التاريخ الجزائري تعرض لمحاولات تطويع لأسباب سياسية و إيديولوجية
كان التاريخ دائمًا عامل صراع وتجاذب بين الجماعات الفاعلة من أجل تمرير صورة معينة منه
في هذا الحوار، يتحدث الشاعر والناقد الدكتور عبد القادر رابحي، عن الرواية التي تُعيد كتابة التاريخ، والرواية التي تستعمل أو تُوظِف التاريخ. وعن حضور التاريخ في الرواية والسينما معًا. وكيف أنّ هذه الأخيرة (السينما) أجادت اِستثمار وتوظيف واستعمال التاريخ رغم أنّها تعتمد على الروايات لإعادة كتابة التاريخ سينمائيًا.
حاورته/ نـوّارة لـحــرش
كما تحدث أيضا عن مدى نجاح النص المدرسي في تقديم صورة الثورة بكلّ أبعادها وحقائقها ووقائعها، وخلفياتها المعرفية والتاريخية كموروث رمزي يُلهم الطفل/التلميذ والطالب ويقوي اِعتزازه الوطني وفخره بهويته؟ مع طرح تساؤلات حول ما يمكن أن يُقدمه الكِتاب المدرسي من معلومات وحقائق وأحداث وغيرها. أيضا وفي ذات السياق تقريبا. الدكتور رابحي، تحدث أيضا عن شؤون أخرى ذات صلة بكلّ هذه المحاور والانشغالات.
هناك تداخل في مفاهيم أدبية كثيرة، منها مثلا الرواية التي تعيد كتابة التاريخ، والرواية التي تستعمل أو توظف التاريخ، ما رأيك وهل هناك فرق بينها؟
عبد القادر رابحي: ثمّة فرقٌ بين الرواية التي تُعيد كتابة التاريخ والرواية التي تستعمل التاريخ كخلفية قصصية داخل السرد لبناء أحداث تتقدم بالسرد نحو نهايته الروائية المعروفة. التاريخ مادة الرواية الأولى والأخيرة ولا رواية بدون تاريخ. ولا اِختلاف في أنّ التاريخ يُحرّك مسار بناء الرواية التي لا تتم بدونه أو من خارجه حتى ولو كان هذا التاريخ تاريخا مُتخيلا وليس واقعيًا. في الحالة الأولى تزخر الآداب العالمية بتجارب كتابية ثرية تبسّط الأحداث التاريخية المُعقدة وتُحيّنها وتضفي عليها نظرة خاصة أو راهنة أو موقفية بالنظر إلى مستجدات لم تكن معروفة أثناء حدوث هذه الأحداث. ولعلّ الغرض الأوّل والأخير من هذه الكتابة الروائية هو التاريخ نفسه، أي التاريخ الّذي صيغ في قالب روائي لأجل تسهيل قراءته من طرف شريحة واسعة من القراء نظرا لعدم قدرة هذه الشريحة على قراءة التاريخ كتاريخ.
ألا ترى أنّ السينما مثلا تفوّقت في اِستثمار وتوظيف واستعمال التاريخ رغم أنّها تعتمد على الروايات لإعادة كتابة التاريخ سينمائيًا؟
عبد القادر رابحي:ربّما عوضت السينما هذا النوع من الكتابة الروائية أو تكاتفا معًا وتحالفا من أجل إعادة تركيب تاريخ قديم أو حديث في مصانع العصر وبرؤية العصر وخدمة لمصالح العصر. في العالم العربيّ بدأ هذا النوع من الكتابة قويًا مع جورجي زيدان وغيره. ولعلّ هذا النوع قد لعب دورا هامًا في ترسيخ فنّ السرد في عالم القراءة المحدود واستطاع أن يخترق ذائقة عربية تطغى عليها روح الشّعر والإلقاء، لكن سرعان ما خفت هذا النوع من الكتابة ليتيح المجال لفنّ الرواية التي تستعمل التاريخ كخلفية تتحرك داخله قصة الرواية. وما يُؤسف له هو أنّ هذا النوع من الرواية يكاد ينعدم من المدونة السردية العربية عمومًا والجزائرية على الخصوص لأسباب تحتاج إلى دراسة متأنية لعلّ منه الخوف من الفعل التداولي للتاريخ داخل المجال السردي لأنّه مغيب في المجال التاريخي. وما نجم عن ذلك هو ضعف الفعل السينمائي لأنّ السينما تعتمد عادة على هذا النوع من الروايات لإعادة كتابة التاريخ سينمائيًا.
