محاولة اغتيالي أعمق غورا من جميع أشكال التعبير الأدبي
لم ينجُ الروائي مرزاق بقطاش (1945) من الكتابة ومكابداتها ولذائذها، لكنّه نجا بأعجوبة من محاولة اِغتيال سنة 1993، (خلال عشرية الإرهاب التي عاشتها الجزائر) حيث كانت مواعيد الموت تتربّص به، وكادت رصاصة مرّت عبر قفاه أن تذهب به إلى نومةٍ أبديّة لا اِستفاقة بعدها. وقد ظلّ بقطاش يتجنّب أسئلة الصحافة حول حادثة محاولة اِغتياله، يتفادها ويمرّ إلى أسئلة أخرى. لكنّه في الأخير اِستجاب لسؤالنا الّذي طرحناه عليه أكثر من مرّة. وفي كلّ المرّات المتتاليات كان يتغافل سؤالنا، وفي الأخير أجاب على -السؤال المُمضّ المُحرق- كما قال. لكنّه كان ردا فيه بعض الاِقتضاب، وبعض التقتير بعيدا عن بهرجة الإسهاب. الحوار كان مناسبة أيضا للاقتراب من بعض عوالم بقطاش الكاتب والإنسان: إذ حضرت الكتابة في نص الحوار، والرواية، والترجمة، والبحر وحتى أشياء الطفولة التي قال إنّها تطفو إلى السّطح بين الحين والآخر.
حاورته/ نوّارة لحـرش
ظللت لسنوات تتفادى الحديث عن محاولة اغتيالك في شهر  جويلية 1993. فهل يمكن أن تخص قراء النصر بحديث عن تجربة الموت التي مررتَ بها، عن مسافة كانت بينك وبينه؟ وهل ظلت التجربة عالقة في ذهنك، أم لم تؤثر عليك إلى الحد الّذي تشكل فيه صدمة دائمة/مستيقظة، أو متوالية الحضور؟ أيضا على صعيد الكتابة هل استفدت من هذه التجربة الأليمة؟
مرزاق بقطاش: هذا السؤال ثقيلٌ ثِقل الجبال، وأنا كثيرا ما أتفاداه من جانب أهل الأدب والصحافة ومن بعض معارفي. وليس السبب لأنّه يعيد إليّ تجربة مريرة، بالغة المرارة، بل لأنّه يعيد إلى وجداني صورة المرحومة والدتي، وأنا في هذا الشأن لا أتحمل العذاب الّذي تحملته هي في صمت وصبر وهدوء. ثمّ لأنّني قد أتحول إلى وحش طاغ قد يفتك ببني الإنسان، وما أكثر ما شَعرتُ بذلك بعد أن تلقيت تلك الرصاصة التي اخترقت دماغي من الجانب الأيسر من القفا وخرجت من الجانب الأعلى من خدي الأيمن. أجل، ما أكثر ما شعرت بأنّني كنتُ قادرا على القتل، ولكن الله عصمني من ذلك.
أمضيتُ سنوات وأنا أخاف من نفسي، ومن أي ميل إلى الأخذ بأسباب العنف من جانبي، وها أنتِ تعيدين عليّ طرح هذا السؤال الممضّ المُحرق. كلّ ذلك يدفعني إلى التفكير في معاناة الإنسان الجزائري خلال ما سُمي بالعشرية السوداء.
أنا لا أحسب أنّ الأدب قادر على أن يُصور تلك المعاناة، وفي المقابل، فإنّني ألعن كلّ من كان وراء المَقاتل والمجازر التي عشناها. قلتُ: سامح الله من وجه تلك الرصاصة إلى دماغي، ولكن، لا سمح الله لمن دبروا تلك المكائد كلّها أيّا ما تكن انتماءاتهم السياسيّة والعقائدية والأمنية. كلّهم مجرمون سواء بسواء.
هل استفدتُ من تلك التجربة؟ لست أدري؟. أنا أحاول الكتابة عنها بين الحين والآخر، ولا أعتقد أنّني قد أساوقها بالكلمات. هي أعمق غورا من جميع أشكال التعبير الأدبي كلّها.
