نرجسية الذات وغياب الوعي
* محمّد تحريشي/جامعة بشار
أثناء زيارتي لمدينة بسكرة المضيافة، كانت فرصة الاِلتقاء بصديقي الروائي بلقاسم مسروق الّذي أهداني روايته «الأقبية المتسخة»، والواقع أنّني وجدتني مُتلهفًا لقراءة هذه الرواية في أقرب فرصة، وليس هناك أجمل من رفيق سفر كرواية تجعلك تعيش أجواء من الفرحة والغبطة من جهة ومن جهة لحظات من الألم والأسف بحسب أفق اِنتظارك ومُخاتلة القارئ وهو يُمارس لعبته علينا بجرأة في تناول المحظور والطابو في نرجسية طافحة حول المرأة والجنس وتلك العوالم الداخلية، على الرغم من بعض الإشارات القصيرة جدا ليوطن الرواية زمنيًا ومكانيًا من ذلك: «... ثمّ هاجر بعد ذلك إلى فرنسا باحثا عن عمل دائم، وأثناء تواجده هناك اِنخرط في حزب حركة اِنتصار الحريات الديمقراطية. وتأثر بمصالي الحاج إلى درجة عالية، فقد كان يرى فيه المثل الأعلى للنضال السياسي، فكان يقلده في لبساه ومشيته وحديثه وإسبال لحيته، جدي لم يكن يقرأ، ولكن بحكم اِحتكاكه بمناضلي الحزب في المهجر اِكتسب مهارةً في الحديث ولباقةً في التحليل، كان قبل وفاته إذا تحدث عن أحوال البلاد، يقول: الخلافات السياسيّة التي حدثت بعد ثورة التحرير ترجع إلى قلّة النضج الفكري لدى النّخبة السياسيّة واِنعدام الوعي الاِجتماعي، ولتدارك الوضع لا بدّ من ثورة فكريّة وهذا يتطلّب وقتا وتضحيّة حسبه». (الرواية:8.).
إنّ هذا الطرح الواعي والناضج يجعل القارئ مُتلهفًا لما يأتي من أحداث، وكأنّ هذه الرؤية ستؤطر الرواية فكريًا وفنيًا على الرغم من أنّ هذه الرؤية قد تكبل القارئ أيضا في أنّ الراوي يفرض سلطته بمثل هذا الطرح، والّذي مع تسارع الأحداث وتعاقبها قد لا يقدم للرواية كبير فائدة، ما دام أنّ الرواية تغوص في أحداث عن الجنس والخمر بنرجسية غير مُبررة لجيلٍ فاشل على الرغم من تعلمه وثقافته ومن رصيده الثوريّ والسياسيّ، جيل ينغمس في اللّذات ليعبر عن خيبات أمل وفشلٍ كبير، ويكشف عن اِختلالات في البنية الفكريّة والتفكيريّة لهذا الجيل المتعلم والحاصل على الشهادات العُليا، فهو لا يسهم ولا يُساهم في بناء المجتمع ولا في ترقيته. إنّه جيل يعيش تقوقعًا على الذات بكلّ اِنكساراتها واِنهزامها..
يقوم النّصّ على مفارقة جميلة تبدأ بمستوى من الوعي ودرجة من النضج وتنتهي بنرجسية بوهيمية تتصارع مع أوهام وتخيلات تُسقط الإنسان إلى درجة من الحيوانية التي تحركها الغريزة، ولعلّ مربط الفرص ها هنا أنّ النّصّ لم يستفيد أكثر من مُعالجة مشكلة الجنس في المجتمع الجزائري من رؤية فكرية تؤسس لخطاب فني يُؤسس قيمًا جماليّة تسهم في بناء المُجتمع حتّى يتخلى عن عُقده وأزماته، وانجرفت إلى وضعيات سلبية. كان يمكن أن يستفيد النّص من تنوع الشخصيات وخاصة النساء في طرح هذه المشكلة من زوايا مُتعدّدة تنضج النّص وتجعله يحلّق عاليًا، وتتجاوز تلك الطروحات التي تقوم بالاستفزاز لتحريك ما تراه ثابتا أو راكدا. إنّ العزف على هذا الوتر يُبعد القارئ شيئا فشيئا عن الموضوع الرئيس المُتعلق بمناقشة هذه الظاهرة الاِجتماعية مُناقشة فكريّة وثقافيّة بأدوات فنيّة، ومن يسيطر الفعل على الفكرة وقد يجد القارئ نفسه أمام مشاهد قد يبحث لها عن مبرر فني وجمالي، خاصة إذا غاب الطرح الإيديولوجي أو السياسي أو الفكري فإنّ النّص قد يجد عنتا في أن يكون ممتعا وأن يحقق منفعة ما لدى القراء.
