هل يمكن الحديث عن ما يُسمى بـــ»الأدب الرقميّ» في الجزائر، أو حتّى في العالم العربيّ؟ أيضا هل يمكن الحديث عن تجارب أدبيّة رقميّة، خاصّةً وأنّ الواقع يقول أنّ التجربة العربية عموما تعرف وتيرة بطيئة في إنتاج الإبداع الرقميّ و-ليس في الجزائر فقط-. أيضا، كيف هي قضايا وإشكالات الإبداع الرقميّ. وما هي أهمُّ خصوصيات ومميزات وسمات هذا الإبداع/الوافد الجديد، أو هذا الأدب الّذي يُعرف بأنّه أدب المستقبل. لكنه مازال في خطواته الأولى ويحتاج إلى الكثير من الجهود والاِشتغال لينضج ويحقق حضوره المرجو.
إستطلاع/ نـوّارة لحـرش
حول هذا الموضوع «الأدب الرقميّ»، كان ملف «كراس الثقافة» لهذا العدد، مع مجموعة من الأساتذة والدكاترة الأكاديميين من مختلف جامعات الوطن.

* صورية غجاتي/ كاتبة وباحثة أكاديمية –جامعة قسنطينة
مغامرة تمشي على اِستحياء وبخطى غير واثقة
يعني اِنخراط الأدب في المُمارسة الإلكترونية -من وجهة نظري- إفادتَه من تقنيّاتها لضمان اِنتشارٍ أكثر ورواجٍ أكبر، ولا يعني بتاتًا الاِنسلاخ الكلي بتخليه عن سماته المميزة لصالح هذا الاِكتساح الرقميّ، الّذي أعتقد أنّه رهانٌ خاطئ على ضمان تطوّر الفعل الإبداعيّ في الأدب وعدم وقوفه غريبًا في زمن الصوت والصورة؛ إذ لا يحتاج الأدب في عملية إنتاجه وطُرق تلقيه إلى الوسائط الإلكترونية إلاّ بالقدر الّذي يُفيد في عملية تسويقه ويضمن اِنتشاره على نطاقٍ واسع. أمّا الرهانُ على دخولها بقوة في عٌمق لعبة إنتاجه، والتحكم في مفاتيح آليات هذا الإنتاج، وكذا أساليب تلقّيه، فذاك ما من شأنه أن «يُلوّث» نقاءه القائم أساسًا على سُلطة اللّغة اللسانية، سُلطة الكلمة التي كانت في البدء وقبل بداية الخلق «كُن» ثمّ ترسّخت دينيًا بصيغة الأمر «اِقرأ». ولعل دخول الأدب مُعترك «المابينية» وإفادته من حقولٍ معرفيّة وفنية وثقافية مُغايرة لطبيعته من قبل، قد جعل تلك الإفادة تبقى في إطار حدود إمكانات اللّغة تخييليًا وحتى بصريًا في الشِّعر، والرواية، والقصة. فكان اِحتواءً ولم يكن اِستلابًا كما يحدُث اليوم وتحت المنحى التجريبي الجديد الّذي جعل الرموز والأرقام، والأشكال والجداول والخطاطات الصماء تكتسح عالم الحرف واللّغة، وتغدو الممارسة الأدبية أشبه بالدردشة الجماعية العشوائية لكُلّ طرفٍ فاعلٍ الحق في رسم ما يشاء وبأي لغة شاء. ما تزال هذه المُغامرة في عالمنا العربيّ تمشي على اِستحياء، مُثقلة الخُطى غير واثقة، عدا تجربة الأردني «محمّد سناجلة» في كتابة الرواية الرقمية التي أثبتت وجودها على نحوٍ ما، وتحلت بقدرٍ من الجرأة في الاِنخراط ضمن هذه الموجة الفنية الناشئة. أمّا في الجزائر -في حدود علمي- لا توجد تجربة اِستطاعت فرض نفسها وطنيًا وعربيًا، ونستثني هنا المحاولة الناشئة للزميل الدكتور «حمزة قريرة» الأستاذ بجامعة ورقلة في إطار المسرح الرقمي. والمسرح هنا يختلف عن الأدب من جوانب ثلاثة: الأولى: من حيث طبيعته التكوينية التي تجمع بين ما هو لساني وما هو بصري (نصّ+عرض) فعالَم التقنية رابضٌ في شقّه الثاني بالفعل، بحضور الصوت والصورة والإضاءة.. إلخ.
