كيف هو واقع المثاقفة العربية، ما المثاقفة وما دواعيها وضوابطها، وما هي أهم وأكبر وأبرز إشكالاتها؟، أيضا ما هي أهم تمظهراتها في زمن وحيز العولمة اللامحدود، وما هي الأبعاد الحقيقية للمثاقفة على المستوى الإنساني، المعرفي، الحضاري والثقافي على مدار الجغرافيات العربية عموما.
«كراس الثقافة» في عدده لهذا الأسبوع، يفتح ملف «المثاقفة العربية»، مع أكثر الأكاديميين والباحثين المشتغلين في حقلها. والملف بشكل عام محاولة للفت الانتباه إلى مركزية مصطلح «المثاقفة» في واقع الفعل الثقافي العربي وتاريخه. وضرورة الوعي بمفهوم المثاقفة وفلسفتها، والتعريف بها وبمصطلحها أكثر.بهذا الشأن يقول الدكتور عبد الملك بومنجل، أنّنا حين ننظر حال المثاقفة العربية اليوم، لا نرى ما يبعث على الاطمئنان، وما يدل على أنّ لنا فعلا في هذا العالم المتدفق بالمنجزات المعرفية والفنية والعلمية، ما ينفع منها وما يضر، ما يناسب ثقافتنا وبيئتنا وقيمنا وما لا يناسب. في حين يرى، الدكتور عمر بوقرورة، أنّ المثاقفة المتداولة في الراهن المعرفي العربي يجب ألا تخفي واقع الحال الّذي يدل حقيقة على السقوط المعرفي، وعلى عجز النُخب الثقافية عن إنتاج آليات معرفية ومنهجية قادرة على التفاعل مع الآخر المُركب الّذي هو آخر الأنا وآخر الآخر.
إستطلاع/ نوّارة لـــحـرش
من جانبه، يرى الدكتور رائد عكاشة، أنّ ثمّة إشكالات حقيقية في واقع المثاقفة العربية في العصر الحديث والمعاصر، وأنّ ثمّة خللاً في قراءة الذات عند تعاملنا مع الآخر، لأنّ أغلب النقاد توسلوا بأدوات البحث التي اصطنعها الآخر، من مفاهيم ومناهج ونظريات دون وعي بالسياقات التاريخية والمعرفية والثقافية للمجتمع المُنتج.
أمّا الدكتور فتحي حسن ملكاوي، فيؤكد أنّ المثاقفة العربية تتأرجح بين الحضور والغياب، وأنّها في الغالب تعطي لحركة الثقافة اتجاهاً واحداً من الآخر إلى الذات، وقلمَا حصل العكس. متسائلا في ذات الوقت، إذ يطرح هنا سؤالا مؤداه: إذا كانت المثاقفة تفاعلاً، يتضمن الأخذ والعطاء، فما حجم ما يسهم به العرب من إنتاج ثقافي يقدمونه لغيرهم، بالمقارنة مع حجم ما يستهلكونه من الإنتاج الثقافي للشعوب الأخرى؟!.

* عبد الملك بومنجل/ مدير مخبر المثاقفة العربية في الأدب ونقده بجامعة سطيف2
المثاقفة العربية اليوم لا تكاد تخرج عن استعارة الأزياء والمرجعيات
عندما نتمثل المثاقفة في بُعديها اللغوي والفلسفي تفاعلا بين الثقافات والحضارات، وتبادلا في الأخذ والعطاء للمنجزات المعرفية والفنية والعلمية، وننظر حال المثاقفة العربية اليوم، لا نرى ما يبعث على الاطمئنان، وما يدل على أنّ لنا فعلا في هذا العالم المتدفق بالمنجزات المعرفية والفنية والعلمية، ما ينفع منها وما يضر، ما يناسب ثقافتنا وبيئتنا وقيمنا وما لا يناسب.
بل نرى عولمة قاهرة لا نملك إزاءها حريةَ تمحيصٍ ولا إرادة تحرر، مع أن الحرية مكفولة لنا، ولا شيء يحرمنا منها سوى أنفسنا ذاتها، وما يسكنها مما سماه مالك بن نبي القابلية للاستعمار!.
