حدثنا ترتبو ولد الدرداف قال:
كنت يوم كذا في مدينة كذا التي قصدتها للتجارة، ونزلت بها في فندق تنفدالة وهو موجود بمركزها ويطل على ساحتها قضيت يومي الاول في قضاء حوائجي التجارية والتقيت ببعض من صرت أعرف من أهلها وعند غروب شمس ذلك اليوم قصدت أحد مطاعمها الشعبية، أين أكلت، ثم قفلت عائدا الى الفندق، وقد نال مني التعب فالقيت بجسدي على السرير دون أن أكلف نفسي نزع ملابسي وما أن شعرت بدفئ الغطاء حتى بدأ النوم يداعب جفوني ليلتها نمت نوما عميقا، فلم تزعجني الأحلام ولا كوابيس، وما أن شقشق نور الفجر حتى نهضت وكانت وجهتي الأولى الحمام، وبعد أن اغتسلت وأثناء انهماكي في ارتداء ملابسي شنفت أذني أصوات اتية من ساحة المدينة، لكنني لم أتبين ما كانت تصرخ به فقصدت النافذة، وكانت تطل على الساحة قصد معرفة ما يجري، فرأيت جموعا غفيرة من العباد من أعمار مختلفة قابعة في الساحة وكانت تلوح بالأيدي، لكنني رغم فتحي النافذة لم أتبين ما كانت تهتف به وقلت لنفسي ربما هي زيارة رسمية لمسؤول كبير في الدولة لهذه المدينة وأن هذه الجموع قد جندت لاستقباله كالعادة.

