هل يمكن حقًا أن نتحدث عن الكِتاب الأكثر مبيعًا (the Best-seller)، في (سياق جزائري عربي) ونحن نعلم أنّ أعلى سقف من حيث عدد الطبع لا يتجاوز في الغالب ألف نسخة؟ وهل الحديث عن الكُتب الأكثر بيعًا في العالم العربيّ، هي ظاهرة للتسويق فقط، وهي نادرة إن لم نقل أنّها غير موجودة أصلاً؟ فقط عددٌ قليل جدا من الكُتّاب من وصلت أعمالهم إلى عِدة طبعات ولاقت رواجًا كبيراً من ناحية المبيعات. الروايات والكُتب الأكثر مبيعًا، ظاهرة تحدث وتتحقق في العالم الغربي، في الضفة الأخرى، حيث هناك تقاليد في النشر والتسويق والترويج والقراءة والتناول الإعلامي. أمّا في عالمنا العربيّ، فالظاهرة ربّما لا تخرج عن سياق التمويه من أجل الترويج لبعض العناوين ليس إلاّ. حول هذا الشأن «الكُتب الأكثر مبيعًا»،
إستطلاع/ نـــوّارة لــحـــرش
كان ملف «كراس الثقافة» في عدد اليوم، مع بعض الكُتّاب والروائيين والنُقاد.

* محمّد الأمين بحري/ ناقد وباحث أكاديمي
الكِتاب الأكثر مبيعاً بقيمته الفنية لا باِنتشار عنوانه ورواج غلافه المُنمق كالبضاعة
ليستْ مسألة وصول الكِتاب إلى القارئ، قضية بيع سلعة وقبض ثمنها. وتحقيق ربح تجاري، كما يفهمها بعض سماسرة الكِتاب من المقاولين المُندسّين في ميدان الكِتاب، تحت جُبة ناشر، بل هي صناعة مزدوجة القيمة، صناعة في الرداءة والبزنسة، وصناعة في الجودة والاِحتراف. وكلّ من الصناعتين، لها فريقٌ متكاملٌ، بداية من الكاتب واِنتهاءً بالقارئ. في وقت صار مُعظم الكُتّاب يتقمصون دور النادل الّذي عليه أن يُحضر طلبية زبونه بحسب المواصفات المطلوبة من هذا الأخير. لذلك يُبرر النادل اِبتذال سلعته بمستوى طلبيات العوام من زبائنه. دون النظر في قيمة المادة التي يُقدمها لهم.
هكذا يبدأ الاِشتغال على إغراء القارئ بدايةً من عنوان الكِتاب، الّذي هو أوّل خِطابٍ إغوائي للناظرين. مروراً بتصميم الأغلفة، وعرض الواجهات في مواقع التواصل الاِجتماعي كي تصنع الجدل المأمول، عبر التعليقات والمُشاركات، وكذا إنشاء صفحات خاصة بتلك العناوين التي يبقى جُلُها للأسف مجرّد عناوين مُغلفة، أو أغلفة مُعنونة، تنطفئ بمجرّد اِنتهاء المُناسبة التي كُتبت من أجلها. لذلك يحرص أغلب صُناع العناوين أن يكونوا حاضرين كلّ سنة بعنوانٍ مُختلف. أمّا مُحتوى النصوص ومستواها، فقليل من يهتمُ بها أو يُفكرُ في ما تصنعه طروحاتها وإشكالاتها بين المُختصين والمُهتمين والمُثقفين على المستوى البعيد.
لذلك حَالَمَا يتم تفكيك النصوص، مهما كان مُستواها، من طرف قارئ حقيقي عابر، حتى تظهر الفروق الموضوعية فيما بينها من جهة، وبين أغلفتها وعناوينها من جهة ثانية.