الثانية: أنّه فنٌّ جماعي في الأصل، على مستوى الأقطاب الثلاثة للعملية التواصلية؛ المُرسل والرسالة والمتلقي. فالمرسل مُتعدّد (كاتب النصّ، الدراماتورج المخرج، الممثل، السينوغراف..)، والرسالة متعدّدة (رسالة النصّ، ورسالة العرض بكلّ أنواعها). وتعددية المُتلقي.
الثالثة: أنّه الفن الوحيد الّذي خرج عن إطار الخطاطة التواصلية الأفقية التي وضعها رومان جاكبسون للعملية التواصلية؛ حيث بإمكان المُتلقي في المسرح أن يتحوّل إلى مرسلٍ والعكس، فتكون العملية التواصلية لولبية.وإن جئنا إلى الإشكالات التي يطرحُها الأدبُ الرقميّ، نجدها مُتعدّدة ويُمكننا الاِنطلاق في عرضها من أهمّ خاصية وسمَت هذا الأدب وهي خاصية «التشارُكية» في إنتاج الفعل الإبداعي؛ حيث يُفترض أنّه على كاتب الأدب رقميّ، أن يعي مُسبقاً أنّه لا يُقدّم نصّاً مُكتملاً، بل مجرّد «مُخطط» أو «مشروع» يستدعي مُشاركة أطراف أخرى قد يتجاوز عددها الملايين، وعليه أن يبقى مُنفتحاً غير قابل للاِكتمال إلاّ بقرار شخصي من صاحبه الأصلي، وهنا ينتفي فعلُ التشاركُية وتنتفي معها أهمّ خاصية ميزّت هذا الأدب كفعل إبداعي مُغاير.مسألةٌ أخرى تضعُ هذا الأدب موضع المُساءلة، تتعلق بالخصوصية؛ أي خصوصية الأدب الرقميّ في العالم العربي في ظلّ مُعادلة غير متكافئة، تتمثل في صدارة الآخر في إنتاج الوسائط الرقمية والتحكم بها، وصدارتنا في اِستهلاكها، أيّ خصوصية؟؟ وأيّ حرية؟؟ وما مصير هذا الأدب إذا توقفت فجأةً منابعُه التي تمُدّه ماءً ورَواءً، وتتحكّم في سيرورته إنتاجاً وتلقياً في حال إغفاله تطبيق بندٍ من شروط الاِتفاقية العالمية في قواعد الاِستعمال على أقلّ تقدير ولن نتحدث هنا عن المواقف والإيديولوجيات؟؟.
ومن أهم الإشكالات أيضاً ما يتعلّق بمبدأ «حقوق المؤلف» أو حقوق الملكية؛ فأين هو الكاتب الّذي يُمكنه التنازل عن هذا الحق؟ بالإضافة إلى أنّ صناعة «اِسمٍ» أدبي قد تحوّلت إلى صناعة مُبتذلة بفضل الطفيليين الذين اِستسهلوا ركوب الموجة ونافسوا الكُتّاب الحقيقيين. أمّا الكاتبُ الفعلي فلا ينظر إلى أدبه إلاّ بعين الوالد لولده، إنّه اِبنٌ شرعي ولا يحقّ لغيره تبنيه. وقد لاحظتُ أنّ بعض الأسماء الروائية الجزائرية يفتحون زرّ التفاعل في الوسائط الإلكترونية في حدودٍ مضبوطة، ويُتيحون لمُتابعيهم هامشاً ضيقاً من حرية التفاعل؛ كأن يطلبوا مُشاركتهُم اِنتقاء غلاف الرواية، وألوانه وخطوطه، وغالباً ما تكونُ المقترحات جاهزة وعلى المُتفاعل فقط الاِختيار بينها، أو طلب الرأي في جعل روايةٍ سابقة تمتد في جزء ثاني، أو الإسهام في وضع نهايات لنصوصهم... وهي مُمارسات هامشية بالقياس إلى صميم المُمارسة الإبداعية.أخيرا. أين هو الناقدُ المؤهلُ الّذي سيجمعُ بين مجالين متباعدين كُلياً وهما الأدبُ والهندسة التقنية الرقمية؟؟ أم تُرانا سندعو إلى مبدأ «التشاركية» على مستوى النقد أيضاً، فيحقّ لمهندس الصوت مثلا أن يُقدّم قراءته لنصّ أدبي رقمي؟؟

