توظيفات دينيّة أم إيديولوجيّة؟
كيف حضر الخطاب الديني في المتن السردي الجزائري، أو بمعنى أوسع وأدق، كيف هي مستويات وسياقات توظيف الخطاب الديني في الرواية الجزائرية، وكيف نفسر الحضور المُكثف لهذا التوظيف، وهل يمكن القول أنّ بعض التوظيفات إيديولوجية أكثر من كونها دينية؟ أو بمعنى أوضح أكثر من كونها ذات خلفيات دينية، وأن الديني ملتبس مع الإيديولوجي؟
هذه أسئلة «كراس الثقافة» في ملف عدد اليوم، حول «الخطاب الديني في الرواية الجزائرية»، مع مجموعة من الدكاترة الأكاديميين والنقاد الأدبيين. وفيه نقرأ مقاربات وآراء مختلفة ومتفاوتة في التصورات ووجهات النظر. ففي الوقت الّذي يرى فيه الدكتور مخلوف عامر، أنّ الكثير من الناس قد درجوا على وصف الأدب الّذي يتعرَّض لنقد الفكر الديني بأنّه أدب مُلتزم أو إيديولوجي، وفي هذا مُغالطة واضحة –حسب قوله- ترمي إلى أنْ تجعل الالتزام يتعارض مع الحرية، كما تحصر الإيديولوجيا في كلّ فكر غير ديني. بينما الواقع ألاَّ أدب يخلو من بُعْد سياسي/إيديولوجي، سوى أنَّ أنجح الأعمال الإبداعية أقْدرها على إخفائه. في حين يرى الدكتور عبد الحميد ختالة، أنّ الرواية الجزائرية تبقى على مسافة من الخطاب الديني لم تقدمه فنيًا كنسق قابل للقراءة، وحافظت على تنميطه وفق رؤية تقليدية مُعادية مُتأثرة في ذلك بالمنجز الروائي الغربي الّذي حافظ على عدائيته لكلّ ما هو ديني. أمّا الناقد والكاتب عبد الحفيظ بن جلولي، فيعتقد أنّ توظيف الخطاب الديني بدا انطلاقا من إيديولوجية قائمة في وعي الرّوائي الّذي لا يتعامل مع الخطاب الديني سوى في مستواه الشعبي وهو ما يمنح الروائي مجالا أوسع لنقد الرؤية الدينية السائدة. من جهته الكاتب والناقد محمّد بن زيان، فذهب إلى القول أنّ حضور الدين في الرواية الجزائرية ليس حضورا لاهوتيًا وميتافيزيقيًا بل أنثربولوجيًا وسيكولوجيًا وسوسيولوجيًا. وأنّ تعدّدية الحضور تعكس تعدّدية التمثلات والتمثيلات وتفصح أيضا عن الطابع المُركب للمسألة الدينية والخطاب الديني.

* مخلوف عامر/ كاتب وناقد وباحث أكاديمي
لا أدب يخلو من أبعاد سياسية/إيديولوجية
الثابت في الحركة الأدبية بالجزائر أنّها كانت دائمًا تُواكب التحولات الجارية في البلاد. لذلك فإنّ الدراسات النقدية نفسها كثيرا ما تُركز على السياق أكثر مِمَا تهتم بالنسق. فقد كان الصراع في سبعينيات القرن الماضي بين يسار اشتراكي ويمين في ثوب ديني، امتدادا لانقسام العالم بيْن معسكرين: رأسمالي واشتراكي. فكان من الطبيعي أن ينعكس في الكتابة الروائية، وظهر ذلك بوضوح في روايات للطاهر وطار تُدين الفكر الإخواني. فما شخصية «حسن الشيخ» في «عرس بغل» إلاّ إشارة مباشرة إلى الشيخ حسن البَنَّا، وفي «الزلزال» لا يتردَّد عبد المجيد بو الارواح في استعمال الدين للإفلات من تأميم أراضيه، ويتكرر المشهد في «العشق والموت في الزمن الحراشي» حيث يظهر ممثل الإخوان مُناوئاً للطلبة المتطوعين، كما يُعالج ابن هدوقة هذا الموضوع في «الجازية والدراويش» حيث يُصوِّر قرية يتنازعُها مشروعان بحيث يظهر الخطاب الديني عائقاً في طريق الإصلاح.