أمّا الصناعة المُحترفة للكِتاب وفريقها المُتعدّد الاِختصاصات حسب اِختصاصات الكُتب التي تنشرها. فإنّ كاتبها هو من يصنع قُراءه، ودار النشر هي التي تستقطب أبرز الأقلام بإخضاعها لسُلم قيم مدروس، وسياسة نشر مُعلنة البنود، من تمرير مادتها على لجان قراءة فنية وتدقيق لغوي، ودراسة شاملة من مختلف النواحي، وقد يُرفض العمل أو يُقبل بالنظر لمستوى مُحتواه. ليكون خروج الكِتاب حدثاً ثقافياً، يكون ميزان الربح لفريقه معنوياً وثقافياً قبل أن يكون مادياً في سُلم الأولويات. وكلّ قيمة ثقافية مُميزة له تحمل تغذية راجعة للفريق بأسره.
وبالتالي يكون الكِتاب الأكثر مبيعاً. بقيمته الفنية، وتخصصه لدى الفئة المُحددة التي يتجه إليها، لا باِنتشار عنوانه المُبهجر كالإشاعة، ورواج غلافه المُنمق كالبضاعة. ختامًا، حتّى إن كُنا في عصر التعليب والتغليف (l’emballage)، كوسائل لترويج البضاعة وتوزيعها على أوسعِ نطاق، فإنّ العمل سينتهي في خِتام رحلته إلى جمارك القُراء لتفحص محتواه وتغربل مضمونه، وتفحص أصالة معدنه ومستوى أفكاره وإضافاته لمجاله، لذلك فالترويج الحقيقي، يكون بخلود العمل عبر الأجيال، مُرفقاً بقيمة مضافة لسمعة فريق صناعته بدايةً من الكاتب واِنتهاءً بالقارئ، مُخلفاً ورائه سماسرة السوق من تُجار الربح السريع، وباعة أكبر كمية في مُناسبة مُعينة، ثُمّ ينقرضون وتنقرض أخبارهم، وقد اِنكشفت سمعة صُناعه وفريقه، وذهبت ريحه كما مصير البضاعات المغشوشة.
التي ستعرف ترويجاً مُعاكساً لمهازل محتواها وصناعتها، ورداءة منتوجها وبضاعتها، ربّما يفوق الترويج لها في تلك المناسبة التي أشاعتها لأغراض تجارية، وطمعاً في جيوب القُراء (الزبائن). الذين سيتحولون هم أنفسهم من زبائن مُشترين، إلى زبائن مغدورين يُساهمون في الترويج المُعاكس، لفريق العمل المغشوش. وهذا أيضاً حق من حقوق القارئ، وجزء هام من قيمة الكِتاب الأكثر مبيعاً، الّذي سينتهي إلى مصيرين حتميين: فإن كانت صنعته محترفة ومحتواه أصيلاً اِنتهى إلى ترويجٍ مُضاعف، واِنتشارٍ دائم، وإن كان مُجرّد عنوان وغلاف فضفاض، فسيكون مآله ترويجاً مُعاكساً ينتهي مصيره ومصير فريقه إلى الزوال، ولو بعد حين. لأنّ قيمة الكِتاب لم تكن يوماً مادية كما يعتقد مقاولو النشر، وأنّ قيمته الراجعة يُحددها قُراء المحتوى لا قُراء العناوين والأغلفة المُنتشرة في كلّ مكان.

* محمّد معتصم/ ناقد أدبي مغربي
مفهوم غير دقيق ولا يدل على معناه في العالم العربي
الكُتب الأكثر بيعًا ورواجًا والتي تحتل رأس قوائم البيع في المعارض الدولية والمحلية والمكتبات ووسائل الإعلام الثقافي، تشترط سقفًا مُحددًا يُوافق مُعدل القراءة في كلّ بلد على حِدة نظرا لاِختلاف مُستويات القراءة، ولا يمكن اِعتبار كتَابٍ على رأس قوائم الكُتب الرائجة من نوع (The best- seller) بمعناها الدقيق، وهو معنى الأفضلية على كُتبٍ مُنافسة في الموضوع والمجال في سياق التقسيم العادل بين ذائقة القُراء في الكُتب الثقافيّة، وهو سياق يختلف عن سياق الكُتب المُقرَّرة على المُتعلمين في مُختلف الأسلاك التعليمية، نظرا لوجود مُتغيرات جوهرية وأخرى ذاتية تتحكمُ في اِرتفاع واِنخفاض البيع والتلقي.