في عشية 31 جويلية من عام 1993، وأنا في قلب الحي أجالس أترابي وزملائي، وألاعبهم في الوقت نفسه في لعبة الكريات الحديدية، جاء من أطلق الرصاص عليّ بعد أن خلوت إلى نفسي في المكان الّذي أجلس إليه كلّ مساء. رحتُ أقرأ الصفحات الأولى من كتاب «الوعد الحق» للدكتور طه حسين، وأفقتُ بعدها في المستشفى. وذلك كلّ ما استطيع أن أقوله في هذا الشأن. لقد عصمني الله من موت مُحقق، وأراد للحياة أن تطول بي، وأن أرى أبنائي يكبرون إلى جانبي. ومع ذلك، ما زالت الحرقة في أعماقي، وأنا أعني بها العذاب الّذي كان من نصيب والدتي في تلك الأمسية الداحرة وما تلاها. وعليه، لا سمح الله لأولئك الذين دبروا أمر اغتيالي، أيّا ما كانت مواقعهم في هذه الدنيا!
رواياتك وقصصك كانت مادة لعدة رسائل جامعية: ليسانس، ماستر، ماجستير ودكتوراه، بمختلف جامعات الوطن. خاصة بعد محاولة الاغتيال. هل ترى من أهميّة لهذا التناول الأكاديمي لمنتجك الأدبي؟
مرزاق بقطاش:  ذلك ما يُثير اعتزازي بنفسي عندما أُلقي نظرة على حياتي الأدبية منذ أن وعيت ما الكتابة الأدبيّة. مذكرات التخرج لنيل شهادة الليسانس والماجستير والماستر والدكتوراه تجعلني أشعر بأنّني لم أُضيع حياتي هدرا. هُناك قُراء واعون بين الطلبة والباحثين، وأنا أشعر بسعادة غامرة عندما تَردني الأسئلة من أولئك القُراء الباحثين، وتزداد سعادتي هذه عندما أرد  على أسئلتهم جميعا بكلّ سرور ورحابة صدر. أعترف بأنّني أتعلم منهم الشيء الكثير عبر الأسئلة التي يطرحونها لأنّهم يفتحون دوني مغاليق أمور لم تخطر على بالي أبدا. أقول هذا الكلام في وقت نفتقر فيه إلى النقد الحقيقي وإلى معاييره المُتجدّدة التي يمكن أن تفتح آفاقا جديدة أمام الكاتب المُبدع والباحث الجامعي والقارئ بصورة عامة.
أنا مسالم ولم أتعرّض للرقابة حتى في عهد بومدين
وعليه، فأنا أُولي أهمية خاصة لأولئك الباحثين الجامعيين على مختلف مشاربهم ومداركهم. وأعترف، حسب حدود علمي، بأنّ الجامعات الجزائرية تضطلع أحسن اضطلاع بتشجيع أولئك الطلبة والباحثين جميعا. لقد وُجِدَ من بينهم من ناقش أطروحات دكتوراه الدولة وأبحاث الماستر والماجستير ومذكرات التخرج لنيل الليسانس، وهذا أمر جميل يبعث موات الرّوح كلّما أظلمت الدنيا في عينيّ بسبب الزمهرير الثقافي الّذي نُعانيه في مجال النقد الأدبي الحقيقي في صحفنا الوطنيّة وفي إذاعتنا وقنوات التلفزيون عندنا. المُعوّل عليه في هذا الشأن إنّما هو ما يقوم به هؤلاء الباحثون الأكاديميون بمختلف مستوياتهم. وأنا أعتز أيّما اعتزاز بذلك.
أشياءٌ من الطفولة تحضر في كتاباتك. ما الّذي بقيّ عالقا في ذاكرتك من مرحلة/رحلة الطفولة؟
مرزاق بقطاش:  أشياءٌ كثيرة تطفو إلى السطح بين الحين والآخر، وذلك كلّما رنت في أذني جملة أدبيةـ أو كلّما وقعت عيناي على شيء جميل أو قرأت نصًا مُهفهفا ينقلني إلى عوالم ما كانت لتخطر على بالي.
وكان من حظي أن كتبت في المدة الأخيرة، وانطلاقا من هذه البقايا الجميلة، ثلاثة نصوص روائية هي على التوالي: «مدينة تجلس على طرف البحر» و»أحد عشر كوكبا» و»البابور» بالإضافة إلى مجموعة قصصيّة أسميتها «دومينو». كما أنّني أصدرت مجموعة قصصية باللّغة الفرنسية أسميتها «والزرقة دائما» Du bleu à tout jamais « وأمامي العديد من المشاريع الأدبية الأخرى. وبتعبير آخر، يستحيل عليّ أن أبقى مكتوف اليدين حيال ما يَجد من تغيرات في المحيط الّذي أتحرك فيه.
