انتهاك العلوم و المعارف
تتكرّر ظاهرة السرقات العلميّة، كثيرا ومنذ سنوات في الجامعات الجزائرية وحقول البحث العلمي، وهي -للأسف- تستفحل يومًا بعد آخر في جسد الجامعة وفي حرمها الّذي أنهكته وانتهكته لصوصيّة من نوع آخر، لصوصيّة لم تحترم الأمانة العلمية وتطاولت على جهد الآخرين من بحوث ودراسات ورسائل تخرج وحتى مقالات، وسطت عليه بغير حق. فما الّذي ساهم في انتشار واستفحال «الظاهرة»؟ وما هي الحلول؟ فرغم إدراج وزارة التعليم العالي «السرقات العلمية» ضمن بنود أخلاقيات الجامعة التي تُصنف السرقات العلمية في خانة الأخطاء الجسيمة التي تؤدي بصاحبها إلى الطرد والمتابعة القضائية، إلاّ أنّ السرقات متواصلة، والوزارة تستقبل سنويا العديد من الشكاوى والمراسلات المتعلقة بسرقات علمية مختلفة.  حول «السرقات العلمية في الجامعات الجزائرية وحقول البحث العلمي»، المتفشية في الأوساط الجامعية والجامعات الجزائرية،
إستطلاع/ نوّارة لحـرش
كان هذا الملف في عدد اليوم من «كراس الثقافة»، مع مجموعة من الأكاديميين، الذين تناولوا الظاهرة من جوانب مختلفة، في محاولة لمناقشتها وتحليلها وطرح بعض الحلول لها.

بوقاعدة البشير/ باحث أكاديمي -جامعة سطيف2
الظاهرة تطورت مع تطوّر العلوم والتهاون ساعدها
من المصائب العلمية التي باتت تُؤرق المجتمع العلمي بتداعياتها ومخاطرها ومخلفاتها على مستقبل البحث العلمي بالجامعة الجزائرية، ومصائر جيل من الطلبة والباحثين، هي الغش والسرقات العلمية التي لا يتورّع عن نهج سبيلها وامتهانها بعض المنتسبين إلى الجامعة الجزائرية وإلى البحث العلمي.
تكرار ظاهرة السرقة العلمية واستفحالها في الحقل العلمي وتعدّد فنونها في فضائه، معروفة، ففي هذا السياق، نشير بداية إلى أنّ السرقات العلمية والأدبية ليست وليدة هذا العصر بل تغوص جذورها في أعماق الماضي، بيد أنّ اللافت للانتباه هو أنّها -وللأسف- أخذت تُساير تطور العلوم والتكنولوجيا، واتخذت فنونًا لصوصية فاقت بكثير ما عرفته المجتمعات الماضية، إذ كلّما تقدّم العِلم أشواطا خِدمة للإنسانية كلّما قطع لصوص العِلم وللأسف أشواطا أخرى في احترافية الغش العلمي وتقنياته، تدمير تقاليد العِلم ومُثله العُليا. ولسنا بصدد أن نُعيب التطور العلمي ولا لنُلقي لومنا عليه في استفحالها وتنامي اتساع حدود الدائرة التي تحتضن أهلها؛ فهذه الوسائط التكنولوجية المعاصرة في الحقيقة خير معين على إنتاج أبحاث جادة، أصيلة أصلية، صادقة، ودقيقة وعميقة ومتميزة، وإنّما نقول أنّها كانت من الأدوات التي استعان بها من وقع في فخ السرقة العلمية وروّض مادتها في تفعيل تقنيات النهب العلمي وفنونه؛ بحيث بات من السهولة بمكان -على سبيل المثال- الوصول إلى أعمال الآخرين البحثية في زمن وجيز بواسطة الإنترنت ولو كانت في مناطق بعيدة عنهم، ويتحصلون عليها في صيغ جاهزة بصيغة وورد أو مصورة ضوئيًا تُسهّل عليهم انتحال شخصية أصحابها العلمية ونسبها لأنفسهم وهم منها براء؛ حيث تُجرى عليها تعديلات طفيفة أو تُـترك كما هي، أو يتم ترجمتها من لغات أخرى إلى لغتهم البحثية ونسبها لأنفسهم، زعمًا منهم أنّه من الصعوبة بمكان الوقوف على حقيقة جرائمهم العلمية وسلوكهم النهبي لجهود الغير، ورغبة -في عماية- لملامسة غاياتهم البحثية ولو على أكتاف الغير وجهودهم.