ثمّ انتقلت الرواية لتعانق التاريخ العربي الإسلامي، فتضمَّنت الدعوة إلى مراجعته ونقد الفكر الديني تحديداً. يتجلى هذا في العديد من الروايات، إذْ نُصادف شخصيات مُختلفة تَرِد في النص أمثال: الحلاج والطبري وابن رشد وابن خلدون وغيرهم. وليس خافياً أنّ هذه الكتابات تتغذَّى من الفكر الماركسي أساساً ومِمَا اسْتجدَّ من بحوث فلسفية حول التراث. حيث نشط البحث في التراث خلال القرن العشرين.
فمنذ صدور كتابَيْ: «الإسلام وأصول الحكم» لـ: علي عبد الرازق و»في الشِّعر الجاهلي» لـ: طه حسين، توالت المعارك السياسية/الإيديولوجية وأصبح  التراث طرفاً أساسياً فيها. ثمّ ما لبثت أنْ تسرَّبت إلى الكتابة الأدبية عامة وإلى الرواية خصوصاً، ليس لأنها تصدَّرت عرش الأدب وحسب، بل لأنّها جامع فنون يتَّسع لاحتضان المناقشات والأصوات المتعدّدة والإحالات والاستشهادات والآراء المختلفة والمتناقضة.
فأمّا، في العشرية السوداء فقد كانت الوقائع الدموية لصيقة بالتيار الإسلاموي وأقوى من الخيال في فظاعتها، ما اضطر الروائي إلى تسجيل الأحداث كما في «تيميمون» لـ: بوجدرة. فهم إرهابيون أو ظلاميون لدى بعض الكُتّاب وهم «حُرَّاس النوايا» كما يسمِّيهم واسيني. ومن هذه الروايات تمثيلاً لا حصراً: «سيدة المقام» لـ: واسيني و»يصحو الحرير» لـ: الزاوي و»الغيث» لـ: محمّد ساري و»شطحات أنثى» لـ: عيون ليلى و»المراسم والجنائز» لـ: بشير مفتي. فإذا كنا لا نجد في الرواية شخصية دينية يمنحها الكاتب دورا إيجابيًا، فلأن هذه الشخصية منظورا إليها بعَيْن الخَصْم، يجعلها تتبَنّى خطاباً مشحونا بالكراهية وتنجرّ عنه مجموعة من الصفات: (متخلف، متحجر، إقطاعي، إرهابي، عنيف، انتهازي، ظلامي، سَلفي، خرافي.. الخ).
ولا يمكن أن نُصادف شخصية دينية تؤدي دورا إيجابيًا إلاّ إذا كانت لا تنتمي إلى فترة السبعينيات وما تلاها. كما هي شخصية الأمير عبد القادر في رواية «كتاب الأمير» لـ: واسيني. فهو يقدمه بوصفه نموذجاً يُحتذى في التفتح والتسامح الديني والإنساني خِلافاً للقول بصراع الحضارات.
فأمّا محاولة مالك بن نبي غير الناضجة «لبَّيك حج الفقراء» التي كتبها سنة 1947، فإنّ الهوية -في تقديره- لا يمكن استرجاعها إلاّ بالعودة إلى الأصل وهو الإسلام الّذي يُمثل له بالحجِّ إلى البقاع المُقدسة حيث النبع الصافي.
وبالإضافة إلى التحولات التي شهدتها الجزائر وكشفت عن الوجه المُظلم للتكفير، فإنّ تكريس نقد الخطاب الديني، لعلَّه يعود أيْضاً إلى أنّ الكُتاب ذوي الاتجاه الديني غالباً ما يميلون إلى كتابة الشِّعر أكثر مِمَا يتحمَّسون لكتابة الرواية.
لكنَّ كثيراً من الناس قد درجوا على وصف الأدب الّذي يتعرَّض لنقد الفكر الديني بأنّه أدب مُلتزم أو إيديولوجي. وفي هذا مُغالطة واضحة ترمي إلى أنْ تجعل الالتزام يتعارض مع الحرية، كما تحصر الإيديولوجيا في كلّ فكر غير ديني. بينما الواقع ألاَّ أدب يخلو من بُعْد سياسي/إيديولوجي، سوى أنَّ أنجح الأعمال الإبداعية أقْدرها على إخفائه.