نرى أُممًا تنتج المعرفة صحيحة وزائفة، والقيمَ موجبة وسالبة، والأزياءَ الثقافية المختلفة جميلة وقبيحة، ونرى العرب يكادون يكتفون باستعارة هذه المعارف والقيم والأزياء، استعارة خالية من التأمل، عارية عن التبصر، مفرطةً في التقليد، عاجزة عن الإبداع، في الفكر والفلسفة، كما في الأدب والنقد، والفن والترجمة، وعلوم الآلة وعلوم الإنسان.
أسماء أعلام الفلسفة والأدب والنقد تملأ أسماعنا وكُتبنا وبحوثنا ومحاضراتنا، ومذاهب الأدب الغربي ومناهج نقده تغزو أدبنا ونقدنا ومقرراتنا وبرامجنا وتفرض سيطرتها على مداركنا وأذواقنا ونمط تصورنا للأدب والفلسفة والإنسان والوجود. والعلوم والمضامين والمناهج ذات النشأة الغربية والحمولة الثقافية الغربية تمتد في مقرراتنا الجامعية على حساب الضروري من العلوم العربية التي تُــنمي في المُتعلم رصيده اللغوي والذوقي، وتشكل كيانه الحضاري معرفة ووجدانا، وتمنحه لونه المتميز المستقل، وتملؤه بما يواجه به المعارف والثقافات بوعي ورشد وقدرة على التمحيص والغربلة. وقصارى جهود جل باحثينا أن يتمثلوا ما ينتجه الغرب من نظريات ومناهج، ويحسنوا نقلها إلى القارئ أو المتعلم العربي –وقلّ أن يحسنوا ذلك- مع شيء من محاولة التكييف لما لا يُكيًّف، وكثير من محاولات التزييف لحقائق التاريخ الإسلامي والمنظومة المعرفية والذوقية العربية!.
إنّها إشكالية عولمة يفرضها القوي ويقبلها الضعيف. وإنّ الضعف هنا هو ضعف نفسي قبل أن يكون ضعفا معرفيا أو ماديا. إنّ إيماننا بذواتنا ضمر حتى أوشكنا أن نعتقد أنه ليس لنا ذوات، ليس لنا هوية ولا حضارة ولا عقل مبدع ولا حق في الاختلاف والإبداع، وحتى صرنا نعامل أنفسنا بما يمليه علينا اعتقاد غيرنا فينا: أمة بيانية لا برهانية، إيمانية لا عقلانية، وظاهرة صوتية لا عملية!.
وعندما يكون المثقف، المفكر، الباحث، واقعا في هذه المثاقفة السلبية، مثاقفة الاستلاب والتبعية، فإننا لا نطلب من المجتمع أن يتماسك في وجه ما تتدفق به وسائل التواصل من القيم الثقافية السلبية، وأنماط التفكير والسلوك ذات الصبغة المادية الاستهلاكية. إن مجتمعنا يُفرغ شيئا فشيئا من قيمه الروحية والأخلاقية والاجتماعية، ولولا مصادرُ لا تنضب من القيم الروحية يظل الدين يحرسها لبلغ بنا الأمر أسوأ مما نحن فيه.
ومع هذا، فإنّ حالة من الصحو ومراجعة المسار تلوح في الأفق الآن، وتبشر بقرب انطلاق مشروع التحرر من هيمنة ثقافة الآخر. إن ما كتبه في النقد عبد العزيز حمودة في ثلاثيته، وعبد الله إبراهيم في «المركزية الغربية» و»الثقافة العربية والمرجعيات المستعارة» وسعد البازعي في «استقبال الآخر»، وما كتبه ويكتبه في الفكر والفلسفة عبد الوهاب المسيري وطه عبد الرحمن وغيرهما، يُبشر بفجر الاستقلال الفكري، والرشد الحضاري، ومباشرة الخطوات الأولى في طريق المثاقفة الواعية الراشدة التي تقوم على ثنائية الأصالة في الإبداع والإفادة من الحكمة الإنسانية.

