية- الإسلامية أو الثقافات الإنسانية بشكلٍ عام، فلا أحد يُمكنه أن يمحو أو ينسى أسماءً كانت ولا تزال رموزا لتكسير الممنوع من أمثال: أبو نواس وبشار بن برد واِبن الحجاج والجاحظ والمعري وغيرهم وقد ظل هؤلاء عيون الأدب العربي على الرغم من أنف حُراس المعبد.
أكتب بحرية لأنّني أعتقد أنّ الأدب توأم الحرية، ولا مساومة في الكتابة الإبداعية، أكتب دون التنازل عن قناعاتي ولكن صورة القارئ العربي والمعرب تخيفني وهي حاضرة بين الفينة والأخرى ولكنّي أحاربها. اِنطلاقا من ذلك فأنا لا أخدع قارئي حين أنتقل من الكتابة بالفرنسية إلى العربية أو العكس، فرواياتي باللغتين تتناول ذات الهموم وذات الأسئلة دون خديعة القارئ، وأعتقد أنّ هذه هي المقاومة في الأدب.
سؤال الرقابة يقودنا إلى سؤال السيرة. لماذا يعزف الكاتب العربي/الجزائري عن كتابة سيرته الذاتية؟ ونادرا ما يكتب سيرته بصدق «الشرط الضروري لكتابة سيرة ذاتية حقيقية»، وبأمانة واضحة وخالصة للحياة والفن والأدب؟
أمين الزاوي: متى تكون لنا شجاعة روسو أو هنري ميللر أو سيمون دو بوفوار أو أندري جيد وغيرهم كثير في الثقافة الأوروبية والأمريكية، حتّى يكتب أدباؤنا سيرهم الذاتية بكلّ صدق وشجاعة؟ وهل بالإمكان ذلك في ظل ما يحيط بالكتابة والكاتب في العالم العربي والمغاربي من قمع مباشر ورمزي، ديني وأخلاقي وعاداتي؟
الكاتب العربي أو المغاربي الّذي تربى داخل ثقافة مقموعة قائمة على الكبت والصمت والسّكوت والتلميح والخوف ليس باِستطاعته دلق لسانه لقول مسار حياته كما عاشها. نحن أبناء ثقافة دينية إسلامية مُناهضة للاِعتراف، لا نعرف بل نُعارض ثقافة الاِعتراف التي هي جزء أساسي في الثقافة المسيحية، نحن أبناء ثقافة «الدس» و»التقية» و»إخفاء الجريمة»، وحتّى مسيحيو العرب من الكُتاّب الذين عاشوا داخل المجتمعات العربية الشرقية التي يضغط فيها الدين الإسلامي لم يتجرؤوا على كتابة السيرة الذاتية بمفهومها الاِعترافي الكنسي.
في ثقافتنا المُهيمنة هناك عناصر تسكن اللاوعي وهي المستيقظة باِستمرار تُمارس الرقابة بكلّ أنواعها الأخلاقية والدّينية والسّياسيّة وهي التي تمنع الكتابة الحرة للسيرة الذاتية.
هل الكاتب في العالم العربي، يخجل من أن يروي ويسرد سيرته/حياته؟
أمين الزاوي: الكثير من القيم الثقافية التي نحملها في ضميرنا اللاواعي تُمارس عملية فرملة الحقيقي والصادق فينا وبالتالي تدفع الكتابة السيروية نحو مرض «الطهرانية الكاذبة» تدفع بها نحو عملية «تنظيف»، كما يحدث مع المجرم حين «يُنظِّف مكان الجريمة»، إنّه وفي عملية تنظيف «المكان/الكتابة من أثر الجريمة» يقوم الكاتب بتنظيف الكتابة من الحياة ويمنحها بالمقابل  الموت والنفاق الدّيني والسياسي.
السيرة الذاتية الصادقة تحتاج وتتطلب ثقافة اِحترام «الحرية الفردية» ونحن في المجتمعات العربية والمغاربية الإسلامية نعيش ثقافة «القطيع»، الصوت الواحد ملغى أو يُنظر إليه نظرة اِزدراء أو نكران.
حين كتب الروائي المغربي محمّد شكري روايته السيروية «الخبز الحافي» وهي جزء بسيط من حياة الكاتب وأعتقد أنّها نص ليس فيه ما قد يخدش الإطار العام للثقافة السائدة، قامت القيامة ضدّ الروائي وظلت الرواية ممنوعة ومحاربة في المجتمع الثقافي وفي الجامعات العربية إلى أن تمّ تحريرها بشجاعة من وزارة الثقافة المغربية حين نشرت الأعمال الكاملة للكاتب بعد وفاته، وعلى الرغم من أنّ «الخبز الحافي» سيرة ذاتية روائية اِختلط فيها الواقعي بالخيالي أو بالمُتخيل إلاّ أنّها لم تسلم من سيف الفقيه الّذي يسيطر على الأدب والثقافة.