* إبراهيم عبد النّور/ أستاذ الأدب العربي -جامعة بشار
تجربة تحتاج إلى توجيه
يعد الإبداع الرقميّ أدب المستقبل، لذلك علينا الاهتمام به وتوجيهه بواسطة النقد الأدبي الّذي يستوعب المعايير الفنية والجمالية التي يتميز بها النصّ الرقميّ في عصر الصورة، لأنّ طبيعة هذا النص مختلفة عن النص الورقي، فهو يجمع بين الكلمة، والصورة، والموسيقى، والألوان، ويمنح للقارئ أو المُتلقي  مساحة  للتفاعل، ويمكن اِعتبار أجناس الأدب الرقميّ المتمثلة في القصيدة الرقمية والتفاعلية، الرواية الرقمية، المسرحية الرقمية، ضمن حركة التطوّر التي عرفها الأدب. لأنّ التاريخ الأدبي عرف تطورا في الأنواع الأدبية تبعا لمتطلبات العصر. وتعد تجربة الأدب الرقميّ عامل إثراء وغنى في الأدب العربيّ المعاصر تراكم على المنجز من التراث الإبداعيّ والنقديّ، لأنّ التطوّر في الأشكال التعبيرية سيمة طبيعية تستجد من عصر إلى عصر.
لاشكّ في أنّ التكنولوجيا في عصرنا قد فرضت متطلباتها على الأدب، إذ لا يمكن لأي باحث أن يستغني عمّا تُتيحه التكنولوجيا من وسائط جديدة، لذلك لابدّ من تقديم مادة «الأدب والتقنية» للطلاب في المعاهد لمواكبة عصرهم، كما أنّه علينا اِمتلاك أبجديات المعلوماتية قصد الاِستفادة منها.
ولا شكّ أيضا أنّ ما يحدث اليوم يشكّل تغيّرا هائلا في مجال الإبداع الأدبي، إذ أُدخِل في عصر جديد، يجمع بين المرئي والمقروء، والصّورة والفكرة، والمسموع واللامسموع، والحركة والسّكون، فأنتج فضاء تواصليًا يتيح عقد صداقات حميمة مع هذا المولود الجديد من رحم التّكنولوجيا، والمعروف بمسميات عديدة منها: أدب تكنولوجي، أدب إلكتروني، أدب تفاعلي. وقد حاول الأدب العربي بدوره مسايرة هذا التّطور وإبرام صداقات مع هذا المولود الناتج من تزاوج التّكنولوجيا والأدب. وعليه فالإشكالية المطروحة تتمحوّر حول ما إذا نجح الأدب العربي في مسايرة هذا التّطور أم لا، وما هو حظ الأدب الجزائري منه؟
تشهد السّاحة الجزائرية حراكا ثقافيا نوعيا في الآونة الأخيرة، محاولة مواكبة العصر، ومحاكاة التجارب الجديدة في الكتابة الحديثة. لكن هذه الحركة لا تزال تدور في إطار التنظير، وقد يعود هذا إلى تأخر انتشار شبكة الإنترنت في الوطن العربي وبخاصّة في الجزائر «فلم تدخل كلية في العصر الرقميّ»، لهذا الثقافة الرقمية الجزائرية منعدمة.