* عمر بوقرورة/ رئيس قسم اللغة العربية وآدابها -كلية الدراسات الإسلامية والعربية بدبي
المثاقفة المتداولة عربيا لا تخفي واقع الحال الّذي يدل على السقوط المعرفي
نُركز في الإجابة هنا على واقعية منهجية يفرضها الراهن المعرفي والحضاري في العالم العربي، هذا الراهن الذي نؤكد به أن المثاقفة المتداولة في الراهن المعرفي العربي يجب ألا تخفي واقع الحال الذي يدل حقيقة على السقوط المعرفي، وعلى عجز النخب الثقافية عن إنتاج آليات معرفية ومنهجية قادرة على التفاعل مع الآخر المركب الذي هو آخر الأنا وآخر الآخر!! من خلال النقد والتحليل والمراجعة، هذا في أسوأ الأحوال أو في أوسطها، ذلك لأن الجيّد أن ننتج ما يُقوي عناصر الخصوصية، ويجعلها قادرة على صنع أسئلة المثاقفة لا استعارتها.
إنّ أي حديث عن المثاقفة إنّما يمر عبر سؤال الذات المؤيد بسؤال المرجع الخاص الخاضعة لكينونة معرفية واعية، فحضور الذات في مقاربة المثاقفة واجب، وغيابها إنّما يؤدي بالبحث في هذا المجال إلى أوهام تحكمها نوستالجيا مرجعية غير قادرة على إنتاج فعل تثقيفي واع، كما يؤدي إلى نمذجة الآخر معرفيا وحضاريا حيث تعمل المناهج والمعارف الوافدة على تشكيل سياج معياري هدفه الاكتفاء بالوافد الذي حلّ محل الذات وأناب عنها في المشهد المعرفي في واقعنا.
وحضور سؤال الذات هنا مؤسس بالشرط الحضاري الذي يعني أن يتجاور المبدع مع الأزمنة الخاضعة للأمة في مسارها التطوري، وفي امتدادها التاريخي الماثل في انزياحات حضارية كبرى تؤول إلى متغيرات يجب أن يعيها كل من أراد أن يمارس الكتـابة بصيغ الأمة، إن الحاجة ماسة إلى إقبال الجامعيين بصفة خاصة على مثاقفة بنيتها النقد الذاتي الذي يمنحهم سلطة التعامل الإيجابي مع المناهج والمعارف الوافدة إن من الشرق أو من الغرب، ذلك التعامل الذي يبعدهم يقينا عن المعيارية التي يرون بها الآخر نموذجا حتميا لا مجال لمناقشته.
ومع حضور الذات الواعية نذكر أيضا أنّ الخوض في معالم المثاقفة ومفاهيمها وعناصرها في عالمنا العربي لا يكون إلاّ بملكية المرجع الخاص الذي يهب المثاقفة نفسها عناصر الخصوصية التي تجعلها خطابا معرفيا قائما على بنيات مقصدية نابعة من ذات المثاقف أولا، والملكية هنا قائمة على المحمول القيمي الذي يمنح خطاب المثاقفة خصوصيته التي تجعله خطابا نديا قادرا على التجاور والحوار والمشاركة والتفاعل.
ففي عالم المعرفة لابدّ أن نذكر أن بعض المفكرين والدارسين والجامعيين العرب قد أثبتوا يقينا أنهم عاجزون عن إنتاج خطاب ثقافي قيمي ذي سند حضاري مشترك بينهم وبين المتلقي، وبينهم وبين مجتمعاتهم، وذلك عبر جعل الخطاب الثقافي حاملا للقيمة منسجما مع مقومات هوية المجتمع، وداعما لها بوصفها مرجعية للفعل الاجتماعي والثقافي والسياسي والديني، بل ومنتجا لهذه القيمة التي تغدو علامة أساسية في النص حيث تعمل دوما على تنمية الذوق الفردي والجماعي لدى المؤلف الذي يجب في هذه الحالة أن يبتعد عن النفعي الذاتي الخاص، لكن أن يكتفي المبدع والناقد والمفكر بمشاكسة الواقع ومقاطعته بمرجع معرفي وفني منقول متأثر بالآخر فتلك هي المشكلة.
