محمّد خطـــاب
كنتُ بفعل عادات القراءة الكسولة أنتقل داخل الشِّعر من موضوعٍ إلى موضوعٍ آخر مُختلف، أنتقل من البحث عن زمنيّته إلى فهم علاقته بالفلسفة، إلى محاولة التموقع في الحيّز الّذي يحتله داخل الثقافة الإنسانية. ووسط هذا الاِهتمام الخبيث والمُتواضع أصادف مقالة للدكتور عبد الملك مرتاض بعنوان: «قبل الشِّعر الأوّل: جنينية النشأة والتحوّل»، وراعني فيه اِبتداء سؤال مباشر: لمن كُتب المقال؟ يعني من هو قارئ المقال؟ كنتُ أتخيل الجمهور الّذي يتلقى كلمات مثل: السمار، ميد أنا، الحافرة، أواخي، الشرأبيبة...، إلى آخر البلاغة القديمة التي تريد أن تتحدث عن الشّعر أو عن بداياته، هنا البلاغة بتسميتها السلبية بما تعكسه من زينة ثقيلة ومذاقٍ قديم. حين أقرأ العنوان أريدُ منه أن أقف على بداية ما يفترضها الكاتب أو الناقد ويُحلل طبيعتها على الأقل، ولكن أن أقف على معلومات عامة أغلبها تاريخي فيها بعض الأحكام غير المدروسة، فهذا يجعل من المقال إضافة إلى لغته غير المؤدية مقالا للتسلية مع الاِعتذار، التسلية لمن يريد أن يرغب في دخول متحف الكلمات. حين أقرأ أسماء مثل أرسطو أو الجمحي أو اِبن قتيبة، ثمّ أجد أسماء معاصرة مثل جمال الدين بن الشيخ الّذي جعل اِسمه من بين أسماء المستشرقين، فهذا لا يعكس حقيقة ما تُعلن عنه المقالة في البداية.
أودّ في البدء أن أشير إلى أنّ الأسلوب الّذي يكتب به الكاتب هو مسألة تتعلق بالشخص والمزاج والثقافة، هذا حين يكون بين اِثنين: الكاتب وأناه. أمّا حين يتعلق الأمر بالقارئ فنحن أمام تحدٍ مُختلف، لا يمكن البقاء داخل (نرجسية لغوية) ونحن نتكلم مع أمزجة أخرى. ثمّ يستحيل مُخاطبة القارئ بمعجمٍ عارٍ لا يحتجب إلاّ بزينة هشّة. فهناك بلاغة من بلاغة، وطبيعة الخطاب النقدي الّذي تكسبه المقالة كفن أدبي قيمة خاصة أن تكون واضحة وعميقة وتؤدي ما ينبغي تأديته للمتلقي.
حين أبحث عن جنينية الشّعر لا أجد سوى حديثٍ عن شعرية أرسطو -التي هي شعريات في الحقيقة بحسب تصورات المترجمين– كبداية في الثقافة الإنسانية أو إحالة إلى الجاحظ واِبن سلام واِبن قتيبة، ثمّ نقد مبطن لجمال الدين بن الشيخ، ما عدا هذه الإحالات لا يجد القارئ المعني بالسؤال عن الشّعر الأوّل سوى صدى لكلماتٍ ميتة تعجب الأموات. نحن في زمن الكثافة التي نعبر عنها بالاِمتلاء والثخونة، حين تصبح اللّغة مؤدية وتخرج من قيد البلاغات والأوصاف التي سجنتها، تذهب هذه اللّغة مباشرة إلى ملامسة الأشياء. خبرة الأدب ما ذهب إليه الكبار من الكتّاب والشعراء حين تصبح كلمة أسلوب تعني أكثر ممّا تتحمل الكلمة، تعني الطريقة والأداء والإنسان، ويذهب فيها دولوز متطرفا ما يسميه باللعثمة، أن تكون متلعثما داخل لسانك لكي تخلق عالما من الكلمات والأشياء، عالما كله اِمتلاء بالحقيقة التي تبرق وتتلألأ بإرادة صاحبها. هذه رؤية كتبناها فقط عن طبيعة الكلمات المؤدية، لأننا لا نتحدث عن بداية الشّعر ما لم نكن في قلب مخيلة خارج الحد. السؤال عن البداية أو البدايات لا يكون إلاّ داخل حالات غياب لليقين أو داخل توهم حقيقي يمكن تسميته بموقع الشبهات، شبهة البداية تؤسسها المخيلة. ونحن مع الشبهة نحدس بالجمال الّذي كانت عليه اللّغة والكلمات.