لكن يمكن القول أنّ تجربة الأدب الرقميّ في الجزائر تحتاج إلى توجيه، لأنّ ما يُكتب في المواقع والمنتديات يتزايد يوميًا ولا يمكن تجاهله، لذلك على الدارسين الاِهتمام به وتصنيفه وتقييمه. إنّ اِرتباط الأدب الرقميّ كتابةً ونشراً بالوسائط الحديثة التي تُطالعنا بها التكنولوجيا، يُطرح مجموعة من التساؤلات منها: ما مفهوم الأدب الرقمي ؟ وما أهم مصطلحاته؟
فالأدب الرقميّ هو اِنتقال النص من الفضاء الورقي إلى الفضاء الرقميّ الّذي يعتمد الصيغة الرقمية الثنائية، حيث تعالج المعلومات وتستخدم كأرقام ثنائية (1/0) لتخزن كنص في كمبيوتر شخصي، ومنه اِكتسب الأدب صفة الرقمية، فظهر ما يُعرف بالأدب الرقميّ أو الأدب الإلكتروني. وبما أنّ الأمر صار مفروضا وطبيعيا في هذا العصر، فلابدّ أن نتأقلم مع هذا النّوع الجديد من الأدب، وأن نبحث عن كيفية تلقيه وقراءته ونقده، ذلك أنّ الجيل الجديد يُصاحب الوسائل التكنولوجية الحديثة.
قد ينشأ أديب، شاعر، ناقد، وتكون أعماله الإبداعية ورقية عادية بعيدة كل البعد عن الإلكترونيات، لها خصائصها ومميزاتها وطرائقها لتصل إلى المتلقي، ولكنهم قد يعانون نوعا من الخوف من التكنولوجيا والأجهزة الحديثة.
وبما أنّ الأمر صار مفروضا وطبيعيا في هذا العصر، فلابدّ أن نتأقلم مع هذا النّوع الجديد من الأدب، وأن نبحث عن كيفية تلقيه وقراءته ونقده، ذلك أنّ الجيل الجديد يصاحب الوسائل التكنولوجية الحديثة، وعليه كما أشار أحمد فضل شبلول -»أدباء الانترنت أدباء المستقبل»- هذا الأمر سينتهي في غضون السّنوات القليلة القادمة لأنّ الأديب أو المثقف الّذي يستطيع التعامل مع أجهزة الكومبيوتر ويستطيع أن يشترك في شبكة عالمية مثل شبكة الإنترنت سيكون العالم كلّه مفتوحا أمامه.

* محمّد الأمين مصدّق/ أستاذ وباحث -قسم الأدب العربي- جامعة محمّد خيضر بسكرة
لم يتجاوز حدود التنظير في الجزائر
طفت على السطح فوضى مصطلحيّة في خضمّ المجال الإعلامي المُتعلّق بالأدب الّذي يُنتَج عبر الحاسوب؛ حيث ذكر «جميل حمداوي» كثيرا من هذه المصطلحات مؤصّلا لظهورها، ومُفضّلا في النهاية مصطلح «الأدب الرقميّ» الّذي تُعرِّفه الباحثة فاطمة البريكي أنّه: «الأدب الّذي يُوظِّف معطيات التكنولوجيا الحديثة، خصوصًا المعطيات التي يُتيحها نظام النصّ المتفرّع (Hypertext) في تقديم جنس أدبيّ جديد، يجمع بين الأدبيّة والإلكترونيّة»، ويُقسِّم «فيليب بوطز» هذا الأدب إلى مجموعتين رئيسيّتين: «الأولى تُولي الأولويّة لقراءة النصّ على الشاشة، والثانية تركّز أكثر على نظام الاِتّصال في مجموعه».
وقد خطا هذا الأدب خطوات واسعة في الدول المُتقدّمة؛ إذ غدا اِتّجاهًا إبداعيًّا جليّ الحضور، قُدِّمت في إطارهِ مجموعة من الأعمال الرصينة التي تنصهر في بوتقة أجناس أدبيّة مختلفة في مقدّمتها حسب «جمال قالم»: «الشِّعر التفاعلي، والمسرحيّة التفاعليّة، والرواية التفاعليّة. ولكلِّ جنس من هذه الأجناس الأدبيّة التفاعليّة أعلام نظّروا له، وأرسوا أصوله، وبيّنوا خطوطه وملامحه، وأبدعوا نصوصه الأولى». وجميعها اِستثمرت معطيات الرّقمنة والاِكتشافات المُتواترة في ميدان الحوسبة وبرامجها وطوّعتها لخدمته، فأثرت السّاحة الأدبيّة وقدّمت الإضافة النوعيّة، ومن الروّاد الأوائل للأدب الرقميّ: «مايكل جويس»، «فرانسوا كولون»، «فرانك دوفور»، «روبرت كاندل».