أمّا في الحالة الثانية فنجد أنّ التاريخ لا يكون هو الغاية في حد ذاته ينتهي عندها السرد وتتم داخله القصة، وإنّما هو الخلفية التي يقرأ الروائي بها ومن خلالها ما يُريد توصيله للقارئ عن طريق السرد. وهو في هذه الحالة ليس غاية في حد ذاته وإنّما وسيلة لتقديم وجهة نظر عن أحداث ما جرت في فترة ما، أو تصحيح رؤية خاطئة، أو استحضار رواية مغيّبة لم تعترف بها الرواية الرسمية المفروضة أو المهيمنة. ولعله لذلك نجد أنّ هذا النوع من الرواية يلجأ إلى التخييل والتحايل واستعمال كلّ الممكنات الروائية فنيا من أجل تقديم بديل روائيّ لتاريخ خاطئ أو منتهك أو مغيّب. وكأنّه إنّما جاءت لإنصاف التاريخ بالتخييل وعن طريقه مما يمكن أن يتعرض له من أكاذيب. لا يمكن للسرد أن يتخلى عن هذين النوعين. وهو بحاجة إليهما بالقدر الّذي هو بحاجة إلى إضافة اللمسة الجمالية الفاصلة للحادثة التاريخية من أجل إخراجها من برودة المتاحف إلى خفقان القلوب النابضة للقُراء والمشاهدين.
حضور التاريخ في الرواية والسينما يقودنا إلى حضوره في الكُتب المدرسية، وهل ما هو متوفر فيها عمَّقَ معرفة التاريخ لدى التلاميذ والمُتمدرسين؟ وهل عزّز الثقافة التاريخية؟
عبد القادر رابحي: هل يمكن أن تخلو الكُتب التعليمية المدرسية من التاريخ؟ وكيف يمكن أن يكون حال الكِتاب من دونه؟ وكيف يمكن أن يكون التعليم أصلا إذا لم تتوّشح مقرراته بما يحمله التاريخ من أحداث تضفي على الكتاب ما يجعل منه ذاكرة أمة وتاريخ شعب؟ إنّ أي فعل تعليمي ينقطع عن التاريخ ﻻ يمكن أن يكون فعلا مكتملا نظرا لما يمثله التاريخ من أهمية في ترسيخ أحد أهم المبادئ التي ينبني عليها تكوين الفرد في المجتمعات المتطورة. لقد كان التاريخ دائما عامل صراع وتجاذب بين الجماعات الثقافية الفاعلة من أجل تمرير صورة معينة منه، أو رواية خاصة عنه، أو وجهة نظر تخدم تصورا معينا مرتبطا بتوجه سياسي خاص أو بتمركز إيديولوجي مهيمن. ولعله لهذا السبب كان تاريخ الجزائر محلّ صراع هذه التوجهات خلال تواجدها الرسمي كدولة مستقلة. وذلك نظرا لما اِعترض سبيل من صاغوا مقررات البرامج التعليمية من إكراهات جعلت التاريخ يتلبس بلبوس المرحلة ويتوشح بزيها. وهذا يبدو أمرا طبيعيا بالنظر إلى ما تفعله جميع الدول في قراءتها لتاريخها وفق اللحظة المهيمنة.
لكنّه في الكُتب المدرسية ربّما هو يتعدّد ويختلف في نوعية الحضور، بين الاِختصار والتضييق والتهويل والتغييب...وغيرها، ما رأيك؟
عبد القادر رابحي: ربّما كان تاريخ الجزائر الثري العامر المُتعدّد محلّ اِختصار أو تضييق أو تهويل أو تغييب من طرف من أكدوا على التوجهات السّياسيّة والإيديولوجية المهيمنة في فترة ما بعد الاِستقلال فانحصر التاريخ في وجهة نظر ﻻ ترى غير ما كانت تراه مناسبا لها. غير أنّ التاريخ الجمعي لأمة من اﻷمم ﻻ يمكن أن يكمم أو يترك جانبا أو يغيب بصفة نهائية ﻷنّ مشكلة التاريخ مع من يحاولون تطويعه هي أنّه يتجاوزهم ﻷنّه كلّما حاولت إخفاء جزء منه إﻻّ وظهر هذا الجزء بصورة أكثر لمعانا مِّمَّا كان عليه في أذهان اﻷجيال الجديدة. وهذا ما حدث ﻷكبر عملية تغييب للتاريخ وتزوير ﻷحداثه مع الاِستعمار الفرنسي حيث حاولت فرنسا اِستبدال كلّ القيم التي يقوم عليها المجتمع الجزائري بقيّم أخرى ﻻ تمت بصلة إليه والنتيجة أنّ هذا الشعب أصبح أكثر معرفة بالجوانب المغيبة من تاريخ الجزائر القديم الثري الواسع، وصار أكثر حرصا على معرفتها. هل نستطيع أن نخفي الشمس بالغربال؟ ﻻ يمكن. ولعله لهذا السبب ﻻ يمكن كذلك أن نوجه المقررات التعليمية وفق القراءات اﻵنية للتاريخ بدافع المصلحة السياسية أو بدافع التزمت الموقفي المُتأدلج. ولننظر إلى الدول العظمى هل تستطيع أن تتنكر لجزء من تاريخها القديم يونانيا كان أم رومانيا أم معاصرا. هذا هو السؤال الذي يبدو جوهريا اﻵن في فترة تتعرض فيها المنظومات التربوية للدول الضعيفة إلى إملاءات فوقية من التصورات العالمية المهيمنة من أجل ترسيخ تصور عَولميّ ﻻ يحرص على خصوصيات الشعوب ﻻ على تاريخها وحضارتها. ولعل هذا ما يشكل خطرا كبيرا على بناء رؤية واضحة عند اﻷجيال الجديدة لتاريخها ولواقعها ولخصوصيتها في بناء مجتمع منسجم يكون فيه الماضي واضحًا تمام الوضوح في مرآة المستقبل.
