الجدل اللّغوي قاعدةٌ تجارية لأطراف تسعى إلى التّموقع والهيمنة
يتحدث الكاتب الجزائري المقيم في كندا، صلاح شكيرو، في هذا الحوار مع النصر عن روايته الجديدة “هل تذكرتني” وعن الطريقة الخاصة التي اعتمدها في كتابتها، حيث يعود فيها إلى موضوع المصالحة الوطنية، كما يعتبر أن قسنطينة مهمّشة مقارنة بمدن أخرى من الجزائر، في حين يقدم رأيه حول الجدل اللغوي الذي عاد إلى السطح خلال الحراك الشعبي ويعتبر أنه نقاش خاطئ تتدافع فيه أطراف متصارعة بغرض بسط هيمنتها والتموقع، كما يصف الكتابات الصادرة اليوم حول مرحلة الرئيس السابق بـ“الموضة” بعد حديثه عن رواية “إمبراطورية الرمال” التي طرد بسببها من وظيفته وتعرضت للحرق. النصر التقت بصلاح شكيرو خلال توقيعه لروايته الجديدة في دار “ميديا بلوس” للنشر بقسنطينة.
حاوره: سامي حبّاطي
lكيف بدأت كتابة روايتك الجديدة ؟  
انطلقت روايتي الجديدة، في الأصل، من مشروع سيناريو حول موضوع اتّفقت عليه مع المخرج رشيد بن حاج المقيم بإيطاليا، حيث راسلني ذات يوم وعبّر عن رغبته في اقتباس إحدى رواياتي في فيلم، لكنّه أخبرني أن الحقوق المادية للرواية التي أعجبته من أعمالي مرتفعة وذكر لي أنه لا يستطيع تحمل مسؤولية المصاريف، لذلك طلب مني كتابة قصة فيلم بميزانية متوسطة فوافقت، ثم طلب رأيي في موضوع المصالحة الوطنية. وقد أكدت لرشيد بن حاج أن كتابتي حول هذا الموضوع لن تُغفل أنه لا مصالحة وطنية مع غياب العدالة وتغييب الحقيقة، وهكذا كان اتفاقنا.
عدت إلى بيتي وتحدثت إلى ابنتي التي تعمل طبيبة أسنان في كندا، وتملك ذوقا فنيا عاليا جدا، بالإضافة إلى اطلاعها الواسع في ميدان السينما، لذلك استشرتها في الخطوط العريضة التي تصورتها للسيناريو، ليرسل لي بن حاج في اليوم الموالي رسالة إلكترونية تحمل نفس النقاط التي تحدثت بشأنها مع ابنتي، وقد اتخذت هذا الأمر كإشارة على أننا نسير في اتجاه واحد. باشرت إنجاز السيناريو، ثم دفعتني ظروف تقنية إلى إتمام الرواية على أن أعود للسيناريو لاحقا.
كتبت هذه الرواية بطريقة خاصة نوعا ما، وقدمتها لناشر كندي وهي مبرمجة للصدور بكندا في شهر جانفي القادم. الناشر أعجب بها كثيرا واعتبرها “نجمة صغيرة”، وقد تعجبت ممن اقتنوها من الصالون الدولي للكتاب وعادوا في اليوم الموالي بعدما فرغوا من قراءتها، لأنها سهلة للقراءة في الحقيقة، فقد تفاديت الطريقة الكلاسيكية والفصول الطويلة، ليتمكن القارئ من إعادة تشكيلها كاملة عند الانتهاء من جميع صفحاتها، ويمكنك القول إنها تفاعلية نوعا ما.
lوهل يمكن أن تطلعنا على الحكاية التي تدور حولها؟
تعود هذه الرواية إلى السنوات الحمراء التي عاشتها الجزائر، فبطلتها ضحية للإرهاب تجد نفسها بفعل الصّدفة في مواجهة جلادها السابق بعد خمسة عشر سنة، حيث تنقلب الموازين، وهي تصور المواجهة بين الخير والشر وبين الإسلام الأصولي والإسلام المتسامح، كما أنها قصة حب وانتقام وسماحة، ويمكنني القول إنها مليئة بمشاعر مختلفة.