ونحن في العالم العربي نجد أولا عوائق بنيوية وجيوسياسيّة ينبغي تجاوزها للتمكن من الحديث عن كُتب أكثر بيعًا وانتشارا وتأثيرا في محيطها ومرحلتها ثقافيًا وفكريًا وأدبيًا، ومن تلك العوائق مُشكلة اِنخفاض مستوى القراءة والإقبال على اِقتناء الكُتب الورقية، مِمَّا يدل على أنّ هذه الظاهرة ليست معضلة جذرية، وليست بنيوية ترتبط بالقارئ أساسًا، بل هي قضية مُفتعلة، وتتسبب فيها السياسات العمومية والقرارات السياسيّة الرسميّة، التي تحط من قدر الإنسان (المواطنين) قبل أن تحط من قدر ما يُنتجه عقله المُفكر والمُبتكر المبدع، ومن البراهين الأكثر بروزا على أنّ مشكلة القراءة والتعليم مشكلة مُفتعلة وتقف وراءها قرارات سياسيّة، إقبال القُراء من مُختلف الأعمار والمستويات التعليميّة على اِقتناء الكُتب المُقرصنة والمنسوخة المعروضة على قارعة الطُرق والمكتبات الطارئة المُتجولة وإقبالهم على الكُتب المصورة إلكترونيًا خاصة في بُعْدِ وصِيغَةِ الـ(PDF) التي تُغطي مساحات هامة من شبكة الإنترنيت الدولية وفي مُختلف اللغات، بالرغم من حظرها قانونيًا. يُضاف إليها ربّما تشرذم الناشرين وغياب رؤية إستراتيجية مُوحدة للنهوض بالكِتاب وصناعته والبحث عن أسواق قريبة من مختلف الفئات العمرية القارئة بالموازاة من المعارض الدولية التي يشتكي الجمهور الزائر عادة من اِرتفاع أسعار الكِتاب فيها عنه في الخارج بالمكتبات. وهُنا العائق الثاني في العالم العربي في أغلب الدول، والمُتمثل في التفاوت الهائل بين القدرة الشرائية ومستوى العيش لدى القُراء وتكلفة الكُتب. لذلك يبقى مفهوم الكُتب الأكثر بيعًا في العالم العربي غير دقيق ولا يدل على معناه، ولكنّه يؤدي وظيفة إعلانية وإشهارية لكِتابٍ بعينه، والسبب أنّ وجود كِتابٍ على رأس قائمة الكُتب في مكتبةٍ مُعينة أو معرضٍ من المعارض لا يدل على أنّه كِتاب مُميز ومُؤثر في محيطه ومجاله ومرحلته، لأنّ الكُتب التي تُعدُ عادةً (The best-seller) في الدول التي تُدْخِلُ مؤسسات صناعة الكِتاب عندها في دورة الإنتاج الاِقتصادي للدولة وفي اِستراتيجيّاتها الثقافيّة العموميّة والدوليّة تجَنِّدُ لذلك آلتها الإعلامية الضخمة فتنشر أغلفة الكُتب في مُلصقات إشهارية في الجامعات والطُرق والمجلات ومحلات البيع، وتُنظم لقاءاتٍ وحواراتٍ في القنوات الإذاعية والتلفزيونية وعلى مواقع شبكة الإنترنيت، بل تُراسل الأشخاص الذاتيين على الإيمايل (البريد الإلكتروني) الشخصي للتعريف بالكِتاب والتحفيز على اِقتنائه أو الاِطلاع عليه أو جزء منه إلكترونيًا، ثمّ نجد أنّ أغلب الكُتب وخاصة الروايات الأمريكية التي حققت درجة (The best-seller) قد تحوّلت إلى أفلامٍ ناجحة زادت الإقبال على قراءة الكِتاب، والأهم أنّ المسموع والمرئيَّ والحركيَّ (السينما) تزيد من قيمة المقروء والمكتوب وتحفزُ على تأكيد قدره وقُدرتهِ على التعبير وعلى التخييل، وإشراك الذات (القارئة) في إعادة إنتاج المعرفة والمُتعة والقيمة. قد يكون الجواب ها هنا مُتمثلا في الإقبال على كُتب وروايات نجيب محفوظ، ذلك الإقبال الّذي لم نعد نراه الآن. بالرغم من نشر نسخ كثيرة جدا من خلال إعادة نشر كُتب قديمة مُلحقة ببعض المجلات وقد سبقت هذه التجربة تجربة «كِتاب في جريدة».إذن، علينا فهم وظيفة مفهوم (الكُتب الأكثر بيعًا) في سياق الإعلان الإشهاري المحدود بشروط العوائق البنيوية والجيو سياسية (géopolitique) للبلدان العربيّة ولعقلية الخوف من المعرفة والاِحتراز الأمني. إنّه مفهوم وظيفي لا غير، وليس معيارا للقياس على الجودة وتحسن مستوى القراءة والتشجيع عليها.