أمّا في الوطن العربي، فلا يزال هذا الوافد الجديد يُعاني جملة من المشكلات التي تحول بينه وبين بزوغ نجمه؛ حيث لا ينفكّ يُراوح مكانه مُقدّما نفسه في صورةٍ مُحتشمة، لا تُرضي التطلّعات ولا تمسّ سقف الطموحات، تقول الباحثة «نسيمة بوزمام»: «الحقيقة أنّ السّاحة الأدبيّة في الوطن العربيّ لم ترتقِ بعد إلى مستوى التعامل مع النصّ الرقميّ كما هو الحال في التجربتين الأوروبيّة والأمريكيّة»، ومن أبرز الكُتّاب الذين قدمّوا أعمالا أدبيّة رقميّة نجد الأردني «محمّد سناجلة»، والعراقيّ «مشتاق عباس معن». أمّا في ما يخصّ واقع الأدب الرقمي في الجزائر، فما يزال حسب الباحثة «يخطو أولى الخطوات ولم يتجاوز بعد حدود التنظير»، وما قُدِّم في إطاره لا يتجاوز طابع المحاولات الفرديّة التي اِنتهجها بعض الكُتّاب المبتدئين.
وتعود الأسباب الأساسيّة في معاناة الأدب الرقميّ في الوطن العربيّ إلى التأخّر التكنولوجي والمعلوماتي الّذي تُعاني منه أغلب الدول العربيّة. ولا جرمَ أنّ المعلوماتية هي الوسيط الّذي يتبلور عن طريقه هذا الأدب، والتأخّر فيها، وعدم مُواكبتها، والقصور في اِمتلاكها وتوظيفها، يعدّ عقبة كأْداء في طريق الإبداع والإنتاج. كما أنّ قلّة حيلة كثير من الأدباء العرب في الميدان الرقميّ، وعدم معرفتهم بكثير من البرامج التي تُستخدم في هذا الأدب، يحول بينهم وبين الإبداع وتقديم الإضافة، فحتّى لو كان الكاتب مُحمّلا بجملة من الأفكار، فإنّ جهله بالحاسوب وأنظمته وبرامجه، سيقف حاجزا في طريق إبداعه، ويمنعه من الإنتاج. وما يُتطلّب في المبدع يُنشد في المتلقّي أيضا؛ إذ يُشير «السيد نجم»، إلى أنّ «القارئ ينبغي أن يكون قادرًا على التفاعل مع النصّ بمختلف صوره وأشكاله المُمكنة»، وهذا ما يفرض عليه حسب «سميّة معمري» «التحكّم في آليات الكتابة الرقميّة تجاوبًا مع الحداثة الرقميّة والتي تعتمد أساسًا على الوسيط الرقميّ».
في الأخير. نُشير إلى أنّه ينبغي النظر والتدبّر بعينٍ فاحصة إلى واقع «الأدب الرقميّ» في الجزائر والوطن العربيّ، واِستشراف حلولٍ وازنة تُتيح له فرصة إيجاد مكانٍ يليقُ به في صفِّ نظيره العالميّ.

* عبد الحميد جودي/ أستاذ وباحث أكاديمي –جامعة بسكرة
جنس أدبيّ جديد اِنبثق من رحم التقنية مُفرزا أشكالا متنوعة
فتحت الثورة الرقميّة التي شهدتها الساحة الأدبيّة منذ العام 1986 مجال المزاوجة بين الأدب والتكنولوجيا، أو بالأحرى مجالا للجمع بينهما، الّذي أنتج ما يُعرف بالأدب الرقميّ أو التفاعليinteractive littérature كجنسٍ أدبيٍّ جديد، اِنبثق من رحم التقنية، مُفرزا بدوره أشكالا متنوعة منها: الشّعر التفاعلي hyper poetry- والمسرح التفاعلي – hyper drama والرواية التفاعلية–interactive novel  .