ولئن كان هذا الصنيع يدل عن غياب الضمير وتطاول الناهب العلمي على أخلاقيات البحث العلمي وأبجدياته وشروطه وآدابه، فإنّ من بين العوامل المساعدة على استفحال هذه الظاهرة إلى جانب غياب الضمير الأخلاقي والوازع الديني، نذكر: التنافس على المنصب الإداري والدرجة العلمية ولو على حساب البحث العلمي وبالتجرد من أخلاقيات وآداب البحث، ففي الوقت الّذي تتحدّد مسالك بلوغ مراتب علمية سامية (تأهيل جامعي، أستاذية...) ومناصب إدارية عُليا في المسؤولية بالجامعة على كاهل نصيب علمي مُعيّن، يزدحم على عتبة باب الدرجة والمنصب أشباه الباحثين بمنتوج علمي مُزيف يرجون ببضاعتهم المُزجاة تلك بلوغ مآربهم وتحصيل منافعهم.
أيضا، الضعف الّذي تتخبط تحت سقفه عملية التكوين والبحث العلمي بالجامعة، والنقائص التي تشهدها من حيث الإمكانات المادية والبشرية المبسوطة، بما لا يكفي لتحريك عجلة البحث وتفعيل طرائقها على الشاكلة المرجوة، فيكون ضعف التكوين ظرفية خصبة لضعف الإنتاج من الطالب وحتى الباحث، وافتقار كلّ منهما إلى الجدية، واعتماد الكم على حساب الكيف، ونهج سبيل الغاية تبرر الوسيلة، والاستعجال في جني ثِمار العمل أو البحث قبل نضجها، أو طي الزمان بما لا يسمح به لا العقل ولا الضمير فضلا عن الشرع، أو الظفر بجائزة أو شهادة علمية بمجهود الآخرين، أو الرغبة في الصعود على أكتاف الغير دون إعارة لجهدهم والاعتراف بحق الغير وملكيتهم.
كما ساهم التهاون الّذي يقع فيه البعض من الأساتذة الباحثين وأعضاء لجان المناقشات العلمية والخبراء والمحكمين، والتفريط الّذي اصطبغت به صنائعهم في مجال التقويم والتقييم في ما يتعلّق بإجازة الأبحاث العلمية سواء كانت مذكرات ماستر أو ماجستير أو أطروحات دكتوراه أو مقالات علمية أو مطبوعات بيداغوجية ونحوها من الأعمال العلمية، وذلك حين لم يلتزموا بالجدية والصرامة العلمية في معالجة الأعمال البحثية التي تُعرض بين أيديهم للتقويم والمناقشة، وغياب الضمير عند البعض باستخدام العاطفة والتجاوز على جرائم السرقة، شكَلَ هذا الصنيع ظرفية ملائمة لتمادي أشباه الطلبة الباحثين في إنتاج أبحاث منهوبة، بحيث تتفاوت نسبة مادة النهب من النهب الجزئي أو الكلي أو النهب المُبطّن، ونحوها من طرائق النهب العلمي الّذي ذاعت في حقول الأبحاث.