* عبد الحميد ختالة/ ناقد وباحث أكاديمي
الرواية الجزائرية يمطت الخطاب الديني وفق رؤية تقليدية مُعادية
إنّ الحقيقة التي نبدأ منها بسط تصورنا في هذا الموضوع، هي أنّ الإنسان مذ كان بدءً لم تنفصل عن تفكيره قضية الدين أو بالأحرى فكرة الإله، فلا يمكن له أن يعيش إلاّ في فلك تلك القوة الغيبية التي يلجأ إليها دومًا عندما تنفذ قدراته في مواجهة عقبات الحياة، ففكرة الإله متمحورة في الذات البشرية قناعة، حتى مع ظهور فلسفة الإلحاد التي غذّاها التطرف في التدّين.
ولأنّ الرواية هي الحياة فلا غرو أن تمتح هي الأخرى من هذا المكون الإنساني الهام الّذي هو الدين، ولكن السؤال الّذي يواجهنا هو ما مدى عمق التفاعل الّذي حدث بين الرواية الجزائرية والدين؟، لا نختلف في أنّ الرواية الجزائرية نشأت وتطورت في بيئة زمنية متخمة بالصراع الأيديولوجي في سبعينيات القرن الماضي مع مجموعة من الروائيين نذكر منهم الطاهر وطار، رشيد بوجدرة، عبد الحميد بن هدوقة، كاتب ياسين، جيلالي خلاص...، هذه الأسماء التي شكلت إلى حدٍ ما صوت الرواية الجزائرية، وهو الصوت المُؤثث جماليًا وفق ملامح الواقعية الاشتراكية من حيث العُمق والأداء والاستشراف، إذ نطقت الرواية الجزائرية في هذه الفترة بما نطقت به السياسة الوطنية وقتها مُرسِخة أيديولوجيًا الفكر الشيوعي، ومع ذلك فقد قدمت الصوت الديني كنسق ثقافي يحتاج الحوار مرّة أخرى في سياقاته التاريخية ومدى جدواه اجتماعيًا.
ولم تختلف الرواية الجزائرية في الثمانينيات والتسعينيات مع الديني اختلافا عميقا، بل كان الاختلاف في ملامح الخطاب الديني السائد يومها، فقدّم بعض الروائيين من أمثال الطاهر وطار وواسيني الأعرج نقدا لسذاجة الخطاب الديني المكرور واعتماده على الظاهرة الصوتية، خاصة مع نهاية الأحادية الحزبية في بداية التسعينيات وإعادة رسم خارطة الأيديولوجيات، مِمَا سمح بظهور مجموعة من الحساسيات ومنها الإيديولوجية الإسلامية التي كانت نتاجًا طبيعيًا لتيار الإسلام السياسي.
ظهرت هذه الأيديولوجيات الجديدة في الرواية الجزائرية، فقرأنا «حراس النوايا» و»الورم» و»كراف الخطايا» و»الغيث» وغيرها من السرود التي قدمت قراءتها للخطاب الديني، وهو ما أثبت استيلاء هذا النوع من الخطاب على الاهتمام الفكري لأنصاره وخصومه، ومعه تحول الدين إلى سياسة وتحول الفكر إلى أيديولوجيا، ليقترن الديني في الخطاب الروائي في الجزائر بالفهم الّذي أشاعه خطاب الحركات الإسلامية، حيث أساء هذا التحجيم السيء للخطاب الديني كنسق ثقافي احتاج لكثير من العُمق من أجل تسريده بشكلٍ عارف وواع.
عاشت الرواية الجزائرية في القرن الواحد والعشرين مرحلة الوعي الجديد أو ما يُسمى بعصر الإيمان بعدما تقلص زمن الإلحاد، وحاولت سماع الصوت الديني في شخصياتها، إلاّ أنّ الغالب من هذا الخطاب الروائي فهم التدين على أنّه إمّا استمرار للخطاب الفقهي المحافظ فوق ما يجب أو أنّه محض مُمارسة جوفاء تغلب عليها الفولكلورية ويعوزها التعمق في المقولات والآليات، ليمتد صراع الحضور الديني في الرواية الجزائرية يتأرجح بين النزعة العلمية والعلمانية.
اختفى عن المنجز النقدي الّذي حاول تصنيف الرواية الجزائرية ما يُسمى بالخطاب الروائي المحافظ أو الإسلامي، رغم مسحة الزهد والتصوّف التي نقرأها في الروايتين الأخيرتين للطاهر وطار، ومع ذلك تبقى الرواية الجزائرية على مسافة من الخطاب الديني لم تقدمه فنيًا كنسق قابل للقراءة، وحافظت على تنميطه وفق رؤية تقليدية مُعادية مُتأثرة في ذلك بالمنجز الروائي الغربي الّذي حافظ على عدائيته لكلّ ما هو ديني.