* الصديق حاج أحمد/ روائي
لا يمكن الوقوف على صدقية إدعاء وزعم مقولة الأكثر بيعًا
مع نهاية صالون الكِتاب من كلّ عام، تُثار مُساجلة الأكثر مبيعًا، أو نفدت النُسخ عن آخرها.. وهو سجالٌ يعكس القواعد الخلفية للكِتاب. أعتقد أنّ ثقافة البيع بالتوقيع، والعلاقة الروحية بين القارئ والكاتب تكاد تكون غائبة، عكس الغرب، فالكاتب له جمهوره ومحبوه، بحيث تصبح مراهنة دار النشر على الكاتب المُستقطب، مراهنةً حقيقية وموضوعية، لذلك نجد بعض الدور الغربية، تُصدِر لبعض الكُتّاب في الطبعة الأولى 50000 نسخة، تأكلها الجيوب بشغفٍ ومجاعة تطلب المزيد.. بينما في عالمنا العربي، ووسطنا الثقافي الجزائري، تبدو القضية فيها بعض المُناورة الخادعة من الكاتب والناشر على حدٍ سواء، فالكاتب يُعلن سقف مبيعاته، ويسكت الناشر عن الخديعة؛ لأنّه يراها دعاية مجانية لكيسه، بحيث تصبح المُعادلة مقلوبة، فبدلاً من قيام الناشر بالدعاية للكِتاب وصاحبه، ينخرط الكاتب دون وعي في هذه الدعاية لكِتابه بالنفاد وكثرة الطلب. لنكُن موضوعيين، ومع كسل القارئ الجزائري وتبرمه من ملامسة مادة الورق، وهو أمرٌ نلحظه في محطات القطار والنقل البري والجوي. أذكر أنّي دائمًا في الطائرة أو القطار أو الحافلة، أكاد أجد نفسي وحيدًا في مغازلة القراءة، في الشمال والجنوب، في الشرق والغرب، أمّا والحال هكذا، كيف نُـفسر الأكثر مبيعًا، أو النفاد، ولربّما قد يكون الأمر شبه معقول لكاتبٍ مُكرس، دون الحديث عن كاتب مغمور يزعم ذلك.
لا تفسير يُبرر ذلك وينطق بصدقية المُفاعلة الشرائية للكِتاب، إلاّ بأمر خادع مخدوع، كأن تكون النصرة للكاتب مثلا، ثأرا لجيلٍ على جيل، وهو أقرب اِحتمال عندي، بحيث أصبحنا نرى تزاحم الشباب على كاتب شاب، دون وجود كهل أو شيخ بين تلك الفئة، مِمّا يعبث بصدقية المقروئية، الّتي يفرضها المنطق القرائي، غير المحكوم بالعُمر والفئة، أو يمكننا اللجوء إلى دعاية الميديا عن طريق المجموعات التواصلية المغلقة بين أعضائها.
في كلّ الحالات تبقى الظاهرة غامضة، والتسرع في حكمها سلبًا أو إيجابًا، فيه مخاطرة التظلم، بيدَ أنّ الشكّ والريب يبقى قائمًا كذلك من جهة الحرس القديم، في المناورة بتكذيب هذه النِسب، حتّى يبقى متربعًا على العرش، والحق يُذكر، أنّ فئة الشباب كتمظهرٍ لافت، بدت أكثر مُنافحة ومُناصرة بالشراء لكِتاب جيلها من الجيل المُكرس، كيف ذلك ولماذا؟ هنا يبقى السؤال مطروحًا..