أيضا، عدم تفعيل القوانين التنظيمية والعقابية ودور أجهزة الرقابة وخلايا الجودة والهيئات المنوط بها مهمة الاهتمام بالتفاصيل والبيانات الدقيقة لكشف أعمال الغش والسرقة العلمية وكلّ ما جانسها، وللحفاظ على نزاهة البحث العلمي واحترافيته، واحترام المعايير الأخلاقية في مجال البحث العلمي ومنعًا للممارسات غير الأخلاقية. وعليه، فإنّ جهود التفعيل والمُراقبة المستديمة والاجتهاد في ذلك، بالإضافة إلى إعادة النظر في بعض النصوص التنظيمية لعمليات الترقية العلمية ومناقشة مذكرات التخرج بشتى مستوياتها، ونحوها من الشروط التي تُحدّد طرائق المنافسة العلمية لحيازة امتيازات مالية أو منصب أو درجة أو عطلة علمية، من شأنه أن يحدّ من تنامي هذه الظاهرة المقيتة، ويحدّ من السباق نحو المراتب العلمية والمناصب الوظيفية بالخروج من مضمار السباق الشريف؛ من حيث خلق توازن في الفُرص وتساوٍ في الحظوظ بالشكل، وخلق الجو الّذي يُساعد على البحث العلمي في الجامعات ومراكز البحث بشكل يتسق وما تعرفه مراكز البحث والجامعات العالمية.
يمكن وصف ظاهرة اللصوصية العلمية بأنّها من الآفات التي اُبتليت بها ساحة البحث بالجامعات والأوساط العلمية، والتي أساءت إلى سمعة البحث العلمي والباحثين. ومع تعدّد مظاهرها وتطور وسائل البحث العلمي والتكنولوجي أو تنامي فُرص الإغراء والتحفيز والمكافأة في حق من أسهم في تطوير البحث العلمي وإنتاج المعارف، نأسف أنّه لا تزال تنتسب إلى فضاءات البحث طائفة من الباحثين لا يحملون من صفات الباحث إلاّ اسمه ومن شروط البحث العلمي إلاّ عنوانها، هذه الفئة طائفة تُعاني من الإفلاس الأخلاقي وموت الضمير وعمى القلوب. وتنامي هذه الظاهرة له من التبعات الخطيرة على مستقبل البحث العلمي وعلى الباحث وكذلك على الطالب.
وعليه، ونظرا لما يعانيه البحث العلمي من سلوكات السرقة العلمية، فإنّ البحث العلمي هو الملاذ للتنقيب عن السُبل والوسائل التي يُستفاد منها في كبح جماح اللصوص، ووضع الحلول المناسبة للقضاء على ظاهرة السرقة العلمية، والتغلّب على كلّ المشاكل والمُسببات التي تُمهّد الطريق لفعلة اللصوصية ومجرمي الخيانة العلمية، والوصول إلى صياغة قوانين دقيقة جديرة بضبط منظومة البحث العلمي وتسييرها وفق مناهجه ورصد كافة التجاوزات المُحتملة الوقوع قبل استفحال أمرها وشيوع خطرها وانتشاره، لتفادي ما تحدثه من أضرار على مسيرة البحث وكوارث في حقل الدراسة العلمية؛ فتعمل على تلافيها والحدّ منها أو على الأقل التقليل من خطرها.

عبد الحميد حامدي/ أستاذ العلوم السياسية –جامعة حمة لخضر- الوادي
استفحالها سيعطّل أهداف البحث العلمي
مثلما لا يعد البحث العلمي عملية احتطاب في جميع الاتجاهات، فإنّه كذلك لا يعد نقلا كليًا متواترا للمخزون المعرفي السابق بالمنطق الّذي صار معروفًا به في الوسط الجامعي، بل هو عملية تتسم بالجهد الموضوعي والنزاهة العلمية في التحري والاستكشاف والتحليل والتدقيق.
