المثقف الأمريكي الوحيد الذي يقرأ الكتب
في الذكرى المئوية لميلاد الكاتب الأمريكي صول بيلو أعادت دور النشر طبع كتبه من روايات و جمعت كتاباته غير الروائية اللامتخيلة في كتاب بعنوان « هناك ببساطة الكثير مما يمكن التفكير فيه» أعده بنيامين تايلور في 544 صفحة صدر عن منشورات فايكنغ، كما صدرت سيرة الكاتب الذي لم ينقطع ذكره بين الناس بعنوان «حياة صول بيلو نحو الشهرة و الثروة» بقلم زاكاري ليدر عن دار نوف في 812 صفحة.

بقلم رافائيل ماغاريك * ترجمة عمر شابي

الكاتب رافائيل مغاريك من جامعة كاليفورنيا في بيركلي متخصص في الدراسات الإنكليزية و الأدب اليهودي نشر هذا المقال بالمناسبة و نترجمه لقراء النصر.
حينما زار الكاتب الأمريكي صول بيلو (10 جويلية 1915- 05 أفريل 2005) لأول مرة إسرائيل عام 1961 طلب منه الكاتب الكبير أنيون أن يسمح بترجمة رواياته إلى العبرية لأنه كما قال « لا يمكنها أن تخلد إلا في اللسان المقدس» و تذكر بيلاو أن طلبات أنيون اللطيفة كانت مؤثرة مثلما ذكر في محاضرة له بعنوان كاتب يهودي في أمريكا عام 1988. و أضاف « حينها شعرت أن الموت يطوف بي و صرت مهتما بأنني لاشيء». و بمرور مئة عام على مولده صدر الجزء الأول من سيرة الكاتب بقلم زاكاري ليدر البروفيسور في جامعة رويهامبتون في لندن و مجموعة من مقالاته غير الروائية، و هذان الكتابان يمنحان الخلود لصول بيلو بفعل ما يتضمنانه من تفاصيل عن حياته الغنية. و لا يزال سؤال أنيون عن البقاء محيطا ببيلو، فمن يقرأ أعماله اليوم؟ و هل من مستقبل لرواياته؟
المشكلة أن عوالم بيلو الاجتماعية قد ماتت، في نفس الوقت مع موت القوى التي جعلت منها شهيرة. ولد بيلو في الكيبيك بكندا و نشأ في شيكاغو مدينة الصناعات و شبكات سكك الحديد و الجريمة المنظمة. والده كان تاجرا محليا صغيرا، و بالنسبة لقراء  النمط المحافظ الحانق في أعمال تي. أس إليوت، أو رحلات الصيد الذكورية في أعمال هيمنغواي، تبدو أعمال بيلاو الكبيرة مثل «مغامرات أوجي مارش» أو « اقتنص اليوم» و «هرتزوغ» مغطاة بواقعية سوداء و تطعم ذوق الرأسمالية العرقية. و اليوم تلاشت أفران صهر الفولاذ و لم تعد تجهيزات الصناعة القديمة مستعملة و توقفت ماكينة الصناعة الأمريكية. و في عصر «الشبكة» صارت الروايات الأمريكية الصادرة في منتصف القرن الماضي عن محيط الأفرو-أمريكيين من سكان المدن مثل رواية ريتشارد رايت «الإبن الأصلي» أو جيمس بلدوين «إذهب و قلها على رأس الجبل» و كأنها نبوءات. و في 2015 لم تعد مدن صول بيلو توحي بالمخاطر و الإفلاس و الخيانة الزوجية و السياسات الراديكالية و كلها كانت مواضيع تثير حماسة القراء. و ما بقي من ذلك كله إلا الحنين.
كما تلاشت أيضا المجموعة التي منحت بيلاو جذوره و ناديه الاجتماعي، الناس الذين كان يشرب معهم و يتناقش معهم و الذين كانوا يقومون بعروض لكتبه أمثال بروفيسور جامعة كولومبيا و الناقد الأدبي ليونال تريلينغ، و كاتب التعليقات و من أوائل المحافظين الجدد نورمان بودهوراتز و الفيلسوفة حنا أرندت. بيلو كان آخر جيل يزدري مظاهر التقوى التي كان يظهرها الوالدان، لكنه يبقى مرتبطا رغم ذلك بثقافتهما. كانا يتكلمان اليديشية (لغة اليهود القديمة قبل إحياء العبرية و جعلها لغة رسمية في إسرائيل) و يتقاسمان كما كبيرا من الأساطير (كان بيلو يعرف الإنجيل جيدا) و حساسية المثقفين و امتعاض اللامنتمين. و بالنسبة لنا فكل هذا الإرث تقلص إلى الكعك بالسمك المشوي، و ربما الكتب عن بيلو.
في الثانوية كتب بيلو و صديقه إسحاق روزنفيلد نسخة يديشية عن عمل تي. أس. إليوت «أغنية حب جي ألفريد بيفروك» و عنوانها «نشيد أناشيد مندل بيمشتوك» و تمت ترجمتها مؤخرا إلى الإنكليزية من قبل روث ويس.
في بيمشتوك تتحرك النسوة جيئة و ذهابا لكنهن لا يتكلمن عن مايكل انجلو بل عن ماركس و لينين. و المساء ينتشر عبر السماء ليس كمثل مريض مخدر على طاولة لكن مثل صلصال و طين بعثت فيهما الحياة بقدرة خارقة في التاسع من أوت. نحن اليهود، يقول بيلاو بدأنا النواح على عجزنا و ضعفنا قبل أن يعرف أجداد إليوت عن الضجر.
أي مثقف أمريكي يهودي اليوم يمتلك مثل هذه الدعابة أو يستمتع بترانيم الأشعار اليديشية؟ من يقرأ «مغامرات أوجي مارش» اليوم. من يغضب لغياب «يهودي» عن أوجي تعريفه بذاته «أنا أمريكي، ولدت في شيكاغو. فهم قراء بيلو في حينه أن هذا السقوط كان تعبيرا جريئا، لكن اليهود الأمريكيين صاروا أمريكيين أكثر حتى أن هذه النقطة لم تعد مثيرة للاهتمام. كانت طموحات بيلو الأدبية أن يضاهي الثقافة الأوروبية الرفيعة بما هو عليه يهودي مهاجر في الأرض، إلى حد أنه يتخيل أوجي مع هيراقليطس. لكن اليهود لم يعودوا كما كانوا غرباء، و في عصر الديمقراطية الرقمية لا توجد هناك ثقافة أنكلوفيلية راقية يمكن أن يبقى أحدهم خارجها. و تبين أن بيمشتوك و بيفروك كليهما يمكن الاستغناء عنهما.

