تتغيّر المناهج، وتأتي في كلّ مرّة ببرامج جديدة ومختلفة ومغايرة عن التي سبقتها، لكن يبقى السؤال دائما: هل المناهج الدراسية المتعاقبة والمتتالية في الجزائر تشجع على المطالعة والقراءة، وما الأهمية التي يشكلها المنهج، وكيف يتعاطى الأساتذة معه ومع من وضعوه؟ ماذا عن القراءة في الوسط المدرسي والجامعي؟، هل هذا الجيل من الطلبة والتلاميذ يطالع حقا وله علاقة وطيدة أو طيبة بالقراءة، هل هناك مناهج تساهم في تفعيل المطالعة كما يجب، وفي شحن وتحريض الحس القرائي لدى الفرد؟. ما الخلل الذي يجعل المقروئية متدنية وفي تراجع مستمر، ما الخلل الّذي تعانيه المناهج، لماذا أزمة المطالعة متفشية في خارطة الفرد الجزائري/ الطالب والتلميذ، هل هي أزمة مناهج، أم أزمة قراءة وكفى؟.
إستطلاع/ نـوّارة لحـرش
حول هذا الشأن، كان ملف هذا العدد من «كراس الثقافة»، مع مجموعة من الأكاديميين والدكاترة من مختلف الجامعات الجزائرية.

* علي فارس/ أستاذ في عِلم النفس التربوي والمناهج التعليمية -جامعة سطيف2
المناهج الجديدة أهملتْ أهمية القراءة وركزت على الجوانب العلمية التكنولوجية
إنَّ المُتتبع لسيرورة المناهج الدراسية في المنظومة التربوية الجزائرية يجد أنَّ المناهج السابقة التي كانت تقوم على المحتويات، والمناهج التي تقوم على الأهداف تُشجِّع على المطالعة والقراءة، والدليل على ذلك أنّ التلميذ يُتم تقييمه في مجال القراءة والمطالعة في مرحلة التعليم الاِبتدائي ولديه حصة مطالعة في مرحلة التعليم المتوسط، أمّا المناهج الجديدة، فهي جد كثيفة ومكتظة، لذلك سببتْ إرهاقًا لكاهل التلميذ والمُعلم على حدٍ سواء، وقد أهملتْ إلى حدٍ ما أهمية القراءة والمطالعة، وركزت على الجوانب العلمية التكنولوجية.
يقولGuy Avanzini : «إذا أردتم أن أشخِّص لكم حالة أمة ما آتوني مناهجها»، ويعني ذلك أنَّ المناهج التعليمية تشُكِّل القالب الّذي يَتمُ على أساسه تكوين المواطن الجزائري، وِفْقَ ما يُشير إليه القانون التوجيهي للتربية الوطنية عام 2008، فالمناهج لا تُبنى من فراغ، وإنّما هناك أسسٌ لابدّ من اِحترامها، وهي: (الأساس الفلسفي الّذي يُعبِّر عن فلسفة الدولة في تحديد ملمح مواطنيها، والأساس المعرفي الّذي يقوم على المعارف العلمية سواء في ميدان العلوم والرياضيات واللغات والتكنولوجيا، والأساس السيكولوجي الّذي يحترم طبيعة المتعلم وحاجاته ومشكلاته وفروقاته الفردية، والأساس الاِجتماعي الّذي يعكس فلسفة المجتمع وعاداته وتقاليده ولغته وثقافته، والأساس التكنولوجي الّذي يتم فيه اِستخدام وسائل التكنولوجيا والاِتصال في التعليم).
إنّنا نقولها وبكلّ أسف شديد ودون تعميم؛ أنَّ المعلم الجزائري لا يزال يشكو اِضطراباً في تكوينه؛ سواء التكوين العلمي التخصصي أو التكوين البيداغوجي في مواد عِلم النفس وعلوم التربية التي لا تُخالط الميدان، فهي بعيدة كلّ البُعد عن الواقع التربوي، وإذا كان الشخص المنَّفذ للمناهج غير مُؤهل لذلك، فلا يُمكن المضي قدماً نحو تحقيق مقاصد التعليم. لذلك لابدّ من إعادة النظر في تكوين الأساتذة، بل وأبعد من ذلك، إعادة النظر في تكوين المُكونين.