بيد أنّ ما يضرب مصداقية البحث العلمي في الجامعات الجزائرية اليوم هو تلك المسارات المشبوهة، التي يمتهنها الباحث إزاء ميدان بحثه، عندما يتخذ من السطو والتزوير المعرفي سندا له للوصول إلى غايات علمية، إنّها بهذا الشكل جريمة معرفية تُنتهك فيها مبادئ النزاهة والأمانة والموضوعية العلمية، لتتعدى ذلك نحو التجرد من القيم الأخلاقية والعلمية من قِبل أصحاب هذا الامتهان السلبي، وذلك بالاعتلاء فوق جهود الباحثين الأصليين والموضوعيين في جريمة مكتملة الأركان.
أسئلة كثيرة تُثار حول مُسببات هذه الجريمة العلمية، والتي تأخذ منحنيات متصاعدة في الجامعات الجزائرية وفي جميع المستويات الأكاديمية، بدءًا بالبحوث الصفية، إلى غاية مراحل الدراسات العُليا المتقدمة، وقد اتضح من خلال هذه الظاهرة أنّها النفق المُظلم والوجه الأسود للبحث العلمي في الجزائر، أفقدت بالأساس الباحث العلمي بوصلة إدراكه المعرفي في حقيقة ما يريده من بحثه واستقصاءاته، وسط غياب الضمير المعرفي والمهني.
في ظل غياب منظومة قانونية وتشريعية جادة تترصد لهذه الظاهرة المسيئة للمنظومة الجامعية الجزائرية ككل، يكثر اللغط حولها خصوصا مع استفحالها في الوسط الجامعي من موسم لآخر، ارتباطا بمنطلق هذا اللغط الّذي يرتكز على اعتبار السرقات العلمية سلوكات شخصية يستفرد بها أصحابها، أو أنّها ظواهر صحية لتصحيح خارطة المعرفة الجامعية، التي تعتريها بعض المطبّات تحول دون وجود إنتاج علمي رصين، غير أنّ هذا اللغط هو الّذي قد يتخذ منه البعض المُمتهن مبررا للاعتلاء على جهود الباحثين الأصليين على الدوام. لقد رافع الكثير من الأكاديميين والحقوقيين في الجزائر حول هذه القضية، واجتمعوا حول اعتبار أوحد وهو أنّ ظاهرة السطو العلمي على جهود الآخرين هي ابتزاز أخلاقي، وفوق هذا هي بمثابة ظاهرة تهدم المعرفة في الجامعة، ولا تعطي مخرجات علمية موضوعية تعود بالفائدة على الباحث سواء كان طالبا أو أستاذا، بل وفي خضم استفحالها سوف تعطّل أهداف البحث العلمي، المبنية على أساس استجلاب المعرفة الجديدة، والموضوعية في الاستدلال العلمي، وإعادة إنتاج البراهين المعرفية بما يتوأم ومشروطية المعرفة الحقة، وكذا مقتضيات الأبحاث والدراسات حول الظواهر الآنية.إنّ الّذي يُؤسس للبحث العلمي الجاد في الجامعات الجزائرية اليوم هو إلزامية اعتراف كلّ أطراف المنظومة الجامعية بهذا الجُرم، مع ضرورة استحضار القيم الإنسانية والعلمية النائمة وأخلقتها، للانتقال نحو مستوى من البحث يضمن الكفاءة في الأداء والسلوك، والنوعية في الإنتاج العلمي، وهنا يتم استبدال الإمتهانات المُخزية التي التصقت بصورة الباحث الجزائري السيء، بأداءات تتماشى والموقع الّذي يجب أن تحتله الجامعة الجزائرية، كمتغير أساسي في تحفيز الباحثين، ومنه الارتقاء بمستوى البحث العلمي.

