محمّد تحريشي
«دمية النار» رواية لبشير مفتي صدرت عن منشورات الاِختلاف ومنشورات ضفاف ووزارة الثقافة في الجزائر، تقع في (167) صفحة من الحجم المتوسط. وكانت ضمن اللائحة القصيرة لجائزة البوكر العربية لسنة 2012.
تطرح الرواية قضية مهمة في بناء الذات والهوية بالإعلان عن الموقف مِمَا حدث، وهي رواية تحاور الذاكرة بكثير من الأسئلة الوجودية التي تتبع مواطن الخطأ والاِعوجاج لمناقشة كلّ شيء وخاصة فترة السبعينات في الجزائر وتداعيات هذه المرحلة على كلّ التحوّلات بالوقوف عند السلبيات بنوع من النقد والنقد الذاتي للنضال على العموم وللنضال عند اليسار الجزائري. «كان عدنان ماركسيًا كما يقول عن نفسه، ماركسي فرداني، يُؤمن بفرديته كثيرا، وإن كان يَميلُ لأفكار -الصراع الطبقي-، ويُؤمن بأنّنا مجتمعات بحاجة لفكر مادي جدلي، يُحررنا من كلّ الغيبيات وسلبيات السّماء التي بلدتنا بنظرة عقيمة لا تتجدّد للحياة»./الرواية:45،46. ومن ثمّ فالرواية تعتمد على تداخل الإيديولوجي والفني في حوارية تجعل الوعي بالأشياء ينمو تدريجيًا ليؤسس لخطابٍ يُحدثُ أثرا في المُتلقي بنوع من الفعّاليّة المُنتجة التي تمكن من أن تُقدم هذه الرواية إضافة للخطاب الروائي المكتوب بالعربية.
إنّ جرأة الرواية سمحت لها بأن تتناول عدة مواضيع بكلّ حِدة لتُعلن موقفها منها بكلّ صراحة، ومن ثمّ فالتاريخ والذاكرة المُمثلة في المسؤول السابق أو المرجع أو الأب أو التاريخ، كلّها تحتاج إلى إعادة نظر. «تأسسنا ضدّ الحُكم المُفرد، ولكن بعد وفاة الزعيم شعرت أنّنا أخطأنا في توجيه السهام، لقد كنت شابًا مندفعًا والعيب في القادة، هم كانوا يُحللون ويسيروننا بالطريقة التي يريدوننا أن نسير فيها. سرنا خلفهم، وعندما بدأت الاِعتقالات لم يعتقلوهم، بل نحن.. تصور؟! هم تمكنوا من الفرار، والبعض فقام بصفقات مشبوهة مع النظام، لقد صاروا اليوم من الوجوه البارزة فيه»/ الرواية:66. هكذا تُؤسس  الدُمى في المجتمع وليست أيّة دُمى، هي دُمى النار التي تتحكم في أعمار الناس وفي أرزقاهم ومصائرهم وطرائق تفكيرهم عبر حُراس النوايا. كيف السبيل وسط كلّ هذا البلبال والمخاض العسير. «...ماذا يفعل الفرد في ذلك الموج الكاسح من البشر الأنانيين؟ فهو إمّا يستسلم لهم كي يأخذوه إلى حيث يريدون، أو يتفرد عنهم ويقطع صلته بهم، وحينها يتيه...»/الرواية: 159.
إنّ المُتلقي لهذا الخطاب يجد نفسه في نقاشٍ علنيّ مع هذه المستويات والمواقف ليسهم في بناء موقف جمالي من التاريخ والذاكرة والمرجع والهوية والذات. «... لم أفعل لا هذا ولا ذاك، لقد خضتُ حربي بمفردي في البداية ضدّ والدي بالتأكيد، ضدّ قناعاته وتاريخه وسلطويته، وما كان يُمثله أيضا للجميع من شرٍ كبير، وبأسٍ مُثير للمخاوف والرعب...»/ الرواية: 159. إنّ هذا الطرح طرحٌ متطرف إلى أقصى حد لما تجعل الأحداث الراوي يتنكر لكلّ شيء يُمثل الماضي والذاكرة بكلّ هذه الحِدة، مِمَا يجعل تفكيره قاصرا يُؤدي به إلى الفشل وإلى أن يكون دمية شر في يد الظل الّذي يأكل بعضه بعضًا. الدُمى تحسن التنفيذ ولا تعترض ولا تنتفض ولا تثور ولا تغضب. «... وكان يقبل حتّى أن أبصق في وجهه إن ثرتُ وغضبت منه، وأوبخه كلّما يحلو لي ذلك بسبب أو بدون سبب، وأفعل به ما أريد، كان دميتي هو الآخر، مثلما كنتُ دمية الآخرين، كنتُ بحاجة لهذا النوع لأحكم وأفرض سيطرتي، وأجلس على عرشي»/ الرواية: 149.
إنّ رواية «دمية النار» تحمل وجهة نظر أخرى تكشف عن أنّ الحرب الفردية والفردانية هي أساس الفشل الذريع للمشروع النهضوي الطموح الّذي كان يُعوّل عليه للخروج من التخلف والظُلم والتسلط والاِستغلال. اِعتمدت الرواية على التكثيف في سرد الوقائع والأحداث وعلى الاِقتصاد في اللّغة، من ذلك اِغتصاب الراوي لرانية ثمّ مقتله من طرف اِبنه ثمرة ذلك الاِغتصاب؛ مِمّا جعل الخِطاب مشحونًا بدلالات العُنف والتأزم ليحكم عليه في الأخير بالقتل كما يُقتل المجرمون والخونة، والأفظع أن يفضل أن يُقتل من طرف من كان نتيجة رعونته. «أتظن أنّ كلّ شيء بيدي أنا لوحدي؟ أنا هو السيد بالفعل؟ كلنا دُمى تتحرك لغايات وأغراضٍ مُحددة، وعندما تنتهي مدة عملها، أو تهرأ أدواتها سرعان ما تستبدل بدمية أخرى، هناك المئات من ينتظرون دورهم لكي يسفوا هذه الدمية القديمة، ويحتلون مكانها... المهم سنموت أحرارا، وأنت ستموت كالكلب!.. نعم كالكلب.. بل سنموت كلنا كالكلاب الآن في هذا المكان المُتوحش، وسيأتي آخرون مكاننا ليلعبوا نفس التمثيلية... نظر إلي عدنان يتمعن وأنا أقول له: أريدك أن تقتلني أنت، وليس غيرك»/ الرواية: 166.

الرجوع إلى الأعلى