أعتقد جازمًا أنّه لا يمكن الوقوف على صدقية إدعاء وزعم مقولة الأكثر بيعًا، أو نفدت النسخ عن آخرها، إلاّ بوضع آليات رقابية مُشددة في إحصاء دخول أي مادة ورقية لدور النشر، من طرف إدارة المعرض، ومعاودة جرّد المُتبقي منها عند الخروج، بهذه الوسيلة الإجرائية، يُمكنها وبكلّ يُسر وسهولة، أن تقدم لنا إدارة المعرض إحصاءً، لأكبر دار باعت كُتبًا، وأكبر كِتابٍ بيع، دون اللجوء إلى هذه المُمارسات الغوغائية.

* عزت القمحاوي/ روائي مصري
الكِتاب الأكثر مبيعًا هو الأقل عُمقًا والأضعف في مواجهة اِختبار الزمن
بالطبع ظاهرة الأكثر مبيعًا موجودة وكانت موجودة في الثقافة العربية. ولأنّنا نقول «الأكثر مبيعًا» وليس «الرائج» فالتعبير لا غُبار عليه لأنّه يستند إلى فكرة النسبية. وصحيح أنّ مبيعات كُتب الأدب في أغلبها تدور حول الألف والثلاثة آلاف نسخة، لكن هناك كُتبٌ تتجاوز العشرة آلاف، وبهذا فهي الأكثر مبيعًا. ولكن؛ بِمّا أنّ أخبار رواج سلعة ما أو كِتاب ما يؤدي إلى مزيد من الرواج فالأمر مُغرٍ ويقود إلى بعض المُبالغات وبعض الكذب. بعض الناشرين يُروجون أخبارًا مُبالغًا فيها بشأن توزيع الكُتب التي ينشرونها، وبعضهم يعمد إلى طبعاتٍ مُتعددة قليلة العدد، فيستدرج القارئ إلى رواية عندما يرى على الغلاف رقم الطبعة الخامسة أو حتّى العاشرة، وهو لا يعرف أنّ كلّ طبعة من طبعاتها خمسمائة نسخة وأحيانًا أقل.
في كلّ الأحوال الكِتاب الأكثر مبيعًا هو الأقل عُمقًا والأضعف في مواجهة اِختبار الزمن، ولذلك فالناشر المُصاب بهوس «الأكثر مبيعًا» أكثر اِتساقًا مع نفسه وأكثر صدقًا، هو يُقدم سلعة يُريدها رائجة، المُشكلة لدى الكاتب؛ فهو يُريد أن يتباهى برواج كِتابه وفي الوقت ذاته يخشى إشارة الخفة التي يتضمنها مبدأ الرواج!
على أية حال، لقد عبَّرتُ في مناسبات مختلفة عن اِرتياحي لوجود ظاهرة الـBest -seller التي هي من صميم الحياة الثقافية؛ فهي تجعل من القراءة عادة منتشرة على نطاقٍ واسع، وبعد ذلك ترتقي مهارات نخبة من القاعدة الواسعة التي تقرأ الكُتب الأكثر رواجًا، وتُقبِل على الكتابة الأعلى قيمةً.
الظاهرة الأسوأ من الكُتب الأكثر مبيعًا هي ظاهرة «الكاتب الشائعة» الّذي يُعد كاتبًا كبيرًا عبر لُعبة إيهام يصنعها بالتواجد الدائم في مهرجانات الأدب ومساندة حلقة ضيقة من النُقاد واِستئجار مروجين على تطبيقات التواصل الاِجتماعي، هذا الكاتب الشائعة يمضي دون اِختبار، دون أن تستوقفه لجنة من شرطة مرور الأدب في أي مكان لتسأله عن أوراقه، وهو غير مقروء على أي نحو لكي يستوقفه عموم القراء ليسائِلوه، بل على العكس، تتضخم شائعته كلما تضخمت سلطة شهرته ونجوميته إلى حدٍ يستحي معه الذين يجهلونه من إظهار جهلهم به؛ فيدعون كما يدعي غيرهم أنّهم معجبون بكتاباته.