* عبد الحفيظ بن جلولي/ قاص وروائي وناقد
توظيف الدين استجابة لِمَا تكرّس في تحولات الواقع
تعتبر الرّواية حاملة خِطابات مُتعدّدة لأجل أن تُشكل خِطابها الخاص، ولهذا فهي عبارة عن طبقات مُتعدّدة من اللّغة تُباشر عملها الحواري طالما كان هناك من يتفاعل مع مستوياتها الدلالية، فهي كحكاية تُخاطب المجتمع بما يُخزّنه من حركة استطاع المُوقف السّردي أن يكون على تماس معها لحظة إدراك زاوية رؤية تفترض امتلاكها قدرة على فهم ميكانيزمات بناء الحدث انطلاقا مِمَا يحدث واقعًا، إذ لا يمكن لرواية أن تنطلق من فراغ لا حدث يُؤسّس لأبجدياته الوجودية ومنها الخطاب الدّيني.
يُعتبر المجتمع بما يعجّ فيه من حركة وصراعات موطنًا للواقع الّذي ينطلق من قناعات الناس وثوابتهم ومتحصّلاتهم التفاعلية مع الآخر، وتراثهم الّذي أنجزته أيديهم. طبعًا هذا التفاعل الإنساني يشكل مُجمل التصورات والمفاهيم التي تلزم الذات نفسها بها في علاقاتها البينية وعلاقاتها مع الآخر باعتبارها الحصن الحصين لحفظ الهوية واستمرار الخصوصية، ولاشك أنّ فعل الرّواية هو خطاب يُواجه خِطاب المجتمع بما يحمله من وقائع ومسارات وسياقات، أي بما يمثله هذا الخطاب من أنساق راسخة تحاول الرّواية أن تتموضع باعتبارها عاملا تخييليًا/جماليًا في السياق الحركي للمجتمع، ومن هنا يأتي توظيف الدين في الرّواية الجزائرية كاستجابة أولا لِمَا تكرّس في تحولات الواقع، وبالتالي النظر إلى ما تحوّل في الواقع من خلال رؤية الرّوائي وقناعاته الإيديولوجية والجمالية.
لقد مرّ المجتمع الجزائري بثلاثة مراحل، مرحلة ما بعيد الاستقلال ومرحلة البناء والتشييد (الاشتراكية) ومرحلة الانفتاح، وتعتبر الرّواية كوثيقة فنّية متابعة جمالية لحركة الواقع مشتغلة على المبضع النقدي الّذي يحرّكه الرّوائي وفق قناعاته، فمرحلة ما بعيد الاستقلال تحكّمت فيها الرّؤية الجمالية للثورية المُحرِّرة، فروايات المرحلة كانت استمرارا للرّوايات المؤسّسة الفرنكفونية: محمّد ديب وكاتب ياسين، ورؤيتهما للدين كان يغلفها ذلك البُعد الثوري المفصلي في علاقته بحركة الشعب، وبالتالي يمكن القول بأنّ الخِطاب الديني كان منضويًا تحت الجماليات الثورية المُنبثقة في النص الرّوائي، فلا تكاد تشعر بثقل الخطاب الديني في تحريره للوعي وتوجيهه نحو خلق المبادرة الفاعلة في مسار النضال الوطني، وهو ما يمكن تفسيره على أساس أنّ الرّواية كانت نتاج الوعي بالمسار الأوروبي في التعامل مع الفضاء السردي في توظيفه السطحي للخطاب الديني، وكأنّه لا يعنيه، باعتباره العامل المُحيّد اجتماعيًا وفلسفيًا.