صفاء بن عيسى/ أستاذة بكلية العلوم السياسية -جامعة قسنطينة 3
نتيجة لمراكمة سلوكات سلبية في مختلف أطوار التعليم
عرفت ظاهرة السرقة العلمية أو يُعرف بمصطلح «البلاجياLe Plagiat” انتشارا بشكل واسع في الأوساط الأكاديمية، خاصة خلال السنوات الأخيرة، سواء في البحوث الصّفية أو بحوث التخرج (ليسانس، ماستر،دكتوراه)، وحتى في المقالات الأكاديمية التي من المفروض أنّها تتصف بالعلمية، وبدرجة من الوعي والرشد الأكاديميين، وهذه المسألة هي مسألة لا أخلاقية تمس بالوسط الجامعي، وتمس بالقيمة العلمية للجامعات الجزائرية وللمردود العلمي والمعرفي لها، إذ تُعتبر خطأً مهنيًا من الدرجة الرابعة.
ويأتي هذا الشيء نتيجة لتراكم السلوكات السلبية التي يكتسبها الباحث في أطواره التعليمية المختلفة، فتؤدي به إلى عدم التحكم في أدوات البحث العلمي، إضافة إلى غياب الوازع الأخلاقي.
وربّما كان السبب وراء ذلك أيضا، خاصّة بالنسبة للباحثين المُقبلين على إعداد أطروحات الدكتوراه علوم، والذين كانوا قد تجاوزوا الست (06) تسجيلات، هو التعليمة الوزارية التي تقضي بضرورة المناقشة في الآجال المُحدّدة، وذلك قبل جوان 2018 وإيداعها قبل ديسمبر 2017، ما أدى إلى الزيادة المُفرطة والخطيرة في نسبة السرقات العلمية لأجل المناقشة، ما جعل الوزارة المعنية تتجه إلى إقرار الأمر رقم 933 في 28 جويلية 2016، بشأن وضع القواعد المتعلقة بمكافحة ومنع السرقة العلمية، حيث يتكون من ستة (06) فصول وتسعة وثلاثين مادة (39)، انطلقت بأحكام عامة، لتنتقل إلى تعريف السرقة العلمية، وتُعرج بعدها على التدابير الوقائية لمكافحة الظاهرة، وتمّ تخصيص الجزء الأكبر لفصول ومواد هذا الأمر للإجراءات العقابية لكلّ من يثبت عليه هذا الفعل، وقد تمّ تخويل الدور الرقابي الرئيس في هذه العملية لمجلس أخلاقيات المهنة في الجامعات الجزائرية.
إنّ مكافحة السرقة العلمية من خلال هذه القوانين الهدف منه هو الإبقاء على القيمة التي كانت تكتسبها الشهادات الجامعية سابقا، كما أنّها تعمل على حماية الإنتاج العلمي والأبحاث من السرقة والاعتداء على الحقوق الفكرية، ليس هذا فحسب وإنّما حماية الأشخاص الذين تنسب إليهم هذه الأبحاث وتشجيعهم على مزيد من الإبداع والبحث.
إلاّ أنّ إقرار القوانين وتركها حبيسة الأرشيف لا يكفي، إذ أنّه حتى في بعض الجامعات لا تقوم المؤسسات المُخول لها القيام بهذه الوظيفة بما هو مطلوب منها، لهذا وجهت وزارة التعليم العالي تعليمة رقم 355 تستنكر فيها عدم قيام هذه المؤسسات بتطبيق الأمر رقم 933 لسنة 2016.
إضافة إلى ذلك فإنّ هناك مشكلا آخر في هذا الصدّد ألا وهو الأدوات والميكانيزمات الرقابية التي من شأنها الكشف عن هذه العمليات، ثمّ تسليط العقوبات اللازمة على مرتكبها، فحقيقة أنّ الجهات المعنية ليس لها بعد هذه الأدوات الكافية لمعرفة متى تتم هذه السرقة، وكيف يتم الكشف عنها وتأكيدها، وبالتالي فإنّ مسألة السرقة العلمية تبقى في تزايد مستمر، مِمَا يُهدد دائمًا التعليم العالي والبحث العلمي في الجزائر ومكانته بين الجامعات العالمية.