لو كنتُ ناقدًا لأشرتُ بالأسماء إلى من أعنيهم من الكُتّاب الشائعات، لكنّني طرف، وهناك شبه تداخل المصالح التي يجب أن تجعلني أتنحى عن القضية للنقاد (قُضاة الأدب) الذين يجب أن يتصدوا لهذه القضية المسيئة إلى واقع ومستقبل الكتابة.

* بومدين بلكبير/ كاتب و أكاديمي
الحديث عن الظاهرة في الجزائر والمنطقة العربية مجرّد لغو
أعتقد أنَّ الحديث عن «الكُتب الأكثر مبيعًا» في الجزائر أو المنطقة العربية هو مجرّد لغو، أو كلام منفصل عن واقع ومعطيات المناخ الثقافي، وهو يُشبه الحديث عن ملابس البحر في الصحراء! ومن الاِستحالة بمكان اِستنساخ هذه الظاهرة الغربية، المُرتبطة بتقاليد راسخة في صناعة الكِتاب والمقروئية، في بيئة غير مُتصالحة مع الكِتاب، وترتابُ من كلّ ما يمتُّ للثقافةِ من صلة. وبتعبيرٍ آخر، يمكن القول أنّ فِعل القراءة في الدول الغربية رديفٌ للحياة، فالإنسان الغربي يقرأ في البيت، وفي القطار، والميترو، وفي قاعة اِنتظار طبيب الأسنان، وفي الحدائق، وفي كلّ مكان قابل للمُطالعة، في حين أنَّ الكِتاب بقي يتيمًا في بُلداننا، على الرغم من صحوة القراءة مؤخرًا لدى بعض فِئات الشباب، بفضل وسائل التواصل الاِجتماعي، لكنّها تُعتبر غير كافية، وتبقى أسيرة الكُتب المُقرصنة أو نسخ «البي دي آف» المُسربة على النت، والتي لا تخدم لا المُؤلف، ولا النّاشر، ولا المشهد الثقافي ككلّ.
سوق الكِتاب في الغرب صناعة مُنظمة تَدرُّ الملايين، في حين في المنطقة العربية يمكن اِعتبار الأمر (في غالب الأحيان) بمثابة «بازار» أو «كرنفال ثقافي»، تعوزه الاِحترافية، ويتصف بالفوضى، والظرفية، والعبثية، فهو في الغالب لا يخضع للقوانين والمعايير المُتعارف عليها عالميًا.
هناك قوائم أسبوعية في أمريكا والدول المُتقدمة الأخرى لترتيب «الكُتب الأكثر مبيعًا»، وحتّى في المعارض الدولية للكِتاب كمعرض فرانكفورت وغيره، تُعطى أرقام رسميّة «للكُتب الأكثر مبيعًا» باِعتماد أدوات دقيقة للقياس، وتتمتع في ذات الوقت بدرجة موثوقية عالية، في حين الأمر بالمنطقة العربية ما زال بعيدا عن المعايير الموضوعية، يخضع للذاتية، ولمجرّد تصريحات وأرقام هنا وهناك، لا أحد بإمكانه التعليق عليها، أو تأكيد صحتها من عدمه.
حتّى الكُتب التي رُشحت للقوائم الطويلة أو القصيرة أو نالت جوائز عربية (محلية/قطرية)، أغلبها لم تنفد طبعتها الأولى (في الأغلب لا تتجاوز الألف نسخة). على عكس الجوائز العالمية كــ»المان بوكر»، و»الغونكور» (الرمزية المكافأة)، و»البوليتزر»، وغيرها من الجوائز الأخرى التي تُساهم في رفع مقروئية الأعمال وزيادة مُستويات مبيعاتها بشكلٍ كبيرٍ وفارق.
وعلى سبيل المثال (لا الحصر) تجاوزت مبيعات رواية مرغريت أتوود «الوصايا» المائة ألف نسخة في الأسبوع الأوّل فقط من نشرها ببريطانيا، لما كانت في القائمة القصيرة للمان بوكر2019، لتنال البوكر مناصفة بعد شهر تقريبًا.