تتميّز المرحلة الثانية، أي المرحلة التي هيمن فيها الخطاب الاشتراكي، بالنظر إلى الدّيني على أساس أنّه معيار لتأكيد توجّهات المرحلة، ويتجلى ذلك في روايات عبد الحميد بن هدوقة والطاهر وطار، إذ بدا توظيف الخطاب الديني انطلاقا من إيديولوجية قائمة في وعي الرّوائي الّذي لا يتعامل مع الخطاب الديني سوى في مستواه الشعبي وهو ما يمنح الروائي مجالا أوسع لنقد الرؤية الدينية السائدة انطلاقا من المقصدية الاشتراكية التي تجعل من الدين مكوّنا اشتراكيًا وعليه أن يُساهم في نقد الإقطاع وتكسير هيمنة البرجوازية وتقوية خطاب العدالة الاجتماعية. المرحلة الثالثة، وهي المجال الّذي تأسّست فيه الرؤية الانقلابية للفن الرّوائي باعتبار الثورة الإعلامية وانبثاق وسائط التواصل الاجتماعي والتطور الرّهيب في التكنولوجيا، وهو ما أرسى عامل السرعة كمعيار للرؤية للأشياء والأفكار والعالم، وبالتالي كان التعامل مع الخطاب الديني في السياق الحداثي ينبع من هذا الهاجس ذا الرّيتم السريع الّذي يُوظف الدين في بُعده القابل للاندراج وحداثوية المسعى الحياتي، لكن عاملا آخرا كان فيصلا في هذه المرحلة، جعل من توظيف البُعد الديني حلقة في إنتاج ما يُسمى لاحقا بـ»تجديد الخطاب الديني»، فالإرهاب الّذي أُلحِق بالإسلام جعل الرواية في توظيفها للخطاب الديني تنحو إمّا طريق نقد مظاهر التديّن على أساس أنّها جوهر الدين وهو ما يُخالف الواقع، أو محاولة إبعاد الدين عن الحياة ومن ثمّ السعي لإثبات الخطاب العلماني كحالة إنقاذية من سيطرة التطرف والإرهاب، فأصبح الخِطاب الرّوائي فضاءً لصراع الخطابات من خلال ما تنتجه القراءة البعدية للمتن، والتي سوف تختلف إيديولوجيًا حول رؤية النص للدين، وفي هذه المرحلة تشكل ما يمكن الإشارة إليه باعتباره الحقل المؤسسي لإدارة الرّؤية للخطاب الديني، باعتبار أنّ العولمة ذاتها تشكلت ضمن النسق العدائي لما يمكن أن يُؤسس لأيّة خصوصية، وبالتالي تكون الرّواية أقدر الأجناس الإبداعية على إدارة الرّهان حول دحر مسعى التطرف والإرهاب والانتصار للقيم العلمانية التنويرية، ومنه يمكن القول بأنّ الخطاب الديني مُسّ في جوهره من خلال الخلط بين الإرهاب والدين والّذي ساهمت فيه بعض الخطابات الرّوائية.هناك مرحلة لا يأتي لها ذكر تقريبًا عند مقاربة توظيف الرّواية للخطاب الديني، وتعتبر من طلائع الكتابة الرّوائية الفرنكفونية في الجزائر، إذ صدرت عام 1936، رواية «مريم في الواحات» للروائي محمّد ولد الشيخ. والثابت الدّيني فيها يتماهى مع الثابت الوطني، بحيث النهاية التي تنغلق على عودة الابنة إلى أمّها هي عودة إلى الجذور، والرّواية الثانية هي «لبيك.. حج الفقراء» لمالك بن نبي الصادرة عام 1947، ورغم بساطتها إلاّ إنّها تمثل مؤشرّا على تناول الرّواية للخطاب الديني في مرحلة محاولات التحرر من الاستعمار، والجانب التبشيري الوعظي يبدو طاغيًا فيها، وتوظيفها للخطاب الدّيني كان مُباشرا، وهو ما كانت تتطلبه المرحلة من محاولات إيقاظ الوعي الوطني بالذات، أمّا الرّواية الثالثة فهي «غادة أم القرى» لأحمد رضا حوحو، والتي يتناغم فيها البعدين الدّيني والقومي ويُحيل أحدهما إلى الآخر باعتبارهما عنصرين مكملين.
في رأيي، يبقى الرّهان الحضاري للخطاب الديني الّذي يمكن أن تتبناه الرّواية من خلال طبيعتها التخييلية والجمالية هو محاولة الحفر الفوكاوي جماليًا في سؤال النّهضة القديم الحديث، لماذا تأخر العرب وتقدّم غيرهم؟ والعرب هنا تحمل معنى ذا بعد ديني، وأهمّية السؤال تنبع من إنّ القيمة تشكل مسلكًا جماليًا يُحاول الكشف عن تأويلات جمالية وتخييلية للمعطى الدّيني باعتباره ثابتا في تكوين الوعي الوطني، وباعتبار الرّواية فضاءً حدثيًا يُمثل عالم القيم التي تجعل من المقدّس عامل مساهمة في ترقية الوعي بالذات والوطن والعالم ومحاولات استيعاب الآخر وفهمه من منطلقات الذات، وهو ما يمكن أن ينقذ الرّواية أيضا من التوظيف الدّيني السطحي الّذي قد يؤول نحو الفهم الوعظي للرّواية.