ومن المفارقة أنّ بعض السّمات في النّص تُخاتل القارئ بأن تمده ببعض المعالم للتعبير عن عناصر من النضج السياسيّ والوعي النضاليّ: «بعد الاِستقلال بأربع سنوات تقريبًا، لاحقته من جديد فكرة العودة والاِستقرار نهائيًا في أرض الوطن، لكن اِنقلاب 19 جوان 1965 الّذي قام به العقيد هواري بومدين على الرئيس أحمد بن بلة، جعل جدّي يتخوّف من الآتي ويعدل عن قرار عودته، لأنّ أيّ اِنقلاب حسب رأيه وهو عمل مناف للديمقراطية، وله نتائج بعديّة سيئة. ودخل إلى الجزائر في 1973 فوجد الحياة قد تغيرت...» (الرواية:11). كان يمكن لهذه الأرضية أن تمدّ الرواية بالكثير من الدلالات في اِستثمار هذا البُعد الفكريّ والصحوة في الضمير، ولكن الراوي لم يستــفد من هذه الأبعاد التي يمكن لها أن تجعله ينفتح على آفاق رحبة ولا ينكسر أمام ذكر الكثير من النصوص الروائية الجزائرية والعربية والعالمية، والتي جعلته ينكشف أمام النصوص ولا يستطيع أن يقوم بعملية الخرق والاِختراق لتلك النصوص، وأصبحت الأقبية المتسخة ظلا لها. من ذلك: «... أخرجت رواية غادة الكاميليا، قرأت صفحات منها، وتوقفت عند هذه الفقرة (يكون الفتى قد حقق كسبا عزيز المنال، صعب المرتقى إذا أحبته بغي حبّا حقيقيا صادقا...». (الرواية:31) وقوله: «على مرّ العصور والحاكم يسعى إلى الضغط على رجل الدّين والتضييق عليه بكلّ الوسائل لتوظيف النصوص والأحكام الشرعيّة –بقراءة مغلوطة- من أجل تدجين الأمة وهذا أدى إلى ظهور التيارات الدّينيّة المتطرفة. وربّما ظهور هذه التيارات الدينية المتطرفة كما تقول التي تعتني بالشكليات أدّى إلى ظهور تيار فكري رافض لكلّ أشكال التديّن التي تعزل الدّين عن الواقع». (الرواية: 32،33) لعل التباعد بين هذين المستويين جعل النّص يعيش حالا من الاِنفصال والاِنفصام والتشظي، فتوجّه إلى التعبير عن نرجسية مُبالغٌ فيها عن الجنس والزنا والخيانات الزوجية، فاحتلّ الهامشُ المتنَ لينقل لنا مشاهد عن وضعيات سلبية تُصور لنا المرأة في وضع مسكوت عنه تكون فيه الضحية والمُتسبب في كلّ ما تعانيه، وتجعل الرجل في منأى عن كلّ لوم وعتاب أو مُحاسبة، بل يكون في وضع المطلوب لا الطالب والمرغوب لا الراغب.
إنّ رواية «الأقبية المتسخة» تجعل القارئ حائرا أمام مستويين مختلفين حيث تبدأ الرواية بوضع فكري ناضج وراقٍ من مثل: «يقول: المجتمعات التي بها مكونات إيديولوجيّة وثقافيّة مختلفة، وتتجاوز عُقدة الخلفيات الفكريّة والصراعات، تستطيع أن تشكّل قوة، وأن تبدع، أن تنتج أفكارا وتبني اِقتصادا». (الرواية: 14). وإذا كان الأمر كذلك فإنّ الرواية لم تستطع أن تُقدم بديلاً يسهمُ في تنوير هذا المجتمع، بل إنّها تناست هذا الطرح وانغمست في ملذاتها، وفي كلّ حِلها وترحالها تبحث عن اللذة بنرجسية، وكان يمكن لهذا التحوّل والتنقل في قسنطينة أو باريس أو فلسطين أن يفيد أكثر في بلورة فكرٍ ناضج للشخصيات: «عشرون يومًا قضيتها في باريس أبحث في الأمكنة وبين الجموع لعلّ بينهم لينا، وخرجت إلى ضواحي باريس، وهناك بحثتُ عنها وعن بقايا عطر ماغريت...».