كما يمكن في هذا الصدد الحديث عن تمييع المشهد الثقافي، وتحديدا نشر الكِتاب الإبداعي، إذ ظهرت مؤخرا دور نشر لا تمتلك رسالة ورؤية وأهداف ثقافية، الغرض الوحيد من نشاطها هو التربح والتجارة على حساب جودة الأعمال؛ حيث تستقبل مخطوطات من كُتّاب مبتدئين ومُراهقين دون أدنى مُراجعة أو تدقيق أو حتّى تقييم لمحتويات تلك الأعمال المُرشحة للنشر. والمُفارقة أنّها تأخذ مبالغ باهظة على أصحاب تلك المخطوطات مُقابل نشر مئة نسخة أو مائتين فقط، دون أن تتكفل بتوزيعها أو ترويجها، بل تترك الأمر كلّه على عاتق كاتبها.
وعلى الرغم من أهمية «البيست سيلر» في الدول الغربية في تحقيق أرقام فلكية وترويج الكِتاب على نطاقٍ واسع كما سبق وتحدثنا، إلاّ أنّ الأمر لا يخلو عندهم من النقد اللاذع؛ فقد نشر الصحافي الإيطالي (ريكاردو بوزي) كِتابًا لافتًا بعنوان: «عزيزي الكاتب»، اِنتقدَ فيه بمزيد من الفُكاهة والسخرية تصنيفات «الكُتب الأكثر مبيعًا». كما أنّ هناك اِنتقادات كبيرة لتراجع مداخيل الكُتّاب في بعض الدول الغربية، مُقابل اِرتفاع نِسب الكُتب المُباعة من سنة لأخرى بشكلٍ لافت، وتزايد إيرادات وهوامش أرباح الناشرين دون أن تمس تلك الزيادات المؤلفين؛ إذ اِنتقدت (جمعية المؤلفين) في بريطانيا قبل فترة مُمارسات دُور النشر ومُعاناة الكُتّاب، حتّى أصحاب «الكُتب الأكثر مبيعًا» يتلقون مَبالغَ زهيدة من ناشريهم الذين يستحوذون على الجزء الأكبر من نسبة المبيعات. وقد كشفت الاِستطلاعات هناك أنّ الناشرين يأخذون ثلاثة أضعاف ما يحصل عليه المُؤلف من إيرادات كُتبه. ومن جهة أخرى لا يعني دومًا اِنتشار الكِتاب ورواجه القيمة الفنية والإبداعية، فنسبة مهمة من الكُتب «الأكثر مبيعًا» تفتقد للجودة، وهي إمّا كُتبٌ رديئة أو خفيفة وسطحية تعتمد على الإثارة والمزيج التسويقي المُكثف. كما يُمكننا التنويه بمساهمات الناقد الثقافي (جون ساندرلاند) حول ظاهرة «البيست سيلر»، إذ اِعتبر أنّ «الكُتب الأكثر مبيعاً» على الأرجح تنتشر لأسباب «غير فنية» محكومة بظرفٍ اِقتصادي أو سياسي أو مزاج عام يتوق إلى التغيير، كما أضاف أنّ هذه الكُتب، على اِنتشارها الواسع، قصيرة العُمر، لا تعيش طويلاً، رهانها الوحيد الضجة الآنية لا الديمومة.

* محمّد الأصفر/ روائي ليبي
في الوطن العربي لا يوجد بيست سيلر بشكلٍ مُقنع
عندما تزور معرض كِتاب عربي وترى حفلات التوقيع لدى دور النشر المُشاركة، يلفت نظرك عدم وجود «طابور» على الكاتب الّذي يُوقع كِتابه. تجده جالسًا وحيدًا وإلى جانبه باقة ورد وعِدة نُسخٍ من كِتابه، مع زجاجة ماء وفنجان قهوة باردة، وبين الحين والآخر يأتي إليه صديقٌ كاتب أو زميل له فيهدي له نسخة ويلتقط معه صورة ينشرها مُباشرة في شبكة المعلومات، أو تأتي إليه أسرته إن كان من نفس المدينة المُقام فيها المعرض لتشاركه عرسه وتفخر به. كِتابه قيم نعم وبذل فيه جهدا كبيرا، وحرص الناشر أن يُخرجه في أجمل حلة كما يقولون، فلم يبخل على الغلاف بالتصميم الجيد والورق الجيد، وفي كلّ الأحوال يجلس الكاتب إلى جانب كِتابه لساعتين أو ثلاثة فيوزع بالأكثر عشر نسخ مُعظمها لأصدقاء هاتفهم مُسبقا ودعاهم للحضور وأعطاهم رقم الجناح.