* محمّد بن زيان/ كاتب وناقد
بعض الكُتّاب اعتمدوا استنساخ كليشيهات يمطية عن الدين
حضر الدين في نصوص روائية كثيرة، وبالأحرى حضرت تمثلات الدين وتمثيلاته، ولاستيعاب ذلك ينبغي تمثل السياق، فالدين حاضر ليس لاهوتيًا وميتافيزيقيًا بل حضر أنثربولوجيًا وسيكولوجيًا وسوسيولوجيًا. الديني في السياق الجزائري التبس بالدنيوي وحضر مُطلقه في النسبي التاريخي، وكان محور المواجهة كمعبر هوياتي في الزمن الكولونيالي، ولذلك حضرت الرمزية الدينية حتى في تسمية الفِرق الكروية وكان حرف الميم محور المعركة التي عرفتها الحركة الطلابية.
والدين المقصود هنا هو تمثلاته وتمثيلاته، فهناك فاصل بين الدين وبين تمثلاته وتمثيلاته وهذا ما كان في صُلب اشتغال أركون في الإسلاميات التطبيقية، وتلك التمثلات هي التي لها دلالتها الأنثربولوجية.
هناك بعض الكُتّاب الذين انخرطوا في تيار ما عبّر عنه باسكال بونيفاس بالمثقفين المزيفين واعتمدوا استنساخ كليشيهات نمطية عن الدين، بدون استيعاب الدين ومحوريته في صياغة هوية ومخيال وتاريخ المجتمع، وبدون الفصل بين أصل لا يقبض عليه وتمثلات خاضعة للتاريخ، فهناك الدين والتدين والمُتدين. المُتدين يُكابد بالتدين للوصول إلى تمام الدين.
والديني الحاضر هو في الحقيقة ليس دينًا بل استعارة لقناع ديني بغية تحقيق غرض سياسي أو اجتماعي أو اقتصادي، كما أنّ الدين أو بالأحرى التدين ليس مقترنًا بالجمود والمحافظة، بل هناك من يحمل نزعة ثورية مُنتصرة للقيم المحورية والكبرى.
تلك التعدّديّة تحضر في نصوص كثيرة، حسب إستراتيجية الناص وتبعًا للموضوع، وتختصر لنا تلك النصوص ما يمكن قوله عن الحضور التديني.
وربّما النقد الثقافي يسعف أكثر في مقاربة الموضوع لأنّه كما يقول عبد الله الغذامي: «ﺃنّه نظرية ومنهج في الأنساق المضمرة أو المعتقدات الذهنية العميقة باعتبارها نماذج راسخة ومنظومة فكرية ثابتة، ذات أثر في النصوص الثقافية، والجمالية بالذات، تتولّد منها هذه النصوص بالضرورة ويمكن القول بأنّ النقد الثقافي استعمال للأدوات النقدية لنقد الخطاب الثقافي وكشف مجموعة الأفكار المتآزرة والمترابطة التي تتمكن في الأعماق، وتُؤثر بشكلٍ حتمي في الفعل الجمالي والثقافي، حتى تصبح ذات وجود حقيقي يمثل الأصل النظري للكشف والتأويل».
ذلك ما يتجلى في تعاطي النص الروائي، مع تمثلات وتمثيلات مختلفة، مع نموذج الشخصية الدينية التقليدية المُحافظة والتي تصطدم مع التغيير كما يحضر في رواية «الزلزال» لوطار، أو الشخصيّة المُتاجرة بالدين والممارسة للدجل كما رسمها عبد الوهاب بن منصور في «قضاة الشرف»، أو الشخصية المنتمية لما يُعبّر عنه بالإسلام السياسي الحاضرة في نصوص كثيرة من بينها «العشق والموت في الزمن الحراشي» لوطار، أو الشخصية المنتصرة لجوهر الدين وللحق كما في رواية «عزوز الكابران» لبقطاش أو اليسارية المرتبطة بمرجعيتها الإسلامية كما في «التفكك» لبوجدرة أو تلك النظرة التي تُقارب الديني من منطلق يساري مُتحرر من الدوغما كما في «الشمعة والدهاليز» لوطار أو استعادة الصوفيّة الثائرة كما في «فاجعة الليلة السابعة بعد الألف» لواسيني وفصوص بن منصور... تعدّدية الحضور تعكس تعددية التمثلات والتمثيلات وتفصح أيضا عن الطابع المُركب للمسألة الدينية.

الرجوع إلى الأعلى