الناشر الكندي اعتبر روايتي الجديدة «نجمة صغيرة»
lنلاحظ تركيز الأدب الجزائري على مرحلتين في تاريخ البلاد وهما الثورة التحريرية ثم العشرية السوداء وكأن ما بينهما فراغ تام. في رأيك ككاتب، لم هذا التركيز على هذين المرحلتين وهل ما بينهما لا يستحق أن نستعيده فنيا ؟
السؤال وجيه، ومعك حق في الإشارة إليه، لكن يجب ألا ننسى أن الشعب الجزائري عاش أربعة حروب في ظرف قرن واحد، الحربين العالميتين والثورة والعشرية السوداء، التي تمثل حربا أهلية في الحقيقة، لذلك ينبغي ألا نُهمل الآثار التي تركتها هذه الحروب، كما أن الشعوب التي عاشت مثل هذه الأحداث قليلة، وأرى أننا لم نعط القيمة الكافية للجهد الذي بذله الشعب الجزائري والمعاناة التي عاشها. نسبيا، أنا شاب مقارنة بآخرين، لكن صورًا من مرحلة الاستعمار ما زالت راسخة في ذاكرتي، مثل الجزائريين الذين كانوا يتغذون على “تالغودة” وهي العُروق اليابسة للأشجار التي كانوا يقتلعونها لأكلها.
الأدب يفضّل دائما الحدث الطاغي على الحدث العادي، ورغم أن الحياة اليومية تضم المئات من القصص التي يمكن أن نجعل منها أدبا، إلا أن الكتّاب يختارون عادة مواضيع تترك علامة فارقة في المِخيال الجماعي من أجل اجتذاب القارئ، الذي لا ينبغي أن نتوقف عند إبلاغه رسالة ما، وإنما يجب أن نلفت انتباهه ونجعله يهتم بالموضوع ثم نوصل رسالتنا بعد ذلك.
بالنسبة إليّ، لا يزعجني أبدا أن أكتب حول العشرية السوداء، وأنا أُعِدّ حاليا مشروعا حول الحراك الشعبي الذي ما زلنا نعيشه إلى غاية اليوم، كما أنني أصدرت رواية “الانكشاري” التي تتحدث عن الحراك في سبتمبر 2018، وكنت أتحدث عما يحدث الآن، وذلك مأخوذ مما نعيشه كل يوم. وقد تصادف أن تدور جميع أحداث “الانكشاري” في قسنطينة، حيث تنطلق من رحبة الجمال.
رواية «الانكشاري» تحدثت عن الحراك الشعبي في 2018
مدينة قسنطينة لم تنل حقها رغم أنها أنجبت كتابا كبارا واحتضنت آخرين درسوا وعاشوا فيها، لكنها تبقى مهمشة مقارنة بمدن أخرى.
lولم هي مهمشة في رأيك ؟
لا أعلم بالتحديد، لكن الكثير من الأحداث قد وقعت تاريخيا وأبقت على قسنطينة كما هي اليوم، ويمكن أن نحمل المسؤولية لأهلها أيضا، رغم أنّها مُفعمة بالتاريخ، فضلا عن أنها المدينة الأم للكثير من الروائع والإبداعات.
lنعود إلى حديثك عن مشروعك للكتابة حول الحراك، هل ترى أن المسافة الكافية لتحليل الحراك الشعبي وفهمه جيدا متوفرة حتى نتمكن من الكتابة عنه؟
أظن أن المسافة ليست متوفرة حاليا، لكن يجب أن أصحح شيئا، فعندما أقول إنني سأكتب حول الحراك الشعبي، لا أقصد بذلك نصوصا تحليلية أو مقالات، وهذا ليس مجالي وأنا لا أتدخل إلا فيما يعنيني. أقصد بحديثي الكتابة بطريقة فنية، ويمكن أن يكون هذا فرصة للحديث عن الكثير من الأشياء، من بينها المشاكل التي يعيشها المجتمع بصفة عامة، كما أن رواية “الانكشاري” هي الأولى التي تتطرق للثورة في الشمال القسنطيني ولـ”معركة قسنطينة”، التي لم يتم التطرق إليها أدبيا من قبل.