أيضا وفي ذات السياق تقريبا، كيف هي “ثورة التحرير في الكُتب المدرسية الجزائرية”، كيف كانت صورتها، ومستويات أحداثها وتاريخها، كيف حضرت؟ وكيف تجسدت كمعطى نضالي وبطولي في النصوص المدرسية؟
عبد القادر رابحي: ليس بين الدرس التعليمي والدرس التاريخي حجاب، فهما يبدوان أمرا واحدا غير منفصل لو نظرنا إليهما بمنظار ما يحملانه من صلات عميقة بينهما. من المُؤكد أنّ الكِتاب المدرسي هو أحد ركائز التكوين الحضاري والتربوي والثقافي التي ترافق الطفل/التلميذ/ الطالب، طيلة تحصيله العلمي وتكوينه التعليمي في المدرسة إن لم يكن أهمها وأوّلها على الإطلاق. وعلاقة المنظومة التربوية بالتاريخ هي علاقةٌ عضوية عميقة بوصفها جسرا بين الناشئة وتاريخها وحضارتها، وذلك بالنظر إلى ما تلعبه من دور ظاهر وباطن في ترسيخ قيم المواطنة المبنية على معرفة التاريخ القديم والحديث للأمة، وفي تصوير حقيقة أحداثها لأنّها تحدّد المسارات الأولية لصورة الاِنتماء التي من المفروض أن تنبني بصورة واضحة ويقينية في أذهان الأجيال التي تستقبل هذا التاريخ وكأنّه جزء من الماضي الّذي يجب ترسيخ أحداثه في حاضر اللحظة.
ولعلّ درس التاريخ بالذات -وعلى عكس الدروس في مواد أخرى- من أعقد الدروس وأصعبها بالنظر إلى ما يمكن أن يعتريه من علاقة مركبة لا تتوضح صورتها عند الناشئة إلاّ بعد مراحل متأخرة من مراحل التكوين حيث تنمو القدرة على التحليل بعد التحصيل وينمو الوعي الكافي بإمكانية وجود زاوية أخرى للنظر إلى التاريخ بوصفه رواية مهيمنة أو وحيدة أو متعالية. درسُ التاريخ لا يستفز المتعلم في مراحل تكوينه الاِبتدائية أو الثانوية أو الجامعية فحسب، وإنّما يستفز الإنسان المنتمي إلى هذا التاريخ طيلة حياته كلّها. ولعل هذا الاستفزاز الّذي يمارسه التاريخ هو الّذي يفتح إمكانية تأويله بوجهات نظر مختلفة أو قراءة أحداثه بُطرق مُتعدّدة أو متناقضة.