يبدأ تاريخ الرواية التفاعليّة من منتصف الثمانينات، بصدور أوّل رواية تفاعليّة لمايكل جويس–Michael joyce– بعنوان «قصة الظهيرة–Afternoon a story-»، والتي قام بتأليفها مُستخدمًا برنامج المسرد –story spqce- في مختبر الذكاء الاِصطناعي التابع لجامعة ييل–yal – لكتابة النصّ المتفرع- هو تسميّة مجازية لترابط النصّ والصور والأفعال والأصوات معًا في شبكة من الوصلات مركبة وغير تعاقبيّة بشكلٍ يسمح للمستعمل أن يجول في الموضوعات ذات علاقة دون التقيد بترتيب. وقد تلت هذه الرواية إصداراتٌ عديدة، ما يُفسر طبيعة هذه الرواية التفاعليّة في كتابتها وتأليفها على برامج إلكترونية، إذ تعد رواية “عشرون في المائة حب زيادة” لفرانسوا كولون–f .coulon– ورواية «الزمن والقذر» لفراند دوفور – f.dufour– أوّل روايتين تفاعليتين كُتبتا باللّغة الفرنسية سنة 1996 على قرص مضغوط. أمّا عن حضور الرواية التفاعلية في الساحة الأدبيّة العربيّة، لا نجد أبلغ من تعبير فاطمة البريكي وسعيد يقطين في قولهما: (ما تزال كتابة النصّ المترابط في ثقافتنا العربية محدودة جدا، بل تكاد تكون أشبه بالمنعدمة، ودونها الكثير من القيود التي ما تزال تقلل من أهمية الاِنتقال إليها في الوعي والممارسة ...).
وعلى الرغم من اِفتقار الساحة النقديّة العربيّة للوعي التكنولوجي، إلاّ أنّه لم يغب على مستوى الإبداع التفاعلي، بظهور أوّل رواية تفاعلية عربيّة لمحمّد سناجلة سنة 2001، تحمل عنوان “ظلال الواحد”، التي نشرت على موقعه الخاص، مُستخدمًا تقنية – Links- المستخدمة في بناء صفحات الويب، والتي قال عنها محمّد فضل شلول مشيدا: (...من يقرأ رواية –ظلال الواحد– يكشف بسهولة أنّ كاتبها أوّل أديب عربي، وربّما في العالم اِستطاع أن يُحدّد تقنيات شبكة الإنترنيت ويخضعها لأفكاره الروائية...). كما صدرت له رواية سنة 2005 تحمل عنوان “شات” على موقع إتحاد الكُتّاب العرب. ما يمكن قوله أنّ النصوص الأدبيّة الرقميّة أو التفاعليّة المُعايَنة على شاشة الحاسوب، تتصف بطبيعة مختلفة وخصائص مغايرة عن النصوص الورقية، وذلك تبعًا للوسيط الجديد.

* حمزة قريرة/ باحث أكاديمي وكاتب مسرحي –جامعة قاصدي مرباح ورقلة
يحتاج زمنًا لينضج فلسفيًّا وبنائيًا وقرائيًا
قبل الغوص في واقع الأدب الرقميّ العربيّ عمومًا والجزائري بوجهٍ خاص، لابدّ من التعرّف على هذا النمط الكتابي المُختلف من حيث البِناء والوسيط الحامل له، فلا يمكن التعرّف على حدوده التجريبية دون معرفةٍ بآليات بنائه وفلسفة إنتاجه. الأدب الرقميّ الّذي يُعرف بالأدب التفاعلي هو الأدب المُنتج والمُوجّه عبر الوسيط الإلكتروني الرقميّ؛ أي الأدب الناتج عن اِتحاد الخصائص الأدبيّة بالتقنيّة الرقميّة، فهو أدبٌ اِستفاد من مُختلف الصياغات التي ظهرت في النّصّ الشبكي والمُفرّع hypertext بنسقيه السلبي والإيجابي الّذي يمنح المتلقي فرصة المشاركة في بناء النّصّ. لكن هذا المفهوم الأكثر عمومًا يُدخِل تحت الأدب التفاعليّ الرقميّ كلّ النصوص الرقمية (المُرقمنة) ذات الأصل الورقيّ، لهذا نقوم بالتخصيص أكثر في أنّ الأدب التفاعليّ الرقميّ هو