وكان يمكن في نظري أن يستفيد النّص من هذه الرحلة بأن يسمو فكريًا وإيديولوجيًا وأن يُوجِد علاقة بين إقامة الجد بفرنسا وزيارة الحفيد لها. لأنّه في رأيي، على النّص أن يسهم في بناء إنسان جديد بهدم كلّ تلك السلبيات وبناء أخرى أكثر إيجابيّة بعيدا عن كلّ سوداويّة أو ممارسة قراءة فوقيّة وفرض وصاية على المجتمع عبر التحكم في الشخصيات والسيطرة على تحركاتها يصعب عليها أن تنال حريتها إلاّ في حال من الاِنفلات أثناء غفلة الكاتب.
«الأقبية المتسخة»..
- التفاصيل
-
طقس موغل في الثقافة الأمازيغية: الوشم ..احتفالية الخصوبة ولغة التمرد والألم
تغنى الجزائريون في تراثهم " بزرقة الوشام" كوصف للمرأة الجميلة التي تميزها علامة على الوجه أو منطقة من الجسيد وذكره الرجال كعلامة للوفاء والألم، فالوشم عند الأمازيع...
الكاتب والروائي عبد الوهاب بن منصور للنصر: الرواية تكتب التاريخ غير الرسمي والشفوي
uالكثير من الروائيين حاولوا اِستلهام التراث الصوفي رغم مخاطرهيعتقد الكاتب والروائي عبد الوهاب بن منصور، أنّه مهما قِيل عن الرواية التي اِعتمدت أو اِستندت على...
المكتبات الرقمية.. هل أصبحت بديلا للمكتبات التقليدية؟
يحتفلُ العالم اليوم (23 أفريل)، باليوم العالمي للكِتاب وحقوق المؤلف والملكية الفكرية، ففي مثل هذا اليوم من كلّ عام، تحتفل منظمة الأُمم المتحدة للتربية...
أي دور للجامعة في الفضاء الاجتماعي؟
ما مدى اِرتباط الجامعة بالفضاء الاِجتماعي وبالواقع الفعلي للمواطن الجزائري، وما مدى أهمية وضرورة إدراك الجميع بمدى أهمية هذا الشريك الحيوي والجوهري «الجامعة»...
رؤية حداثية أساسها التنوير: الوجــه الآخــر لنضـال بن باديــس
إيناس كبير خص العلامة عبد الحميد بن باديس النشء باهتمام بالغ، فقد اقترب من مشاغل الجيل الجديد وأصغى لاهتماماته، حيث كان يرى فيه البذرة التي يجب أن تُروى على...
قراءة في رواية « باب القنطرة» للكاتبة نجية عبير: «السّيّــدات» .. انظر ما يوافق تربة قلبك وانثره فيها
إلهام بورابة معابر مفاتيح: الترجمة خلق جديد/ حزن الكاتب وحزن المترجم متشابهان ، لكن الفرح يكسبه القارئ./الرواية انتهت لكن الإطناب في إعادة التدوين لوضع كل شيء...
"نوافـــذ علـى الآخــر" كتابٌ جديـد للدكتور أزراج عمـــر
صدر منذ أيّام، عن دار «اسكرايب» في مصر، كتاب جديد للشاعر والمترجم والأكاديمي الدكتور أزراج عمر، وحمل عنوان «نوافذ على الآخر»، وهو عبارة عن مجموعة...
هــل يمكــن للمثقـــف أن يكــــون صانــــع محتـــــوى؟
هل بإمكان المُثقف أن يكون من صُنّاع المحتوى المؤثرين؟ وهل يمكن أن يكون مُبدعاً لمحتوىً مُؤثر هادف ومسؤول، خاصةً وأنّه من الضروري أن يحدث هذا في زمن...
الكاتب والإعلامي الدكتور محمّد بغداد للنصر
ما تمّ اِنجازه في مشهد الإعلام الثقافي مشاريع أفراديعتقد الكاتب والإعلامي محمّد بغداد، أنّ الإعلام الثقافي يتجاوز المستوى الأدبي، ليشمل كلّ معاني ونشاطات الإنسان في الحياة، بدايةً من الأسماء التي نطلقها على أبنائنا، مروراً...
قصائد لعبد الحميد شكيل
#عبور.. سأعبر الغابة..دون أن تراني الأشجار..سأعبر النهر..دون أن تعاندني طيور الماء..سأعبر البحر..دون أن يراني القراصنة،وهم يغتصبون نساء الزبد..سأعبر الوقت..ممهورا بنمش...
<< < 1 2 3 4 5 > >> (5)