البحر أيضا يحضر دائما وبوفرة في نصوصك. كأنّك ولدت وعشت لتحكي البحر أو لتخلده في نصوصك، كأنّك تحترف البحر كما لو كنت تحترف الحياة؟
مرزاق بقطاش: لقد حكيتُ البحر، وحكيتُ عنه وما زلتُ أحكيه، وسبق لي أن قلتُ غير ما مرّة: أنا من عائلة بحارين، تحترف البحر من عام 1915. والبحر هو الخبز أولاً، ثمّ، هو الرمز الكبير الّذي يتسع مداهُ كلّما نظرتُ إليه. أنا أجد فيه كلّ شيء. أسكن قُبالة البحر، ويستحيل أن يمر عليّ يوم دون أن أصبحه وأمسيه. فلا غرابة في أن تكون العلاقة بيني وبينه وطيدة من حيث الواقع ومن حيث الرمز. وأنا لا أتصور حياتي دون بحر، ولا يمكنني أن أعيش في مدينة دون أن تكون لها إطلالة على هذا العالم الرحب الفسيح. وذلك ما يُبرر وجود البحر في جميع كتاباتي.
قمت بترجمة عدة أعمال أدبية في مجال الرّواية والقصة لكُتاب من الجزائر وكُتاب عالميين. كيف هي نظرتك أو رؤيتك للترجمة، ماذا عن فعل الترجمة، كيف تعيش حالاتها، وإلى أي حد تكون الترجمة عندك إبداعًا على إبداع وفنًا على فن، لا ترجمة منزوعة الفن والإبداع من أجل الترجمة وفقط؟
مرزاق بقطاش: كانت الترجمة وما زالت شأنًا من شؤون الإبداع. ما كانت الترجمة الأدبية نقلا بين لغة وأخرى في يوم من الأيّام. هي أعظم من ذلك كلّه. وأنا أستدل على ذلك فيما يخصني بأنّني أعجز ما أكون عن نقل نص ما بين اللغات العربية والفرنسية والإنجليزية والأمازيغية إن لم يكن هناك عشقٌ متداول بيني وبين النص الّذي أضطلع بترجمته. وهذا هو أوّل شرط من شروط النجاح، ويكون ذلك مقرونا بامتلاك اللّغة المُترجم إليها أو عنها، وأعني بذلك أنّ الترجمة تتطلب أساسًا القدرة على الكتابة والتعبير الأدبي الجميل. المُترجم الّذي لا يحسن مثل هذا التعبير يستحيل عليه أن ينجح في مهمته، وهذا رأيي بالرغم من قساوته في هذا الشأن. الذين ينقلون النصوص الأدبية في أيّامنا هذه، مشرقا ومغربًا، لا يقومون بالتحليل الإعرابي، وذلك ما يجعل الجملة العربية ركيكة المبنى ملتبسة المعنى. التحليل الإعرابي، أي، l’analyse logique  ضرورة لا بدّ منها، والسبب هو أنّ بنية اللّغة العربيّة هي غير بنية اللّغة اللاتينية أو الفرنسيّة أو الإنجليزية. قد يُترجم الناقل الفرنسي عن الإنجليزية دونما صعوبة ظاهرة لأنّ بنية اللغتين متشابهة بينهما، أمّا فيما يتعلق باللّغة العربية فإنّه لا بدّ من تفكيك الجملة الفرنسية أو الإنجليزية لكي تستقيم الفكرة عنده ويُوجِد لها مُقابِلات لُغوية وأسلوبية مقبولة لا يشعر معها القارئ بالتذبذب.
نفهم من هذا أنّ الترجمة عندك هي أوّلا وبالأساس حالة عشق للنص، قبل أن تكون مشروع اشتغال نقل نص من لغة إلى لغة؟
مرزاق بقطاش: لا أترجم نصًا أدبيًا إلاّ إذا كنتُ عاشقًا له، وهذا شرط جوهري عندما أتصدى للترجمة. الترجمة إبداعٌ لا يَقِلُ عن مُختلف أشكال الإبداع الأخرى. هي بالنسبة لي حالة من حالات التصوّف. أنغمس فيها مثلّما ينغمس العازف الّذي ينطلق من مقام مُعين إلى مقام آخر وهو يدرك ضرورة أن يحسن الانتقال من هذا الجنس إلى ذلك الجنس الآخر مثلّما هو معمولٌ به في الموسيقى العربيّة. وأنا أرى أنّ الترجمة تشبه أيضا، وإلى حدٍ كبير، تلك الحال التي يُوجد فيها الخطاط العربي في الزمن الحضاري القديم عندما يقوم فجرا ويبري أقلامه ويعد الحبر ويجلس جلسة معينة لكي ينجز عمله مُبحرا في تضاعيف الأشكال الهندسية والتعاريج. تلكم هي الترجمة في نظري.