إنّ الراهن المعرفي يلزمنا بالتفاعل مع أسئلة الأنا المحرجة التي منها: هل يمكن للأنا أو الذات الحضارية أن تثاقف الآخر دون أن تكون منتجة لماهية المثاقفة نفسها على اعتبار أنّ المثاقفة ليست خطابا معرفيا إبيستيمولوجيا تتداوله الأمم بشراكة معلوماتية يتلقاها الجميع ويستقبلها دونّما هوية أو كينونة حضارية تتدخل في صنعه؟ وما هوية المثاقفة التي نبتغيها إذا سلمنا جدلا أنّ المثاقفة جهد  معرفي سنني تنجزه الأمم في إطار قانون الخصوصية الذي يلزم أهل العلم بضرورة الانطلاق من خصوصيات أمة معينة لحل إشكاليات فكرية وثقافية تواجهها؟ وهل تتوفر جامعاتنا ومراكزنا العلمية على باحثين مؤَطرين وفقا لهويتهم، عازمين على إنتاج الخطاب المعرفي الخاص الذي يعني إثارة الإشكاليات التي تصنع درس المثاقفة، تلك الإشكاليات التي تتقاطع جدلا مع المبتغى المعرفي العام الذي نريده  في الأمة، أم أنّ المثاقفة هنا تعميم وتعويم ورصد لإشكاليات منقـولة لا علاقة لها بواقع الأمة؟.
وختام المختصر تأكيد معرفي جوهري نرى به أنّ المثاقفة مسؤولية معرفية وحضارية لا يتقنها إلاّ من وهب المرتكز الفكري والسلوكي الذي يضمن له الحضور الفاعل في مائدة الثقافة. إنّ المثاقفة المرجوة لا تتحقق بمناهج وأنساق ومضامين نستوردها فذلك أضعف الأمر وأهونه، وأمّا الجليل فماثلٌ في مثاقفة تنتج صيغها وعناصرها بالرؤى المستقبلية التي تتجاور وتتلاحم مع شخصية الأمة وهويتها، فمن أجل أن نؤسس للمثاقفة الإيجابية السليمة علينا -أولا و آخرا- أن نحدّد الهوية المسؤولة عن المرجع المؤسس والمؤصل للمثاقفة، وسندرك حينها أنّ الثقافة لا تكون إلاّ بندية وبتشارك يفضي إلى حضور الذات فاعلة في كلّ تثاقف يحصل، وعلى الممارسين للخطاب المعرفي أن يقتنعوا بما يفعلون منهجا وسلوكا، وأن يدركوا أنّهم مقدمون على عمل لا مجال فيه للعابثين والحالمين، والماسكين بوهم يرون به الحياة إلى حين.

* رائد عكاشة/المستشار الأكاديمي للمعهد العالمي للفكر الإسلامي
ثمّة خلل في قراءة الذات عند تعاملنا مع الآخر
يعاني الفكر العربي الحديث من قضية طالما كانت عاملاً أساسياً في تشكيل هويته وبناء ذاته، وهي الأسس المعرفية والفكرية التي اتكأت عليها بُنَاهُ الاجتماعية والمعرفية والأدبية والاقتصادية، ولعلّ الاتصال بالأفكار الأخرى لاسيما الفكر الغربي، كشف عن جانب من معاناة الفكر العربي، إذ أبرزت هذه المعاناة محطّاتِ الإخفاق في التلقي والأخذ، وجعلت الفكر العربي الحديث ينهل من الفكر الغربي جُلّ منظومته المعرفية، وانعكس ذلك على شخصية العربي ومنهجية تفكيره. وما من شك في أنَّ معالم الحداثة والعولمة في إطارها الغربي كان لها حضور واضح في منظومة التفكير العربي، مِمَا أدّى إلى حدوث تفاعلات داخل الإطار العربي، تبحث مسألة استقلالية التفكير العربي في جميع مجالاته وتجلياته.
استشعرت بعض الكتابات أنّ ثمّة خللاً في عملية التلقي والمثاقفة، ودعت هذه الكتابات المفكرَ العربي إلى أشكلة العلاقة مع الغرب –على حد قول الدكتور البازعي-، أي إبراز الجوانب الإشكالية المتأزمة، لأنّ ثمّة من يُبسط العلاقة بالمعطى الثقافي الغربي، ويتعامل مع هذا المعطى كما يتعامل مع المأكولات المُعلبة والألبسة الجاهزة دون أدنى تفكير في الرؤية والمنطلق والمنهج والآلية.