قصة: بقلم: جروة علاوة وهبي

عدت لاتمام زينتي، وعندما انتهيت نزلت الى بهو الفندق وقصدت قاعة صغيرة خصصت لتقديم فطور الصباح لنزلاء الفندق، وأثناء تناولي الفطور المكون من الحليب والقهوة والزبدة والمربى والخبز وعصير البرتقال، عن لي أن أسأل أحد ندل الفندق عما يجري في الساحة فقال لي أنه تجمع احتجاجي، لكنه لم يوضح لي عن ماذا تحتج الجموع.
خرجت من الفندق فوجدت نفسي وجها لوجه مع جموع المحتجين، لم أعرف ماذا علي أن أفعل؟ حاولت شق طريق لي وسط هذه الجموع فلم أفلح كانت الجموع متراسة يسند بعضها البعض وكان من المستحيل أن تجد منفذا يمكنك تنفذ منه بعيدا عنها.
بعد عدة محاولات باءت كلها بالفشل عدت الى الفندق وقصدت هذه المرة قاعة أخرى كتب على بابها كافيتريا، اخترت مكانا قريبا من نافذة يمكنني من خلالها رؤية الساحة ومراقبة حركة الجموع فيها القيت بحثتي على كرسي فراح يئن من ثقل جثتي التي جثمت على انفاسه وكأني يشتكيني وبعد أن عدلت قعدتي لوحت بيدي لعامل الكافيتريا وحين ابصرني أشرت له بعلامة أن أعصر لي قهوة.
وأضاف ترتبو ولد الدرداف قائلا:
بعد تأملي لمن في الساحة للحظات طويلة ادركت انهم لم يكونوا منفكين حتى يأتيهم مرسول من السلطة ليتلو عليهم بيانا بما قررته السلطة استجابة أو رفضا لما يطالبون به.
قال ترتبو ولد الدرداف حينها عقدت العزم على معرفة ما يطالب به هؤلاء الناس الذين احتلوا ساحة المدينة منذ أن شقشق الفجر وما انفكوا واقفين، وقد شطعت الشمس وبدأت بارسال اشعتها الحارقة على رؤوسهم بحيث شرع بعضهم في عملية لف قطعة من القماش الأصفر قصد حماية رأسه من لهب أشعة الشمس التي كلما تقدم الوقت زادت قوة حرارتها ولاحظت ان البعض قد بدأ يتصبب عرقا.
سألت العامل في كافتيريا الفندق الذي أنا نزيل فيه
-لماذا تقف كل هذه الجموع من العباد تحت أشعة الشمس في ساحة المدينة؟
قال: يقال أنهم تجمعوا للاحتجاج
قلت الاحتجاج على ماذا؟
قال: أنا عامل كافتيريا ولست مسؤولا لأعرف عن ماذا يحتجون
قلت : لماذا لم يأت اليهم المسؤول عن المدينة ليرد على مطلبهم.
قال: أرجوك لا تجرني الى مالا أريد الحديث عنه وفيه
قلت: ألست من أهل المدينة؟
قال: لا أنا من مدينة أخرى
فسكت وعدت انظر من خلال النافذة الى الجموع المحتشدة، وقد أصبح العرق ينساب سيولا على الجباه، وكان يلمع تحت أشعة الشمس كأنه حبات لؤلؤ براقة.
لم أكن أعرف ماذا علي عمله وقد صرت سجينا في هذه المدينة ولم يعد بإمكاني الرحيل، وقد أغلقت كل الطرق وتوقفت حركة السيارات والحافلات والقطارات، لقد شلت المدينة تماما.
فجأة سمعت صوتا صارخا:
-لقد جاءوا.
فعدت انظر ناحية الساحة لأرى الذين جاءوا، وابصرت سربا من السيارات السوداء تشق طريقها وسط الجموع المحتشدة، وما أن وصلت قدام بناية يبدو أنها دائرة حكومية حتى توقفت، ورأيت أشخاصا ينزلون  منها كلهم حليقي الرؤوس وكلهم يرتدون كوستيمات سوداء وعلى عيونهم نظرات سوداء، وأن الفندق الذي أنا نزيل فيه بعيد عن البناية فلم أتبين ماذا كانوا يقولون للجموع التي أحاطت بهم ولم أعد أرى سوى الرؤوس الحليقة، لم يمض الكثير من الوقت حتى رأيت السيارات السوداء تنطلق من جديد مخترقة الجموع لكنها هذه المرة سارت في الاتجاه المعاكس لمجيئها، وما أن اختفت عن الأنظار حتى دوت في الجو صفارات سيارات الشرطة، ثم سمعت دوي انفجارات وتلته أخرى وارتفع الدخان وتململت الجموع، وسمعت صوتا يصرخ ان اصمدوا
لكن توالي الانفجارات لم يترك مجالا للصمود فتحركت الجموع يمينا ويسارا، لكن يبدو أن الذي غطى سماء ساحة المدينة، وحجب عني الرؤية تماما قد عجل بانفلات الأمور وأحدث فوضى عارمة، اذ ارتفعت الصراخات وكثر الهرج في الساحة، ثم سمعت صوت طلقات رصاص تلعلع في سماء الساحة.
...
ما يحدث في ساحة المدينة من انفجارات وغيوم الدخان ورائحة البارود اعادني الى طفولتي في قريتي، يومها كان هجوم الجيش الفرنسي هجوما شرسا، شاركت فيه الدبابات والمدفعية والطائرات كانت القنابل تتساقط من السماء، ومن فوهات المدافع أما قوات  المشاة، فكانت ترش حوارى القرية بطلقات رشاشاتها، ولف الدخان سماء القرية دخان كثيف حجب الرؤية، ولم تنقطع الانفجارات ولا زغاريد رصاص الرشاشات، ولم يجد سكان القرية من مهرب لهم فكانوا يهرولون في دروب القرية في كل الاتجاهات بحثا عن مكان يحميهم  من شظايا القنابل ومن رصاص الرشاشات كانوا يتلاطمون كالعميان، وتعالى صراخ الاطفال والنساء، وعم القرية هرج كبير  كان يوما من أيام الجحيم مات فيه عدد كبير من الاطفال والنساء والرجال
...
قال ترتبو ولد الدرداف، لعنت اليوم الذي وصلت فيه الى هذه المدينة، ولعنت نفسي، وتجارتي والناس الذين تجمهروا  في ساحة المدينة، ولعنت السيارات السوداء ومن كانوا راكبين فيها، ولعنت الذين جاءوا بعدهم وامطروا الساحة بالقنابل المسيل للدموع والتي غطى دخانها سماء المدينة فعم الظلام واحتجبت أشعة الشمس، وسالت الدموع من العيون أنهارا وحدثت اغماءات عديدة وحالات من الغثيان، وتحولت الساحة الى ميدان حرب تجري فيه معركة بين طرفين غير متكافئين، طرف يملك السلاح والقنابل، وطرف لا يملك غير الصراخ ملء الحناجر.
ولم يكن الذين تجمعوا منفكين ولا الذين يملكون القنابل منفكين هم كذلك.
عمت الفوضى ساحة المدينة، وداست ارجل المهرولين بحثا عن ملجأ يجنبهم وصول دخان القنابل الى أنوفهم وعيونهم، داست أجساد من سقطوا أرضا من كبار السن وأطفال صغار ومن العجائز إنه يوم من أيام الجحيم الأسود سواد دخان القنابل.
بعد خروجي من الفندق لم أعرف وجهة معينة أتوجه اليها فرحت أهرول مع الجموع المتلاطمة كأمواج بحر هائج.
واحسست بشيء حار يقرصني  في فخدي الأيمن احسست كأن سفودا ساخنا يغرز في فخدي فتهاويت ساقطا على الأرض بكل ثقل جثتي وأظلمت الدنيا وانطمست الرؤية، ولم أعد اسمع من الصراخ سوى طنينا اشبه بطنين خلية النحل في حالة هيجان، غامت الدنيا وانطفأ النور في عيني، وماعدت أبصر، ماعدت اسمع، توقف مخي عن العمل، ماعدت ادرك ما يحدث لي ولا حولي، هل هو الموت؟ ربما، أم هي غيبوبة عابرة جراء ما أصابني؟ هل سيعود بي وعي؟ هل سأبقى في غيبوبتي؟
لن أجهد نفسي أكثر، كم أنا في حاجة إلى النوم.
نم يا ترتبو نم .. تمرد .. تمرد.. دع لجسمك حرية التمرد .. استرخي أكثر .. هكذا جيد.. لا تتحرك، سلم نفسك للسكينة، اهدأ .. دع الساحة وهرجها وضوضاءها، وقنابلها ودخانها وصراخ الحناجر المحتشدة فيها، نم .. لا تتحرك .. لا تتحرك .. هكذا افضل .. نم أنت في حاجة الى النوم .. استرح .. اجمد لا تتحرك.
الخروب جوان 2015

الرجوع إلى الأعلى