«معركة قسنطينة» في الثورة التحريرية أعظم من «معركة الجزائر»
lهل تقصد معركة قسنطينة خلال الثورة التحريرية ؟
نعم بكل تأكيد، وهي أعظم وأروع من “معركة الجزائر”، وقد حصلت فيها أشياء رائعة من الجانب الإنساني، لكننا لا نتحدث عنها للأسف، وقد سعيت إلى التحدث حول الثورة في الشمال القسنطيني من خلال الحياة اليومية للأشخاص العاديين وزيغود يوسف الذي ظُلم في رأيي في الكثير من الجوانب.
lنلاحظ أنك متعلق بقسنطينة، هل هناك شيء خاص يربطك بها؟
أنا ابن المنطقة ! لقد ولدت في منطقة «رجاص» وأتذكر خلال طفولتي أننا كنا نقول إننا ذاهبون «للبلاد» عندما نقصد قسنطينة، لذلك من الطبيعي أن يغلب علينا الحنين عندما نتجاوز سن السادسة والستين، لكنني أحاول أن أتسلح دائما برؤية نقدية للأمور، ولا أقول بأي حال من الأحوال أنني أعرف المجتمع القسنطيني اليوم، خصوصا وأنني أعيش بعيدا منذ مدة، لكن قسنطينة تظل مدينة قابلة للعمل الإبداعي والفني.
lنشرت لك رواية «إمبراطوريّة الرّمال» في سنة 2008 وتحدثت فيها عن قضية الخليفة في زمن كانت فيه فئة قليلة فقط ممن يجرؤون على الحديث عن هذه الفضائح. هل واجهتك مشاكل بسبب هذا الكتاب؟
بطبيعة الحال، ولا أبكي حالي اليوم بسبب هذا، ولو عاد الزمن بي إلى الوراء لكررت نفس الأمر ونشرت الكتاب.
lهل يمكن أن تحدثنا عن بعض المشاكل التي واجهتك ؟
على سبيل المثال، علمت أن الكتاب قد اقتني من المكتبات والموزعين وأحرق بعد ذلك، ولم يتحدث أحد عما وقع آنذاك، باستثناء صحفي الوطن مدي عدلان، الذي تجرأ وكتب بضعة أسطر في تغطيته للصالون الدولي للكتاب أشار فيها إلى أن روايتي باللغة الفرنسية من بين العناوين الممنوعة، في حين أشادت جميع الصحف بالرواية عند صدورها إلى غاية اقتنائها وإحراقها بعد خمسة أيام، ولم يتحدث عنها أحد بعد ذلك.
رواية «إمبراطورية الرمال» اقتنيت وأحرقت ولو عاد بي الزمن إلى الوراء لكررت كتابتها
أما الترجمة إلى اللغة العربية فقد صدرت في بيروت من طرف ناشر لبناني، وجلبها معه إلى المعرض الدولي للكتاب في الوقت الذي كنت فيه المحافظ التنفيذي لـ»سيلا»، وكتب عدلان حينها أنه مستغرب من منع كتاب المحافظ التنفيذي للمعرض، في حين كان يسألني ناشرون أجانب عن الكتاب فأكتفي بالقول «إنها أشياء تحدث».
lإذن فهو لم يمنع من النشر.
لا أبدا لم يمنع من النشر، بل صدر ووقع ما حدثتك عنه، لكنني تعرضت للطرد من منصب عملي كمدير مركزي للنشر في الوكالة الوطنية للنشر والإشهار، وحدثت أمور كثيرة أخرى لن أتحدث عنها، إلا أنني وجدت نفسي ممنوعا من نشر أي شيء، حتى مقال بسيط في أي جريدة. حاولت أن أتحمل الوضع لما بين أربعة إلى خمسة أشهر، لكنني في الشهر السادس لم أعد أحتمل الأمر أكثر فهاجرت إلى كندا، وقد رحلت بسبب هذه الحادثة، واستطعت أن أواصل الكتابة هناك وأعيش حياتي عوضا عن البقاء هنا والموت في صمت.
lما رأيك في الكتب التي صدرت هذا العام حول موضوع الرئيس السابق

لا مشكلة لدي في الكتابة بالفرنسية والعربية
 عبد العزيز بوتفليقة وعهده ؟
إنها موضة. لست بطلا أو رجلا خارقا لكن كان المحبذ بهؤلاء أن يكتبوا عنه في زمنه وليس الآن، وهناك بعض الأقلام الجريئة التي يملك أصحابها ما يكفي من الشجاعة، وحاربوا الاستبداد فعليا في ذلك الزمن.
lوهل ترى أن وضعية حرية التعبير والإبداع الأدبي والنشر قد تحسنت بعد الحراك الشعبي ؟
(يضحك) بالنسبة لي لم يتغير أي شيء، ولا أتفاءل خيرا وأنا أرى الصورة المحزنة التي تقدمها الصحافة الجزائرية اليوم.