محمّد بكاي/كاتب وباحث أكاديمي –جامعة أبو بكر بلقايد- تلمسان
تكرارها تأكيد عَلى تردّي وضعيّة البحث العلميّ في جامعاتنا
يعد تكرار السرقات العلمية تأكيدٌ عَلى تردّي وضعيّة البحث العلميّ داخل الجامعة الجزائرية، والابتعاد عن المنهجية القويمة في إعداد المذكرات والبحوث والاقتصار على العفوية واللامبالاة في إنجاز الرّسائل الجامعية وعدم تقصي منسوب الأمانة العلمية وتخطيها. فما يُنجز من أبحاث يعتمد بشكل كلي على القوالب الخارجية (الإخراج الفني وحجم البحث واختيار العناوين البراقة) كما لم يعد الباحث يعطي للأمانة العلمية حقها عندما أصبح الجهد المبذول في التقصي والتمحيص يُهدر في تسوية المراحل الإدارية المعقدة التي تسبق فترة المناقشة التي حُصرت أجواؤها في الملاطفات والمجاملات وهو ما جعل الكل في غفلة عن الأمانة العلمية داخل الرسائل الجامعية. فتراكم هذه الطقوس والشكليات أثّر بشكل جليّ على مضمون البحوث، وهو الأحرى بالعناية والمتابعة، هذا إلى جانب تجاهل الهيئات البحثية ولجان القراءة والمناقشة هذا الوباء الّذي سيتحول إلى إدمان بحثي إن لم يُقمع ويُحارب بالآليات والإجراءات اللازمة.
تفشّت هذه الظاهر المرضية لانعدام المراقبة والمعاقبة من طرف الهيكل الإداري والهيئات العلمية المختصة داخل الجامعات، وهو المشهد السائد في معظم المجالس العلمية للجامعات الجزائرية؛ أي غياب الرقيب الأخلاقي وسُبات ضمير المتابعة والدقة والإشراف والتحري، فباختلال هذه الأركان تراجعت نوعية الحصيلة العلمية وجودة الرسائل والمذكرات البحثية التي تفرزها الجامعة، فهمّ تلك الهيئات ينحصر في الإسراف الكمي بدل إعلاء الكيفي، وللأسف الشديد أُصيبت الأوساط البحثية بهذا الشّلل في توليد معرفة خالصة أو ابتكار مفاهيم وأفكار شخصية، وعوّضها اعتماد مبدأ السرقة أو القص واللصق، وهو ما لا يليق بالأخلاقيات الأكاديمية. واستفحال هذه الظاهرة وتمكينها مردّه أيضا إلى وجود اتفاق ضمني في بعض الأقسام الجامعية والأوساط الأكاديمية بالتعتيم على ظاهرة السرقات وغض الطرف عن حجمها صونًا لأواصر الصداقة بين الخلان والزملاء (المودة والمصالح بين المشرفين والمقررين) وليس حِفظا للأمانة العلمية والحرص عليها، هذا من جهة، وكسلا من عند أنفسهم من جهة ثانية تهرّبًا من الأداء البيداغوجي والمتابعة البحثية والسهر على تقويم مسالك الباحث المبتدئ من خلال التدقيق والمتابعة، وإحالة الإنجازات المثقلة بالاقتباسات والسرقات إلى اللجان العلمية للفصل في أمرها قبل نيل الشهادة. ومواجهة تلك التجاوزات إنصافًا للموضوعية والأمانة العلمية بعيدا عن أجواء المحسوبية أو التزكيات والوسائط والإكراميات التي أصبحت من الطقوس الجوهرية. فالاستخفاف بمسألة الأمانة العلمية في البحوث والحرص على تدقيقها جعل الوضع ينتقل من سيء إلى أسوء، وخير مثال على ذلك انفجار المشهد الأكاديمي الجزائري –في كلّ مرة- على نبأ سرقة علمية جديدة. ما نحتاج إليه هو إيقاظ الهِمة وتوعية المشرفين والطلاب معًا وإلزامية التدقيق أثناء الإشراف وغرس حسّ الأمانة في نفوس طلبة العِلم والباحثين والحثّ على روح الجدية والاعتماد على الجهد الشخصي والتمرن على تقنيات القراءة والاستشهاد والتصرف، وتكليف أهل الثقة وأصحاب الضمائر الحية –في حالة وجود تجاوزات وسرقات- بالتشديد في الردع، حتى لا تتكرر مثل هذه السرقات والاختراقات التي تُعيب  الإنتاج العلمي الجزائري وتنتقص من قيمته.