أدبٌ يتمُّ إنتاجهُ مُباشرة عبر جهاز الحاسوب من خلال برمجيّات حاسوبيّة خاصّة (أو مواقع مُحدّدة) حيث تمنح النّصّ وجوداً شبكيًا ومفرّعًا عبر طبقات مُختلفة يتمُّ ربطها بروابط تشعّبية، كما تربط النّصّ المكتوب (اللغوي) ببنيات غير لغوية يحتويها (صوت-صورة–حركة..) بهذا تتعدّد الوسائط في تقديم متنه، وتكون مُختلف هذه الوسائط مُساهِمة في البناء باِعتبارها بنيات أساسية في النّصّ وليست شكلا للتزيين، إضافةً إلى ذلك تمنحُ البرمجيات الحاملة للأدب التفاعليّ الرقميّ المُتلقي فرصة الإضافة والتعديل على النّصّ النواة بكلِّ حريّة، ليكون أدبًا تفاعليًا رقميًّا من نمط النّصّ المفرع الإيجابي وهي أعلى درجات التفاعلية التي يمكن أن يصلها النّصّ، ويعد الشرط الأخير أهمّ شرطٍ لتحقيق (أدب تفاعلي إيجابي) ينطلقُ بكلِّ حرية، فلا بدايات ولا نهايات له، ولا يَعترِفُ بالأبوة النّصيّة، بل هو مُشاع ويمكن للجميع المشاركة في إنتاجه. كما نشيرُ في هذا المقام إلى أجناسٍ مُختلفة تُمثلُ هذا الأدب حيث نعثر على الرواية والشِّعر والمسرح في حدود معينة. أمّا واقع هذا الأدب عربيًا فهو بسيط الحضور باهت التلقي، لم يخرج في معظمه من عباءة الورقي ثنائية البعْد، ولم يتخلّص بعْد من سيطرة المؤلف وملكيته النّصّ، إضافة لعدم وجود مؤسسات لتمرير هذا النمط الكتابي ليخلق قاعدة قرائية عند جمهور تعوّد الورقي، وعليه مازال الأدب التفاعلي الرقمي في خطواته الأولى ويحتاج زمنًا لينضج فلسفيًّا وبنائيًا وقرائيًا.
لكن هذا لا يمنع من الكلام عن تجارب عربية وجزائرية في المجال قدمت ومازالت تُقدّم الجديد مع تفاوتٍ في درجة التفاعلية، اِنطلاقًا من تجربة «محمّد سناجلة» في الأردن وتجربة «مشتاق عباس معن» في العراق وتجربة «لبيبة خمار» و»منعم الأزرق» في المغرب. وتجربتي المتواضعة في الجزائر حيث قدّمتها عبر مُدونة مُعدّلة رقميًا، يتمكن من خلالها المُتلقي من التفاعل الإيجابي، كما تضمن المشاركة الفاعلة والآنية عبر الإنترنيت مباشرة وهي موجودة على الرابط: https://www.litartint.com.
كما تحمل العديد من الأجناس التفاعلية وتمنح المُتلقي إمكانات تقديم أنويته الخاصة، إضافةً إلى أنّها تُمكنُني من التعرّف على المُتلقين من جوانب كثيرة (اللّغة–البلاد–المستوى التعليمي-الميول القرائية–مدة جلسة القراءة...) وهي معلوماتٌ مهمّة تُوجِه عملية إعادة البناء، كما تضمن مسارات لترميم صدوع النّص الّذي يتوالد باِستمرار.. والأمر المُفرح في العملية أنّ المُتلقي الجزائري اليوم -حسب الإحصاءات- يحتل المرتبة الأولى في عدد جلساته حول النّص التفاعلي الرقميّ ومدة زمنها يأتي بعده المُتلقي المصري ثمّ المغربي والأردني ثمّ الألماني والروسي... وقد بلغ عدد الدول التي يدخل منها المتلقون أكثر من 19 دولة حول العالم، أمّا عدد المتلقين الإجمالي خلال الشهر، فهو أكثر من(40 ألف متلق) وهي نسبة مهمة بالنسبة لنصٍّ في خطاه الأولى. نتمنى أن يزهر بمشاركة المتلقين ويضع قدمه على قاعدة قرائية تمنحه فرصة الظهور الجلي على الساحة كما تضمن له الاِستمرار وتمرير بلاغة أخرى تخلق جمالية مُغايرة.