سافر إلى المكسيك ليطرح الأسئلة على تروتسكي

يمكن للكتاب أن يكونوا أكثر جاذبية حينما تتلاشى مدنهم و قبائلهم في الأساطير، لكن حين تصير أفكارهم مبتذلة فتلك هي المشكلة، و هذا أمر صحيح بدرجة خاصة في حالة بيلو، الذي تدرج في الجامعة دارسا للأنثروبولوجيا، و ألقى دروسا لسنوات طويلة في جامعة شيكاغو، و كان من أندر الروائيين الأمريكيين يمتلك تعليما أكاديميا صارما ما وراء الرواية. (غور فيدال كان يسميه «المثقف الأمريكي الوحيد الذي يقرأ الكتب»).
تنقل بيلو من السخرية من بيفروك إلى التعليق السياسي، و هي مجلة صغيرة لليسار المستقل غير الستاليني و كتب فيها الشيء الكثير. و بطبيعة الحال كانت المسائل التي يهتم لها بيلو هي بالتحديد الهوس بمصير الفرد في المجتمع السائر نحو النمطية، و خرج بذلك إلى النقاش السياسي الذي صار الآن يحتضر.
الأكيد أن بيلو لم يكن يتطرق للسياسة رأسا، و كراديكالي شاب سافر إلى المكسيك و سعى للقاء ليون تروتسكي ليجيبه عن بعض الأسئلة و الشكوك العنيدة حول الشيوعية العالمية، لكنه وصل مباشرة عندما تعرض الزعيم الثوري الروسي الكبير المنفي لضربة بفأس تسلق. و على حد الراوي مثلما يؤكد ليدر كاتب السيرة التقى بيلو بتروتسكي إما في المستشفى أو في غرفة حفظ الجثث. و عدم الدقة هنا أكثر من رمزية. كان بيلو يكتب عن السياسة قليلا و بشكل عام و لذلك فإن السؤال عن  تروتسكيته في صباه (التي هجرها بسرعة بعد بلوغه) أكانت حية و مفعمة بالنشاط، أم أنها كانت مجرد خلفية لقصة هدر شاب يهودي مثقف زمنا من مراهقته سدى.