lفي الجزائر نقاش قديم، وقد أفرزته فئات اجتماعية مختلفة بصورة أكثـر بروزا خلال الحراك الشعبي، وهو المسألة اللغوية المتمثلة في الجدل حول العربية والفرنسية، ويمكننا أن ندرج فيها أيضا تصريحات وزير التعليم العالي التي يدعو فيها إلى استعمال اللغة الإنجليزية في الجامعات ويدافع عن ذلك. ما رأيك في هذا النقاش بصفتك تكتب بالعربية والفرنسية؟  هل تراه صحيا؟
أعتقد أنه نقاش خاطئ، وليست مشكلة حقيقية. شخصيا لا مشكلة لدي في الكتابة باللغتين، فمثلا رواياتي باللغة العربية قد حققت مكانة جيدة بين جمهور الأدباء المعربين مثل «موعد في القدس» التي حققت نجاحا في المشرق، كما أنني نشرت بالفرنسية في المشرق وفي فرنسا وغيرها. أعتقد أن كل جهة تحاول جعل «قضيتها اللغوية» قاعدة تجارية، وهي معركة تموقع وهيمنة، حيث يسعى كل طرف إلى التغلب على الآخر.
لا أحب تسمية «الأدب المهاجر» لكتاباتي في الخارج
أما الصراع بين «الفرانكوفيليين» و»العربوفيليين» فيمثل مشكلة أخرى، وفي هذه النقطة يمكن أن يثار جدل حقيقي، وسيبقى هذا الصراع طالما لم ينتج المجتمع الجزائري معالمه  وقاعدته الخاصة به من أجل التقدم. أعيش اليوم في مجتمع متعدد الثقافات في كندا، وهناك لا يتم الخلط بين الأمور، فالجميع حر في أن يعيش بثقافته، لكن «الحلم جريء» لأنه يرتكز على التكافؤ التام في الفرص ولا يمر إلا صاحب الاستحقاق في العمل، وإن كنت تستحق شيئا فستصل إليه دون شك، كما أن العلم والمعرفة مقدسان في كندا ولا يمكن الاحتكام لمراجع أخرى، وهذا ما جعل الطموح غير محدود.
lلكننا نرى مع ذلك تصاعد الخطاب اليميني في كندا أو الغرب الديمقراطي بصفة عامة. ألا ترى أن بعض الثغرات هي ما سمح بتسجيل هذه الظواهر، خصوصا مع انتكاس الاقتصاد؟
هذه الأمور موجودة فعلا، لكنه زبد البحر، وعلى سبيل المثال نشرت على حسابي بمنصة «فيسبوك» قبل أيام صورة للوزير الأول لكندا مع الوزير الأول البلجيكي، ومعهما زوجتاهما، يجلسون جميعا حول طاولة في حديقة عمومية ويتناولون سندويشات، وقلت «هذا ما يقدمه الوزير الأول الكندي لضيفه، دون ملاعق من ذهب ودون بروتوكول». عندما نتخلص من جميع الرواسب وجميع العراقيل التي جعلتنا متحجرين سنصل إلى هذا المستوى، ولا يمكن تشييد بناء جديد فوق الأطلال.
lأنت تعيش في كندا منذ أكثـر من 11 سنة. ما هو تأثير الغربة على الكتابة في رأيك ؟
تؤثر كثيرا في الحقيقة من الناحيتين الإيجابية والسلبية، فعلى المستوى الإيجابي تعيش في مجتمع تتمتع فيه بحرية التعبير والتدبير والتفكير ولا وجود لما يعرقلك، لكن الجانب السلبي في الشوق إلى البلد، فضلا عن الاحتكاك مع القراء.
lهل هذا ما يجعل أغلب كتابات من يعيشون في الخارج تتمحور حول الجزائر؟
نعم، وهي نوع من العلاج.
الكتابة عن بوتفليقة اليوم مجرد موضة
lيتداول النقد الغربي كثيرا موضوع الأدب المهاجر، هل تؤمن بوجود هذا النوع ؟
لا أعتقد بوجوده، فعندما أتطرق إلى موضوع حول الجزائر، فإنني أكتب بكل جوارحي عن الجزائر وحولها، ولا أخرج عن هذا الإطار، وفي الحقيقة لا أحب تسمية «الأدب المهاجر» كثيرا، كما يمكنني القول إنها لا تعنيني أنا على الأقل.          
س.ح

الرجوع إلى الأعلى