ثمّة إشكالات حقيقية في واقع المثاقفة العربية في العصر الحديث والمعاصر، إذ رأى بعض المفكرين بأن ثمة خللاً في قراءة الذات عند تعاملنا مع الآخر، لأن أغلب النقاد توسلوا بأدوات البحث التي اصطنعها الآخر، من مفاهيم ومناهج ونظريات دون وعي بالسياقات التاريخية والمعرفية والثقافية للمجتمع المنتج.وهذا ما نلمسه في كثير من التنظيرات والممارسات الفكرية والمعرفية والأدبية عند لحظة الاقتباس والمثاقفة والتلقي عن الآخر. وهذا ما فعله طه حسين بالربط البنيوي للثقافة المصرية بالثقافة الغربية (مستقبل الثقافة في مصر نموذجاً)، لأنّ ثمّة اعتقاداً بأنّ العقلية العربية بدأت تتغير منذ عشرات السنين وتصبح أقرب إلى التفكير الغربي. وقد عبّر بعض الحداثيين عن انتمائهم إلى بنية النظام المعرفي الغربي، وشعروا بأنّ ثمّة تماهياً فكرياً وروحياً مع هذا النظام، فأسقطوا معطياته وأفكاره وتقنياته على الثقافة العربية.وثمّة إشكالية أخرى تتصل بموقع الذات التراثية في ظل الهيمنة المركزية المُتعلقة بشكل أساس في العولمة، إذ تختفي الخصوصيات الثقافية والممثلة بشكل خاص في ثقافة الهامش، لتغدو ثقافات الهوامش مندرجة في ثقافة المركز، مِمَا ينتج ثقافة مرآة للذات الغربية دون مراعاة للخصوصيات والسياقات الثقافية.
وهذا ظاهر في كلّ مجالات الحياة، في ثقافة الطعام (سيادة دولة ماكودنالد والكوكا كولا)، وثقافة اللباس، وفوق ذلك كلّه ثقافة التفكير وبناء النظريات المتماهية مع النمط الغربي.
والسؤال الذي يطرحه معظم المفكرين والمثقفين: كيف ننتج مثاقفة حقيقية مع المختلف الذي نطلق عليه تجاوزاً الآخر؟ وما هي الأبعاد الحقيقية للمثاقفة على المستوى الإنساني والمعرفي والحضاري؟
إنّ أيّة مثاقفة حقيقية ينبغي أن تنتج من رحم مرجعية واضحة تحدّد رؤية الذات في تعاملها مع الذات وفي تعاملها مع الآخر. ولعلّ المرجعية الحضارية المتمثلة في رؤية الأمة التي صاغها الإسلامية، تُعد مرجعية واضحة المعالم. كما ينبغي على أي مثقف أن يعي قيمة ما أنتجه العقل البشري في إحداث فعل المثاقفة، وفي الإفادة من النافع من التراث، ومن ثم إنتاج معرفة تتسق والبنية المعرفية للمجتمع العربي. ولعل من الواجب الأخلاقي والأدبي والحضاري أن نشجع تلكم المحاولات التي يقوم بها بعض المفكرين العرب في بناء منظومة معرفية وثقافية عربية تجيب عن أسئلة العرب في ظل زمن العولمة، وتحاول تلمس البديل الحضاري. كما هو في مشروع طه عبد الرحمن على سبيل المثال لا الحصر.

* فتحي حسن ملكاوي/ المدير الإقليمي للمعهد العالمي للفكر الإسلامي
المثاقفة العربية بين الحضور والغياب
يتبدّى واقع المثاقفة العربية في هذا الزمن بصورة واضحة من موقع العرب في عدد من المؤشرات، منها مثلاً: مجالات الإنجاز الحضاري العالمي، ومعدلات التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وحالة الاستقرار والسِلم الاجتماعي، وتفاوت معدلات الدخل بين الأغنياء والفقراء، وحجم التغطية الإيجابية أو السلبية التي يقدمها الإعلام العالمي عن العرب، وما إلى ذلك من مؤشرات. والإعلام المعاصر في زمن العولمة وفضاءاته المفتوحة، يسهم إلى حد كبير في تكوين الصورة النمطية عن العرب، فالصورة حاضرة للجميع آناء الليل وأطراف النهار.