وقف  في صف أمريكا أيام الحرب الباردة و عارض سارتر

على العكس من ذلك تظهر السياسة في أعمال بيلو التي جمعها تايلور و ترجم ما كان الكاتب يراها اهتمامات بشرية كونية. و بالمناسبة فقد عارض بيلو بسرعة حرب فيتنام و يظهر موقفه ذاك في مجموعة كتاباته غير الروائية في مقال بعنوان «عن أمريكا: ملاحظات في المركز الثقافي الأمريكي في تل أبيب» أين قدم مثالا كيف أن الأخبار تسلي و تلهي الناس في هذا الزمن. كان يحب المواضيع المتعلقة بالتسلي و يشير باستمرار إلى قصيدة  ويليام ووردزوورث، و مقالات «العالم معنا بأكثر مما نتخيل» تتناول الأحداث الجارية كما تعود إلى ووردزوورث أو أليكسيس دوطوكفيل أو ليو تولستوي. يبدأ بتشخيص المادية الأمريكية الراهنة، و مخاطر الديمقراطية المستوية، و كذا طغيان اللهو على الثقافة الجماعية، لكنه كان على الدوام ينهي مقالاته بنقد التحديث (كثير من الاشياء قليل من الروح)، و يغمز نحو وعود رومانسية عامة بالتجديد الروحي.
مقالات بيلو كانت رائعة و بليغة مليئة بأسئلة حرجة كبيرة مثل «هل يمكن لمجتمع ديمقراطي جماعي أن يبقى مجتمعا حرا» و «هل يستطيع الفرد موضوع الرواية أن ينافس في الاهتمام مصير الشركة العملاقة؟».
و يمكن لقراءة مقالات بيلو إلى جانب سيرة حياته أن يقود نحو السياق السياسي الحقيقي لتنظيره المجرد، و مهما كانت طبيعة ميوله السياسية في شبابه، فقد صار متحمسا للحرب الباردة ثقافيا، و تجول في أوروبا الشرقية ملقيا محاضرات  لصالح وكالة الإعلام الأمريكية، و أخذه الاهتمام بالحرية الثقافية التي كانت وكالة المخابرات المركزية الأمريكية و الكونغرس الأمريكي يدعمانها، و أحرق بخبث و دهاء و مكر ما كانت تدعو إليه شيوعية جون بول سارتر من دعم لعنف ما بعد الاستعمار.
و كان بيلو يدعو المثقفين في مقالاته إلى البقاء أحرارا عن كل ارتباط سياسي و منح القيمة للعمل الأدبي و كلتا النصيحتين يقدمها الأمريكيون للروائيين. و لكن كتاب سيرته يقدمه مرتبطا أكثر ببرنامج ثقافي تموله الحكومة في جبهة أمامية من الحرب الباردة. و من خلال الصراع بين الرأسمالية الأمريكية و الإتحاد السوفياتي يمكن ترجمة الالتزام الثقافي لصول بيلو، و القراء غالبا ما يشتكون من أن نقده يحمل ذوقا مملا أو مبدعا. و في الواقع فإن النثر كان نقيا و مرنا، بينما المشكلة تكمن في أن الأفكار كان قد تجاوزها الزمن.
و كان بيلو مثل أغلب الروائيين في منتصف القرن الماضي مهووسا بالتوتر بين الفردي و الجماعي، لأن الصراع الأيديولوجي المحدد في ذلك الوقت كان بين الفردانية الأمريكية و الجماعية السوفياتية. لكن بعدها سقط جدار برلين و كلا القوتين غير المجسدتين من الفرد المستقل و المجموعة اللتين كانت تهددان بعضهما تراجعتا إلى الخلفية الثقافية.
في 2011 نشرت «نيويورك ريفيو أوف بوكس» محاضرة ألقاها بيلو سنة 1989 بدأها بالهجوم على المفكرين «الوجوديين و التفكيكيين و العدميين» و دافع عن «فكرة الجوهر الفرد» و التي تبدو الآن أيضا تجاوزها الزمن مثلها مثل الدفاع عن المبادرة الحرة. و النقاش سار قدما.
إذن ما ذا يمكن أن يبقى، لا يمكنني أن أقول أنها أعماله الروائية أو سيرته و لا حتى مجموعة مقالاته، عبقرية بيلاو كانت لغوية و خيالية. كان مترجما للروائي اليديشي الكبير إسحاق باشيفيس سينغر، و كتب بيلو بذلك الرواية اليهودية الإنكليزية الوحيدة التي تستحق القراءة، و قام بجعل فلاسفة الإغريق يتراقصون، و لوى عنق البناء التركيبي للجمل في اللغة اليديشية، و قدم تفاصيل فقهية باهرة.
كان أيضا يقدم أفكارا سخيفة، لكن بطريقة جميلة.في  «هندرسون ملك المطر» يقوم البطل الأمريكي برحلة إلى أفريقيا لاستعادة الحيوية يمزج الوجوه الأدبية السوداء، مع مفاهيم عالم التحليل النفسي فيلهليم رايخ حول فلسفة كوكامامي القائمة على استعادة الشباب الشبقي، و الأكثر من ذلك أن هندرسون يحمل ملامح شخص يمكنك أن تلتقيه في حفل سياسي حزبي.
الرواية سخيفة، لكنها أدت الغرض منها. منذ بدايتها حينما يضيع هندرسون أمواله بين أوراق كتب والده حتى النهاية حنما يقوم بأدء رقصة بهلوانية في حفلة سيرك على عجلات لعبة أطفال مع سمولاك دب السيرك المعاق. و يقدم بيلو في روايته كما كبيرا من الجواهر اللفظية، و يسرح بقارئه في عوالم ساحرة و أسطورية مثلما يقول هندرسون «تدببت من قبل سمولاك و ربما يكون هو تأنسن من قبلي» و هنا يقوم بيلو بالسخرية و الاحتفال في آن واحد بالتشكيل الرومانسي للرغبة البشرية مع الطبيعة.

الرجوع إلى الأعلى