تمنحنا الأسطورة وبخاصة أسطورة البدايات حسًا بالشّعر وتعطينا فكرة جوهرية عن علاقة الكلمات بالوجود. لأنّ الأسطورة هي الإجابة الشّعريّة لأسئلة الوجود المبهمة كلّها مخيلة ورؤى ووهم. الشّعر نشأ داخل سؤال الفهم لطبيعة الأشياء والتاريخ كمؤسسة معرفية لا يمنح جوابا كافيًا. حدسُ اللحظة وتخيلها قد يساعدان في فهم البدايات من دون تحديد. يمكن تلقي قصيدة آدم عليه السلام التي ترد في جمهرة أشعار العرب كبناء أسطوري لخيال يصطدم بالوجود. هل فكرنا في دهشة الكلمات حين تقع في قيد التسمية؟ التسمية كما يفهم من بلاغة النقد المعاصر وبخاصة عند بلانشو ودريدا وبارت هي تجربة في الشّعر. ليس سهلا أن تطلق اِسمًا على الشيء. وللتصوّف موقعه داخل هذا الاِرتباك الوجودي، النفري الّذي جعل من الاِسم إلهًا بمعنى السيادة والسُلطة.
كتاب أرسطو كتاب إشكالي لتورط الفلسفة في المتخيل الشعري. لا أعرف لماذا تستجيب الفلسفة وحتى العقلانية منها لسحر المخيلة؟ السجن الجميل الّذي أحبه باشلار. ولكن هذا بحثٌ مُختلف عن حدس المخيلة في الوعي الفلسفي. ولكن لماذا الاِهتمام الفلسفي بالشّعر؟ هناك لحظة تقف فيها الفلسفة متسائلة عن لغة تستجيب لها الحقيقة، الحقيقة التي فتكت بكثيرٍ من الفلاسفة. الآن صرنا نسمع بكتب عن الفلسفة والحب أو الفلاسفة والحب. وكأنّ الحقيقة التي كانت تُثقل الفلسفة في طرحها الجبّار لا بدّ لها من لغةٍ ومخيال مُختلف تستدرج إليهما.
يمكن الإحالة في ثقافتنا العربية إلى اِبن قتيبة كممثل للكلاسيكية القديمة ولكنّها الكلاسيكية الجميلة والمُدهشة، فقد كتب كِتابا عن الشعراء سماه الشّعر والشعراء، وكأنّ فكرة الترجمة للشاعر لا تلبي غرض الناقد ما لم يكن الحديث عن الشّعر. وحقيقة الشّعر كما طرحه في المقدمة هو طرٌح يمكن فهمه مرحليًا، لأنّه طرحٌ كلاسيكي باِمتياز، ولكن هناك فكرة جديرة بالاِنتباه لما تحدث وتساءل عن (أوائل الشعراء) ويمكننا أن نفكر بدل اِبن قتيبة، وأن يطرح سؤال بهذه القوة أمرٌ خطير. اِبن قتيبة كان يُشير إلى اِنعدام البداية. كلّ بداية كانت مسبوقة، والتاريخ سيصمت حيال ذلك، وفكرة السببية تقيمُ بخجلٍ داخل هذا السؤال. فقط المخيلة وأداتها الأسطورة كحكاية للبدايات من تستطيع الوقوف على بداية توهمنا بألقِ الشّعر. من يُسمي كأوّل شاعر؟ سؤال لا يستطيع اِبن قتيبة الإجابة عنه ولا يمكن لغيره أن يفعل ذلك. يبقى التوّهم هو سيد الموقف.

الرجوع إلى الأعلى