قراءة في فيلم: «أوه جيروسالام»
     يأتي فيلم «أوه جيروسالام» أو «واقدساه» (O Jérusalem) للمخرج الفرنسيّ «إيلي شوراكي» (Élie Chouraqui) ليرصد موضوعا مفصليّا في تاريخ أمّتنا العربيّة، وفي تاريخ العالم الحديث: موضوع ضياع القدس واحتلالها، وجعلها وطنا بديلا لليهود الوافدين من أوروبا، بعد جلاء الإنجليز عنها.  تدور الأحداث سنة 1948، ويلعب الأدوارَ فيها أبطالٌ حقيقيّون، وشخصيّاتٌ تاريخيّة معروفةٌ جدّا عربيّا وعالميّا، مثل: المناضل الفلسطيني «عبد القادر الحسيني» والقائد الأردنيّ «عبد الله التل» ورئيسة الحكومة الإسرائيليّة «غولدا مائير» (Golda Meir) وغيرهم. إلى جانب شخصيّات أخرى افتراضيّة قاسمتها البطولة، أو لعلّها استبدّت بالشقّ الأرحب منها، وبها ومن خلالها عبّر صانعو هذا الفيلم عن مضمراتهم الإيديولوجيّة، وآرائهم السياسيّة.
بهاء بن نوار
     تبدأ الأحداث في تلك الفترة المفصليّة – بين سنتيْ 1947 و1948 – في أمريكا، حيث يتابع البطلُ العربيّ/ الفلسطينيّ "سعيد شاهين" دراسته هناك، وتربطه صداقةٌ عميقةٌ بشابّيْن يهوديّيْن: "جاكوب" و"بوبي" يبدو من خلالها الثلاثة مثالا للانفتاح والثقافة والروح الإنسانيّة السامية، المترفعة عن التعصّب والكراهية.  غير أنّ العربيّ سعيدا يضطر إلى العودة إلى القدس بطلبٍ من عمّه المناضل "عبد القادر" بعد احتدام الأزمة، وتعذّر الحصول على تحالفٍ عربيّ كاملٍ يصدّ المخطط الصهيونيّ، ومثله يفعل رفيقاه حيث يسافران هما أيضا إلى القدس، ولكنْ لغايةٍ أخرى، هي الاستيطانُ، أو "البحث عن السلام" على حدّ قولهما. وهناك تنقلب الصداقة إلى عداوةٍ، وتبدأ مضمرات الخطاب الفيلميّ في الظهور، والتي يمكننا اختصارها في هذه النقاط:
يزدوج في هذا الفيلم الطابعُ الوثائقيّ/ التاريخيّ/ التسجيليّ مع الطابع السرديّ/ الرومانسيّ/ التشويقيّ، ويبدو الملمح الأول – التسجيليّ - على غايةٍ من الدقة وحسن الانتقاء، حيث برع القائمون على هذا الفيلم في انتقاء أكثر اللقطات التاريخيّة المعبّرة عن بؤس اليهود ومعاناتهم الشديدة على يد النازيّين، كما عملوا على انتقاءٍ اجتزائيّ لموقف الرأي العام الدوليّ من قضية تقسيم فلسطين وتقاسم ترابها مع اليهود، حيث يرتفع صوتُ الدعم والمساندة، وتخفت أصوات الرفض والمعارضة، ممّا يشرّع – ولو ظاهريّا – موقف الكيان الصهيونيّ، ويلمّع صورته.  أمّا الملمح الثاني – السرديّ/ التشويقيّ أو بالأحرى التسويقيّ– فيبدو من خلاله الأبطالُ الصهاينة على غايةٍ من النبل الأخلاقيّ، والثبات على مبادئهم، وعدم المساومة أو التنازل عنها مهما كلّفهم هذا من تضحيات وعناء، يبدو هذا من عدّة نواحٍ، بعضّها يخصّ تضخيم قوة الجانب العربيّ/ الفلسطينيّ وتهويلها، ممّا يبدو مرارا على ألسنة هؤلاء الأبطال وحواراتهم: [نحتاج إلى معجزة/ العرب لديهم سلاحٌ كثير/ عددهم يفوقنا عشرات المرات/ إنّهم يحاصروننا...] كما يبدو أيضا من خلال الصورة وعمق