إنّ أبرز عامل في تكوين الصورة النمطية عن العرب عند غيرهم هو حضور العرب أو غيابهم، حضورهم في مجتمعاتهم فيما يراه الآخرون رأي العيان، تخلفاً في مجالات الممارسة السياسية، وهشاشة في النسيج الاجتماعي، وفشلاً متواصلاً في التنمية الاقتصادية، وهكذا. بينما يتبدّى حضورهم السياحي والدبلوماسي في البلدان الأخرى، نموذجاً للعجز والتخلف. أمّا غيابهم فحدث عنه ولا حرج، فغيابهم معروف ومألوف عن مجالات الإسهام الثقافي والعلمي والتقاني، فلا تكاد تجد لهم فيها أثراً ذا بال.
الثقافة قوة وطاقة متجهة، تتحرك مِمن ينتجها نحو من يستهلكها، كما تتحرك الموائع في الأواني المستطرقة. وساحة التنافس العالمي في مجالات الثقافة في عصر العولمة فضاء مفتوح، ومع أنّ في ثقافة كلّ مجتمع خصوصيات، لكن قوة الثقافة من قوة من ينتجها، فإذا صادفت مستهلاً ضعيف الثقافة فلن تنفعه خصوصيات ثقافته. وإذا كانت المثاقفة تفاعلاً، يتضمن الأخذ والعطاء، فما حجم ما يسهم به العرب من إنتاج ثقافي يقدمونه لغيرهم، بالمقارنة مع حجم ما يستهلكونه من الإنتاج الثقافي للشعوب الأخرى؟!.
إنّ ما تنظمه وزارات الثقافة، ودوائرها المتخصصة في الشؤون الثقافية، وما تقدمه أجهزة الإعلام المقروء والمسموع والمرئي من ألوان النشاطات الثقافية، يقود إلى ملحوظات لا تخطئها عين الناظر إلى برامج هذه الوزارات، وهي أنّها تعطي الوزن الأكبر لدلالات ثقافية محدّدة دون أخرى، ولاسيما حين يكون الاهتمام الأكبر بالتقاليد والعادات ومهرجانات الفنون والتراث الشعبي، والسياحة، فالموضوعات التي تقدم هي أقرب إلى الاقتراض الثقافي منه إلى التفاعل الثقافي. ويكاد المضمون الفكري أن يغيب عن هذه النشاطات. وحتى حين يكون الدين مادة فيما يسمى «البرامج الدينية» فهو في الغالب دين السكون لا الحركة، ودين الانفعال لا الفعل.
أمّا سفارات الدول العربية في الخارج فإنّ من مهامها الأساسية التعبير عن ثقافة البلد الذي تنتمي إليه السفارة، وتنظيم البرامج التي تعرِّف بذلك البلد وتروِّج لثقافته، ويحسن أن نقارن بين النشاطات الثقافية لسفارات الدول العربية في بعض البلدان الأجنبية، من جهة، والنشاطات الثقافية لسفارات هذه البلدان الأجنبية في عواصم البلاد العربية من جهة أخرى. فائدة هذه المقارنة لا تقتصر على إعطاء صورة عن الحجم النسبي للنشاطات الثقافية بين النوعين من السفارات، بل إنّها تكشف عن أنواع النشاطات الثقافية وأساليبها، وبيان فعاليتها في المثاقفة.
ومن ثمّ يمكن الادعاء بأنّ المثاقفة في البلاد العربية كما تكشف عنها نشاطات الوزارات المعنية والسفارات والملاحق الثقافية الأسبوعية في الصحف اليومية، هي في الغالب تعطي لحركة الثقافة اتجاهاً واحداً من الآخر إلى الذات. وقلمَا حصل العكس.

الرجوع إلى الأعلى