إذن هنا يمكن التساؤل عن ما يمكن أن يقدمه الكتاب المدرسي من معلومات وحقائق وأحداث وغيرها؟
عبد القادر رابحي: تماما. من هنا تبدأ المساءلة بالنظر إلى ما يُقدمه الكِتاب المدرسي من معلومات حول التاريخ. هل هي ناقصة أو كاملة؟، هل هي موضوعية أم ذاتية؟ هل هي محايدة أو محايثة للفعل التاريخي كما جرت أحداثه في الماضي القريب أو الماضي البعيد؟ ورّبما هنا كذلك تُطرح إشكالية الوفاء للفعل التاريخي بالنظر إلى المصلحة الآنية أو بالنظر إلى الفكرة المهيمنة أو بالنظر إلى الجماعة الضاغطة التي تفرض رواية معينة من وجهة نظر معينة. مشكلةُ التاريخ وتقديمُه إلى الأجيال المتمدرسة في صورة من الصور كانت دائما مثار جدل وموضع مساءلة ومحلّ تفكير وإعادة نظر. ولعلّه من الصعب إيجاد رواية مُتعالية على التصورات الآنية أو الذاتية أو المصلحية. إنّها الرواية التي يطمح إليها كلّ متعلم حتى يكون في منأى عن كلّ تعبئة ضيقة أو خارجة عن نطاق المبادئ الجامعة التي تنبني عليها أسس الوحدة الوطنية. غير أنّ هذه المشكلة تمسّ إشكالية تعليم التاريخ بصورة عامّة وليست مشكلة جيل بعينه أو دولة بعينها أو مرحلة بعينها. إنّها مشكلة التاريخ نفسه في علاقته المعقدة بصانعيه من جهة، وفي علاقته بالمستفيدين منه من جهة أخرى.
المُلاحظ أنّ ما قُدِم في الكتب المدرسية من تاريخ الثورة كان شحيحًا مُقارنة بغزارة أحداث وبطولات تاريخ هذه الثورة؟ لماذا برأك هذا النقص في سرد الثورة بأحداثها وتاريخها وبطولاتها في الكُتب المدرسية؟
عبد القادر رابحي:تاريخ الثورة الجزائرية، ومهما يكن حجم ما قُدّم للمتمدرسين أو نوعيته، يبدو ناقصًا بالنظر إلى ما زخرت به الثورة التحريرية من أحداث خطيرة ومن بطولات عظيمة ما زال الكثير منها لم يُكتب بعد. ذلك أنّه يجب الاِعتراف بأنّنا لم نكتب تاريخ الثورة التحريرية بالصورة التي يجب أن يُكتب بها وبالحجم الّذي وقع به وبمستوى عُمق مأساة وملاحم ما حدث خلالها للإنسان الجزائري وهو يُواجه المحق الكولونيالي في أقسى مظاهره وأكثرها توحشا. فكيف يمكننا أن نمرر كلّ هذا إلى الأجيال الجديدة مع المحافظة على حدّة الفعل الكولونيالي وعلى حدة الفعل الثوري التحرري من دون السقوط في الصورة النمطية للقراءة الأحادية أو البطولات الفردية؟. ومن هنا فإذا اِعترى كتابةَ تاريخ الثورة نقصٌ -وهو واقع باِعتراف رواده والفاعلين فيه-، فإنّ هذا النقص سينعكس بالضرورة على ما يُقدّم إلى الأجيال المتمدرسة من أحداث ويُؤثّر، من ثمّة، على الصورة التي يحملها المتعلم في راهنه عن بطولات آبائه وأجداده.
تبقى الطريقة التي يُقدم بها تاريخ الثورة التحريرية إلى الأجيال. وهنا وجب التنبيه إلى أنّ الوسائل البيداغوجية والتعليمية تتطور باِستمرار. ولا بدّ من مواكبة الدرس التاريخي المُتعلق بالثورة الجزائرية، ولكن بتاريخ الجزائر عمومًا، لهذه الوسائل بما فيها من وسائط معاصرة اِختصرت المسافة بين الحدث التاريخي الّذي كان يحتاج إلى شرحٍ مستفيض من طرف الأستاذ وبين قابلية التلميذ المتعلم لاِستيعاب أحداث من دون المرور بالدرس المدرسي.
ولعلّه لهذا السبب وجب النظر إلى الدرس التعليمي الّذي يقدم أحداث الثورة التحريرية بمرآة العصر وبمّا يحويه هذا العصر من وسائل تواصلية خارقة للعادة من المفروض أن تلعب دورا أساسيًّا في تيسير البُعد البيداغوجي من أجل ترسيخ القيم الجامعة التي اِنطلقت منها الثورة التحريرية بمَّا هي قيم تحافظ على الذات وعلى الكينونة وعلى وحدة المجتمع في ظل ما نراه اليوم وفي أماكن أخرى من تسارعٍ رهيب لهشاشة بنيات الدول الوطنية التي قامت على التحرر من الاِستعمار نظرا لتناسيها قيمة الدرس التعليمي للتاريخ من خلال تغاضيها عن حضور حدّة الشرط الكولونيالي الّذي كان سببًا جوهريًا في اِنتفاضة الشعوب المستعمرة والثورة عليه في راهن الكِتاب المدرسي، والّذي من المفروض أن يبقى حاضرا بقوته في أذهان الأجيال الجديدة.

الرجوع إلى الأعلى