قِلة قليلة من الكُتّاب تجد حول طاولتهم بعض الزحام من قِبل قُراء أحضرهم الفضول، قُراء يُحبون رؤية الكاتب الّذي حصل على بعض الشهرة من خلال جائزة رتب لينالها أو كِتابٍ أثار جدلا في الإعلام، وذلك لاِلتقاط الصور معه دون قراءة لكتابه بالطبع.
في الوطن العربي لا يوجد بيست سيلر بشكلٍ مُقنع، وأغلب ما نجده مكتوبًا على الروايات مثلا أنّها الطبعة الرابعة أو الخامسة هو تحايلٌ من دور النشر حتّى يُرَّغِبُونَ الزبون في شراء الكِتاب، ولو كان الكِتاب فعلا طُبع منه أكثر من ألف نسخة ونفدت من المعارض أو المكتبات ما كان المؤلفون يشتكون من عدم وجود دخل أو إيراد مالي تمنحه لهم دور النشر. معظم دور النشر تقول للكاتب كِتابك نائم لا يوجد إقبالٌ عليه، وإن فعلا باعوا منه كمية كبيرة فسيقولون له يوجد تالف ومُسترجع ومكتبات لم تُسدِد لنا الثمن بعد. وتوجد أيضا مصاريف دعاية وترويج للكِتاب ولم يتبقَ من فائض الربح إلاّ القليل ليطلع في النهاية صبّاغ دحي أي بخفي حنين، والأدهى من ذلك يُقنعونه أنّ المهم أنّ كتابه وزع وأنّه صار مشهورا والمكاسب المالية ستأتي لاحقا بالهبل من خلال الجوائز والترجمة وتحويل الكِتاب إلى أفلام ومسرحيات، وبالطبع الكاتب ليس لديه الوقت للتخاصم مع تُجار الحبر هؤلاء، وأيضا لعدم وجود «وكيل أدبي» له مثلما في أوروبا يهتم بالتعاقدات ويحل مثل هذه المسائل الشائكة ويحفظ حق الكاتب بطُرق قانونية لا يمكن لدار النشر أن تعبث معها.
حضرتُ عِدة معارض في ألمانيا وإسبانيا ورأيتُ فعلا الكُتب الأكثر مبيعًا، حيث تجد طابورا يمتدُّ إلى مئات الأمتار للحصول على نسخة مُوقعة من الكاتب بعد دفع ثمنها نقدا أو ببطاقة الاِئتمان، أيضا في مكتبات ألمانيا تجد رفًا عليه الكُتب الأكثر مبيعًا وهذا الرف يتغير أسبوعيًا وشهريًا، فليس كلّ كِتاب يصمد طويلا في القائمة ويبقى على الرف، فكلّ أسبوع هناك كُتبٌ أخرى تُحقق مبيعات كبيرة فتزيحه وتأخذ مكانها في الرف.
وفي كلّ الأحوال علينا أن نُفرق بين الكِتاب الأكثر مبيعًا والكِتاب الأكثر قراءة والكِتاب الأكثر قيمة، وغالبًا ما يكون الكِتاب الأكثر قيمة مبيعاته قليلة، والأكثر قراءة مُعظم قراءاته تتمّ اِلكترونيًا عبر الــ(PDF) أو يكون كِتابًا كلاسيكيًا قديمًا لا يتوقف القُراء عن قراءته يوميًا. بينما الكِتاب الأكثر مبيعًا في الوقت الحالي قد تكون قيمته الفنيّة متدنيّة يُستهلكُ بشكلٍ سريع كسندوتش ويُرمى به جانبًا.

الرجوع إلى الأعلى