مُعظم ما يُنقل إلى اللّغة العربية في أيّامنا هذه إنّما هو تجن على هذه اللّغة لأنّ الذين يضطلعون بالترجمة لا يحترمون النص الّذي ينقلونه ولا ينظرون نظرة التقدير إلى الأسلوب العربي الرائق. وما أقبح عمل أولئك الذين يتقاسمون العمل لترجمة هذا العمل الأدبي أو ذاك، ثمّ يجمعون ما ترجموه ويسلمونه إلى المطبعة! والذين ينظرون إلى الترجمة على أنّها مجرّد نقل من لغة إلى أخرى إنّما يجنون عليها وعلى اللغات كلّها.
الذين ينظرون إلى الترجمة على أنّها مجرّد نقل من لغة إلى أخرى يجنون عليها
لننظر اليوم إلى ما أُنجز من ترجمات في العالم العربي! هي كثيرة حقًا، ولكنّها قلّما أحدثت ثورة فكريّة في أوساط المجتمع العربي. الذين ترجموا وأبدعوا قليلون، ويُعدون على أصابع اليد الواحدة. وعليه، أنا أرى أنّ الترجمة إبداعٌ لا يَقِل عن مُختلف أشكال الإبداع الأخرى.
لسنوات وأنت تكتب مقالات في الفكر والأدب والسياسة وتنشرها هنا في الجزائر وفي المشرق والخليج. كيف كان سقف الحرية المُتاح في النشر هنا في الجزائر مُقارنة مع نظيره المشرقي
أو الخليجي؟
مرزاق بقطاش: فعلا، كتبتُ المقالة منذ أن انتميت إلى عالم الصحافة العام 1962، وهي مقالة أدبية في المقام الأوّل. وحتى عندما عالجت بعض المواضيع السياسية عمدت إلى الأسلوب الأدبي، لأنّ الأسلوب الأدبي هو الأبقى. المقالة السياسية لا تعيش طويلا، بينما المقالة الأدبية قد تعيش أطول.
أعترف لكِ في هذا السياق بأنّني لم أشعر بأي قيد أو تقييد في أثناء الكتابة، بل إنّني تجاوزت ذلك كلّه في أثناء حُكم الرئيس الراحل هواري بومدين، وهي فترة كانت فيها الرقابة على أشد ما تكون عليه. ربّما راقبتُ نفسي بصورة لا شعورية في أثناء الكتابة، ولكن، لم أجد من يقف في وجهي إلاّ في حالات قليلة جدا.
أنا بطبعي ميّال إلى المسالمة، ولا أحب المُشاكسة أصلا. المُسالمة تعيش طويلا، والمُشاكسة قد تسقط من تلقاء نفسها في نفس اليوم، بل إنّ صاحبها لا يأتي سوى بالفقاقيع التي يريد أن يُبهر قراءه بها حتى يُقال عنه إنّه عظيم القدر مقصود في مضمار التعبير الحر، وهو ليس كذلك. الذين يكتبون المقالة المُشاكسة لا تطول أعمارهم الكتابية، وما أكثر ما رأينا من سقط منهم، ولم يستطع حتى إعادة نشر ما كتبه لأنّ الحالة النفسيّة والوجدانيّة والاقتصاديّة والسياسيّة تكون قد تغيرت ولم يعد القُراء يهتمون بها.
نحن نقرأ اليوم مقالات الدكتور طه حسين التي نشرها في الصحافة المصريّة خلال العشرينيات والثلاثينيات من القرن المُنصرم، ونجد فيها نفس المُتعة التي كانت من نصيب قُرائه في ذلك الزمن. كُتبه المُهمة نُشرت ضمن مقالات بصورة دوريّة في الصُحف المصريّة، وهي لا تزال على نصاعتها وبريقها، وتستثير وجدان وعقل القارئ العربي والباحثين في الجامعات العربية والمُتأدبين على اختلاف انتماءاتهم ومشاربهم. ذلك ما أقصده بكتابة المقالة الأدبية. وقد تمكنت بالفعل من إعادة نشر مقالاتي الأدبية بعد أن جمعتها في أربعة أجزاء دون أن أغير شيئا من مضامينها وأسلوبها، وأعدتُ طبع مقالاتي الأدبية التي نشرتها باللّغة الفرنسيّة التي صدرت لي في الملحق الأدبي لصحيفة «الوطن». وذلك ما أعتدُ به في حياتي الأدبيّة، كلّما عمدتُ إلى تدوين مقالة أدبيّة باللّغة العربيّة أو باللّغة الفرنسيّة.

الرجوع إلى الأعلى