تأثيرها، ففي الوقت الذي لا نكاد نرى فيه سوى ثلة متفرقة وضعيفة من اليهود المغلوبين على أمرهم، الجائعين والمنهكين، يبدو العرب/ الفلسطينيّون في غاية الارتياح والرفاهية، وسوء التدبير أيضا، الذي يجعلهم يغالون في المظاهر الاحتفاليّة/ الكرنفالية لدى تشييع جثمان المناضل "عبد القادر الحسيني" فيسمحون لأنفسهم بإهدار مئات الأعيرة الناريّة في الهواء، في الوقت الذي كان عليهم استغلالها ضدّ العدوّ. وهي الكرنفاليّة التي تعكس اعتماديّة الفرد العربيّ ومغالاته في تقديس زعمائه، إن لم نقل تأليههم؛ ففي حادثة مقتل الزعيم "الحسيني" تبدو الزمرة اليهوديّة قليلة العدد المتورطة في ذلك محاصَرةً، ومنهكَةً، وعلى يأسٍ شديدٍ من النجاة، في حين يبدو العرب في غاية السيطرة والقوة، ولكنّهم حال اكتشافهم موت القائد والزعيم ينهارون، وتخور قواهم، بل ينسحبون جميعا، ويتركون الفرصة سانحةً للعدوّ كي يهرب ويستجمع قواه! هذا دون أن ننسى ذلك التشويه المتعمّد والطمس المشبوه لكثيرٍ من الحقائق التاريخيّة المدوية، فلم يشر صنّاعُ هذا الفيلم إلا إشارةً عابرةً إلى مجازر اليهود وفظاعاتهم، وسلطوا الضوءَ باهرا على ما ارتكبه الفلسطينيّون، فبدت – على سبيل المثال – مجزرة دير ياسين الدامية سنة 1948، التي راح ضحيّتها مئات الفلسطينيّين الأبرياء من شيوخ وأطفال ونساء مجرد عدوانٍ بسيط ارتكبه بعضُ المتعصّبين ممّن لا يمثلون سوى أنفسهم، ولم يزد عددُ الضحايا فيه على بضعة أفراد متفرّقين هنا وهناك، وهو الأمر الذي يثير نقمة البطل اليهودي: "بوبي" الذي يبدو رافضا تماما هو وكثيرون مثله من اليهود لفكرة سفك الدماء أو العدوان على الطرف الفلسطيني، لأنّ غايتهم كما يرددون مرارا وتكرارا بمناسبةٍ ودونها هي: العيش بسلام!       
 وعلى المستوى العاطفي/ الرومانسيّ، الذي يُعدّ في هذا النوع من الأفلام بمثابة الغطاء التسويقيّ، الذي بفضله يتمّ تمريرُ الرسالة الإيديولوجيّة المضمَرة وتسريبُها، يمكن إسقاط الصورة النمطيّة نفسها، فيبدو اليهوديّ في عشقه وغراميّاته على غايةٍ من الصدق والنبل، فهو لا يُغرَم أبدا بفتاته لغرض اللهو وتمضية الوقت، بل يُغرم بها لأجل أن يتزوجها ويجعلها رفيقة دربه و"كفاحه" نلمس هذا لدى كلٍّ من: "جاكوب" الذي يُغرم بكاترين المسيحيّة – في أمريكا – ولا يرضى لهذا الغرام إلا أن ينتهي بخطوبةٍ ووعدٍ بالزواج، حال دونه موته على يد الفلسطينيّين. ورفيقه "بوبي" يعشق بصمتٍ صديقته الألمانيّة الناجية من محارق "هتلر" ولا يني يحميها، ويدافع عنها بشراسة، ويصرّ بشهامةٍ نادرةٍ على أن يتزوجها وهي تجود بأنفاسها الأخيرة بعد أن أصابتها نيرانُ الفلسطينيّين.  أمّا البطل الفلسطينيّ "سعيد" فلم يكن سوى شاب عابث، يُغرم كغيره بالشابات الأمريكيّات الجميلات، ولكنه لا يتصرّف كرجلٍ نبيلٍ أبدا، فلم تكن حبيبته الأمريكيّة سوى تسلية عابرة له، سرعان ما ينساها لدى عودته إلى الوطن، وكأنها لم تكن!