حين كتب سهيل إدريس مذكراته ونشر الجزء الأوّل منها بعنوان «ذكريات الأدب والحب» وتحدّث فيها بنوع من الشجاعة في بعض فصولها خاصة تلك المتصلة بالأسرة وبالأخص ما اِرتبط بشخصية الأب الّذي كان لواطيا مِثْليا، هذا الحال أثار ثورة العائلة، وسنجد أسرة  سهيل إدريس تتدخل لمنع نشر الجزء الثاني والأجزاء الأخرى. إذا كان هذا حال ومآل السيرة الذاتية لسهيل إدريس وهو أحد الرموز المركزية في الثقافة العربية فما واقع كُتّاب السيرة الآخرين. هذا يُؤكد لنا بأنّ الآخر/الأسرة/الجار/المؤسسة تعيش الحياة نيابة عن الكاتب العربي والمغاربي.
هل يمكن القول أنّ من كتبوا سيرهم الذاتية، كتبوا في الحقيقة مذكرات وليست سير ذاتية
أمين الزاوي: الكتابة في جوهرها صنو الحرية والسيرة الذاتية هي أكثر النصوص اِرتباطا ومقياسًا لهذه الحرية، وهي حقل ألغام مفتوح في مجتمع لا يُؤمن بالحرية ولا يمنح للفرد مقاليد أيّامه وحرية سلوكه. إنّ المجتمعات الثقافية والأدبية التي تغيب فيها «السيرة الذاتية» هي مجتمعات تهيمن فيها ثقافة النفاق. إنّ غالبية من كتبوا سيرهم الذاتية (هي في غالبيّتها مذكرات وليست سير ذاتية) من الكُتّاب العرب والمغاربيين كتبوا نصوصًا تتميّز بالطهرانية، كتبوا سير ذاتية للملائكة أو للأنبياء.
الأديب العربي مصاب بمرض تضخم ذاته الثقافية ويشعر بالكمال الأدبي
لماذا الكاتب الجزائري/العربي يرفض تدخل المحرّر الأدبي في نصّه، ودور النشر من جهة أخرى لا تعير أهمية لوجوده؟ ألاّ يرى هذا الكاتب من أهميّة تُذكر للدور الّذي يمكن أن يلعبه المحرّر الأدبيّ؟
أمين الزاوي: المحرّر الأدبي، هي مهنة في الأدب يعرفها العالم الّذي وصل بصناعة الكِتاب إلى درجة الاِقتصاد وفهم جيدا قوانين سوق جديدة هي سوق الكِتاب الّذي يدر على دول أوروبية مثل فرنسا وألمانيا وأنكلترا الملايير.
العالم العربي لا يعرف سوق الكِتاب، والكِتاب لا يزال عالة أو هامشا من الهوامش التي تشاغب على السياسة وعلى الأنظمة ولا تتدخل في سياق الدورة الاِقتصادية. من هنا ظل عالم الكِتاب سوقا وأدبًا خاضعا لِمّا أسميه بالهواية بعيدا عن الاِحترافية.
في دور النشر العربية لا يوجد مدقق لغوي فما بالك بمحرر أدبي. الناشر يعتقد بأنّ توظيف مصحح أو مدقق لغوي هو عبء مالي إضافي على الدار وبالتالي نلاحظ الكوارث في الكُتب التي تُنشر، من دور نشر عريقة وأخرى جديدة.
أعتقد أن مجامع اللّغة العربية وأيضا الجامعات ومراكز البحوث في العالم العربي لم تدق الجرس، جرس الخطر، الّذي يعيشه الكِتاب العربي تحريرا، لغة وسوقا حتّى الآن.
وإذا كان الناشر الغارق في ثقافة النشر الهاوي لا يشغله بال المُدقق اللغوي فمّا بالك المحرر الأدبي، كما أنّ الكاتب العربي نفسه يشعر بنوع من الاِكتفاء الذاتي، والكمال الأدبي، فهو يعتقد بأنّ تدخل المحرر الأدبي في نص من نصوصه هو تحريف وهو في الوقت نفسه تصغير من قيمته الأدبية. وأعتقد أنّ هذه الفكرة، فكرة رفض المحرر الأدبي، في ذهنية الكاتب العربي أساسها ديني، فالكاتب العربي يعتقد بأنّه يكتب شيئا يُوحى بهِ إليه، على غرار الكُتب السماوية، ولا يزال الإبداع في العقلية العربية مرتبط بشكلٍ كبير بالرؤية المثالية أكثر منها الرؤية التاريخية الاِجتماعية الثقافية.
إذا كانت دور النشر الغربية تهتم كثيرا بمسألة التحرير، التحرير الروائي والتحرير الفكري والتحرير الفلسفي والتحرير الإعلامي في ما تنشره، فإنّ الناشر العربي لا يهمه هذا الأمر بل يجهله من الأساس، غالبية الناشرين لا يعرفون ما معنى «المحرر الأدبي»، ولا يملكون علاقة مع الدورة الاِقتصادية وسوق الكِتاب العالمي، لذلك فالكِتاب العربي غير معروف عالميًا، وكثيرا من الكُتاب الذين يعتقدون بأنّهم نجوم الأدب في العربية حينما يترجمون لا يهتم بهم أحد في العالم، وهذا يؤكد بأنّ مسألة التحرير في النص الأصلي مسألة أساسية. إنّ النخوة التي هي ثقافة مهيمنة على الذهنية العربية تُمارس حضورها أيضا في الإبداع، فالكاتب يعتقد أنّه أهم من المحرر الأدبي وبالتالي فهو ليس بحاجة إليه.

الرجوع إلى الأعلى