* دليلة مكسح/ أستاذة وباحثة أكاديمية _جامعة باتنة1
ما زلنا على مسافة بعيدة عن إنتاج نصوص أدبية عبر الوسيط الرقميّ وإثارة النقاش حولها
عصرنا عصر الرقمنة باِمتياز، ونحن بحاجة إلى مواكبته شئنا ذلك أم أبينا؛ لأنّنا بالضرورة سنجد أنفسنا رهن التقنيّة ومتطلباتها، ومناقشةُ مسألة الأدب الرقميّ في نظري تحتاج أولاً إلى حسم مسألة المفهوم، ومن ثمّ عرض القضايا والاِنشغالات التي تتعلق به، فهل حَسَمْنَا يا ترى مفهوم الأدب الرقميّ؟ ماذا نعني به بالضبط؟ هل هو الأدب الّذي يُنتشر عبر الوسائط الرقميّة؟ أم هو الأدب الّذي يتناول قضية الرقمنة؟ فإذا كنا نعني به الأدب الّذي ينتشر عبر الوسائط الرقمية، فعلينا مناقشة مسألة التقنية وآثارها على الذات الإنسانية وعلى ما تُنتجه، ومناقشة مفهوم العملية الإبداعية ضمن الوسيط الرقمي وخصائصها الموضوعية والفنية، ومناقشة كيفيات إنتاجها وتلقيها، وهو ما يُثير إشكال قدرة الأديب العربيّ والجزائريّ على التحكم في التقنية، وقدرته على إنتاج (نص أدبي رقميّ)، يكون هو المسؤول عن إنشاء عناصره التقنية من أصوات وألوان وأضواء وحركة، أو أنّ مهمته ترتبط فقط بكتابة النصّ ثمّ تسليمه لتقني يُحوله إلى مادة رقمية، وهنا يُطرح إشكالٌ آخر حول قيمة النصّ الفنيّة؛ لأنّها سترتبط بمجهود التقني إذا كان الأديب غير مُتمرس تقنيًا، وهو ما يُخرج النصّ من الملكية الفردية لكاتبه إلى ملكية جماعية ترتبط بالتقنيين الذين يُحولونه إلى نصٍ رقميّ، وبذلك نحن أمام إشكالات عديدة تجعل مفهوم الأدب مفهومًا مختلفًا عمَّا ألفناه، وتفتح الباب واسعًا أمام قضية الملكية وما يتعلق بها من حقوق، وقضية القيمة الجماليّة، وقضية المسألة التجنيسيّة لنص تتحوّل مادته الخام من اللّغة إلى عناصر أخرى غير لغوية، وقضية قانونية الإنتاج والنشر والترويج.
أمّا إذا كنا نعني بالأدب الرقميّ مسألة الرقمنة موضوعًا يُعالجه الأديب من حيث خصوصياتها وتأثيراتها على حياة الإنسان، فنحن بحاجة أولا إلى الدخول بعمق في عالم الرقمنة، والتحكم فيه، ثمّ تتبع آثاره على الذات الإنسانية، وعلى علاقاتها ومعتقداتها بغض النظر عن طبيعة النصّ الأدبيّ ورقيًا كان أم إلكترونيًا. ومن منطلق ما عرضته أستطيع القول أنّنا ما زلنا بعيدين عن إنتاج نصوص أدبية عبر الوسيط الرقميّ وإثارة النقاش حولها؛ لأنّنا لم نتحكم في التقنية بعد، ولم نتهيّأ لتغيير مفاهيمنا حول العملية الإبداعية بعامة، وموضع المُؤلف منها، وما زلنا بعيدين عن تذوق هذا النوع من الأدب الّذي يُكسر أفق اِنتظارنا وذائقتنا، نحن الذين ألفنا الطرب لجبروت اللّغة وحدها، إذ مازلنا نركن للمعطى اللغوي فحسب، ونغض الطرف عن معطيات أخرى تُتيحها التقنية، وهو ما ينعكس على مفهوم الجماليّة الّذي بقيَّ مفهومًا مُقيداً بِمّا تُتيحه اللّغة فقط، نحن لحد الآن لمسنا قشور التقنية فقط، ولم نعرف كيف نتعامل معها، ولم نستوعب التغييرات الأولية التي بدأنا نلمسها حول مفهوم الكتابة ومفهوم الكاتب في وسائل التواصل الاِجتماعي، التي فتحت المجال على مصراعيه.

 

الرجوع إلى الأعلى