بشير ربوح/ باحث وأكاديمي -قسم الفلسفة، جامعة باتنة1
عواملها متداخلة ومُركبة منها تفشي الغش في المنظومة المدرسية بكلّ أطوارها
عندما نريد أن نبحث في ظاهرة السرقات العلمية، يمكن الإقرار أولاً أنّ الظاهرة تتساوق دومًا مع أي حراك علمي أو نشاط معرفي، وبالتالي لا تخلو أي جامعة في العالم من هذه الظاهرة، غير أنّ الدول التي تمتلك مقدرة تقنية ومنظومة قانونية رادعة، وتحوز كذلك على تقاليد عريقة في مجال البحث العلمي، تجتهد في الحفاظ على سمعتها العلمية بكلّ عزم وإصرار، ولكن المسألة تختلف في الجامعة الجزائرية، فنحن نفتقر إلى منظومة قانونية قوية، وإلى مؤسسات تتكفل بمهمة المراقبة والمتابعة، والإشراف على تطبيق العقوبات، وتخضع هذه العملية إلى سياسات متغيرة ومتقلبة ذات طابع مزاجي، يرتبط بطبيعة شخصية المسؤول، ويمكن في الكثير من الأحيان التغاضي عن مرتكبي السرقات العلمية.
يمكننا أن نُرجع السرقات العلمية إلى عوامل متداخلة، لأنّها ظاهرة مُركبة، فهي ترتد إلى تفشي ظاهرة الغش في المنظومة المدرسية، بكل أطوارها، ومما ضاعف منها التعاطي التقني الخالص مع الظاهرة، وتغييب الحس الأخلاقي والقيمي للمسألة، ولا يجب أن ننسى طرائق التعليم المهترئة التي تعتمد على التلقين والحفظ، فالطالب مطلوب منه في الامتحان أن يُعيد البضاعة كما استلمها، وانخراط الطالب الجامعي في نظام تعليمي جديد، يدرس فيه ثلاث سنوات في مرحلة الليسانس، وسنتين في مرحلة الماستر، وفي هذه المرحلة انفتح الباب على مصراعيه أمام السرقات العليمة، نظرًا للكثافة المخيفة في أعداد الطلبة، مِما يفرض على الجامعة سياسة واقعية تتميز بتسهيل عمليات المناقشة التي تُجرى في ظروف غير علمية على الإطلاق، فيتحول المشرف العلمي إلى مفتش شرطة.
إنّ موضوع السرقات العلمية يحتاج إلى ندوات وملتقيات ومنظومة قانونية زاجرة، قادرة على وضع حدود للنفوس التي تريد تسلق السُلم العلمي بغير وجه حق، وينبغي أن نعيد إلى الجامعة التقاليد العلمية القوية، فنتخلى نهائيًا على سياسة الكم، ونعيد النظر في السياسة العامة للمؤسسات العليمة، ونمنح المناصب إلى مستحقيها من رجالات العِلم.
للتذكير فقط، الجامعة الجزائرية تحتل المرتبة الرابعة في الوطن العربي في السرقات العلمية، وإذا استمرت بهذه الوتيرة فستحتل المرتبة الأولى.

 

 

الرجوع إلى الأعلى