ولدى تعمّقنا في مواقف هؤلاء الأبطال الافتراضيّين، وفي مدى إخلاصهم لقضاياهم وثباتهم على مبادئهم، فإنّ الفرق يبدو شاسعا جدّا بين البطل اليهوديّ “بوبي” الذي يحافظ على مبادئه من جهةٍ، دون أن يتنكّر لإنسانيّته من جهة ثانية، فلا يحمل السلاحَ، ولا يطلق رصاصةً واحدةً إلا مضطرا، وهو منذ بداية الفيلم يؤمن بالسلام، ولا يني يدافع عنه بأقصى ما يمكن، عكس البطل العربيّ “سعيد” الذي يبدو في قمة التذبذب والتعثّر؛ فهو من جهةٍ صديقٌ حميمٌ لعدوّه اللدود، يلزم نفسه بالوفاء له، وعدم إيذائه، ومن جهةٍ ثانيةٍ هو ابن أخ زعيم الفلسطينيّين الأول: “عبد القادر الحسيني” يلزم نفسه بطاعة عمه حيّا، ومحاولة الثأر له بعد مقتله، فنجده متأرجحا بين مشاعر الصداقة العميقة التي يكنّها لعدوّه التاريخيّ: بوبي ورفاقه، وبين مشاعر العصبيّة العشائريّة نحو قومه، وبني جلدته، فنجده يعفو عن أعدائه ويذود عنهم، وفي الوقت نفسه يجنّد نفسَه سفيرا ضدّهم، بل يطلق النيران بضراوة عليهم، ويشعل فتيلَ القنبلة اليدويّة بيديْه كي تدمّرهم! ولعلّ في تذبذب مشاعر هذا البطل وعدم استقرارها إيماءٌ وإيحاءٌ بتذبذب نفس المثقف الفلسطينيّ وعدم ثباته مهما حاول على مبادئ السلم والحوار، وفي حال ثباته على أمرٍ ما فهو حتما: العنف والتخريب، كما هو حال شقيقه “أمين” الذي كان مثالا للصلابة والثبات، ولكنْ على القتل والإرهاب – حسب رؤية صنّاع هذا الفيلم طبعا –
وبعيدا عن هذه الخطابات الإيديولوجيّة المغرضة، التي توسّل الفيلم في سبيل إبرازها وتوصيلها بسلاح الكلمة والصورة والعاطفة والموسيقى، فقد كان كاتبُ السيناريو والمخرج والممثلون على غايةٍ من الحنكة والذكاء حين تفنّنوا في أنسنة الخصم – الفلسطينيّين – والتركيز على مواطن النبل والجمال فيه، بغية خلق توازنٍ دراميّ، والوصول إلى أقصى حدٍّ ممكنٍ من الإقناع والمصداقيّة، فليس الفلسطينيّون – حسب رؤيتهم – وحوشا لا ذرة للخير فيهم، بل هم بشرٌ عاديّون، كان من الممكن التعايشُ معهم ومصادقتهم، لولا تعصّبهم الأعمى، ومغالاتهم في التشبّث بأوهام الماضي وشعارات الزعماء، وهذا مع الأسف الشديد عكس ما تفعله بعضُ أفلامنا العربيّة المهتمة بالقضية نفسها، حيث المبالغة الشديدة في تبشيع صورة العدوّ – البشعة أصلا – والتهافت المرَضيّ على السخرية منه، وتحقيره، ورصد وحشيّته ودمويّته بشكلٍ تهويليّ، يجافي الواقع حتما، وينسف بالتالي أيّة محاولةٍ جادّةٍ نحو توعية الجمهور، وتبصيره بأهمية القضية وأبجديّاتها النضاليّة.
وعلى الرغم من هذا الجانب الفنيّ الإيجابيّ، فقد حفل هذا الفيلم ببعض الأخطاء التقنية الفادحة، أهمها عدم حديث العرب فيما بينهم بالعربيّة بل بالإنجليزيّة – ما عدا والدة سعيد التي أدّت دورها الفنّانة “ليليث نجار” – ممّا يحول دون تحقّق جانب التلقائيّة والعفوية، وهو الأمر الذي ربما نفسره بكون أغلب الممثلين في هذا الفيلم هم من غير العرب، فالبطل الأول “سعيد” أدّى دورَه الممثل الفرانكو مغربي “سعيد التغماوي” وعمّه “عبد القادر” أدّى دورَه الممثل البريطاني “بيتر بوليكاربو” ( Peter Polycarpou ) ولعلّ هذا راجعٌ إلى صعوبة إقناع ممثل عربيّ الهوية واللسان بالمساهمة في عملٍ عنصريّ/ مشبوه الإيديولوجيا كهذا، أو لعلّه يرجع إلى أسباب أخرى غير هذا.

الرجوع إلى الأعلى