وكنتيجة لذلك، فإنَّ القراءة والمطالعة في الوسط المدرسي والجامعي تُعاني كثيراً، فالملاحظ هو عزوف التلميذ والطالب الجامعي الجزائري عن القراءة والمطالعة أو اِقتناء الكُتب سواء في مجال تخصصه أو في غير تخصصه، بل يكتفي فقط بالتصوير أو اِستعمال الكُتب الإلكترونية المتوفرة في الانترنيت، لذلك أصبح التلميذ الجزائري يفتقر للغة والفِكر معًا، وهو ما يحول دون مقدرته على التعبير حتّى عن وجهة نظره، وأصبح يُعاني صعوبات تعلم القراءة والكتابة وغيرها من الصعوبات التي تحول دون بناء التعلمات وإرساء الموارد وإنماء الكفاءات.
للأسف الشديد فقد اِمتنع السواد الأعظم من التلاميذ والطلبة عن القراءة والمطالعة بل أصبحوا لا يقرؤون حتّى الكُتب المدرسية أو شِبه المدرسية، ويتسابقون نحو الألعاب الإلكترونية التي أصبحت الهاجس الكبير للتلميذ الجزائري في غياب الرقابة والمتابعة الأسرية، فلو كانت علاقة التلميذ بالقراءة علاقة طيبة ووطيدة لما وصلنا إلى ما وصلنا إليه، تلميذٌ يفشل فشلاً ذريعًا في فهم المكتوب وفهم المنطوق، لاِبتعاده عن لغته. هناك مناهج تُشجع على المطالعة وتُنمي الحس القرائي لدى الفرد، وهي المناهج التي تُبنى في ظل واقع هذا التلميذ، والتي تُلبي مُختلف حاجاته النفسيّة والاِجتماعيّة، وتُعالج مشكلاته داخل فضاء المدرسة، أمّا المناهج الحالية فأقل ما يُقال عنها أنّها غريبة عن واقع التلميذ، لذلك لابدّ من إعادة النظر في المناهج الدراسية، بحيث يجب أن تُبنى وِفْقَ الأُسس السالفة الذِكر.
إنَّ المسؤولية مشتركة، فقد اِستقالت الكثير من مؤسسات التنشئة الاِجتماعية عن وظيفتها في التربية والتثقيف، فلا الأسرة أصبحت قادرة على ذلك، ولا المدرسة، ولا خِطاب المساجد ووسائل الإعلام والاِتصال المرئية والمكتوبة، فقضية القراءة والمطالعة هي مشروع أمة. فعندما تذهب للمعرض الدولي للكِتاب تجد المواطن الجزائري يتهافت نحو بعض الكُتب مثل الطبخ وتفسير الأحلام أو الكُتب الدينية لكن عندما يعود إلى المنزل يتركها ولا يقرأها. فنحن في أسرتنا المكتبة نضع فيها الأواني وليس الكُتب، وهذه ظاهرة مُتفشية لدى كلّ بيت جزائري، إذ نجد في عصرنا هذا الكُتب متاحة لكنّها حبيسة رفوفها للأسف، كتبٌ وحيدةٌ لا جليس لها، بيوتٌ لا كُتب فيها أو فيها كُتب بلا معنى، ولا طائل من ورائها.
إنَّ الحديث عن المناهج يفتح العديد من القضايا المُهمة، لأنَّ المناهج هي بمثابة اِستثمار في رأس المال البشري، ولكن ما يمكن قوله هنا أنّ المناهج الجزائرية تشكو الواقعية والبنائية والوظيفية، فهي بعيدة إلى حدٍ ما عن واقع التلميذ الجزائري ولا تجعله قادراً على فهم واقعه الموضوعي، فظاهرة تمزيق الكُتب وتقطيع الكراريس أمام المؤسسات التعليمية في نهاية السنة الدراسية، تُعد مؤشر خطر على هذا الجيل الّذي تُعول عليه الدولة الجزائرية في ظل الجمهورية الجديدة، وعليه لابدّ من إعادة النظر في النظام التربوي الجزائري برمته وليس إصلاح بعض أجزائه دون الأخرى. والحل يكمن في العودة إلى المدرسة الأساسية.
إنَّ تفشي ظاهرة تدني المطالعة يعود للعديد من الأسباب والعوامل، فمنها ما هو متعلق بالمتعلم في حد ذاته، ومنها ما هو متعلق ببيئته، ونقصد بذلك وجود عِدة أزمات: (أزمة المناهج، أزمة المدرسة، أزمة أساتذة، أزمة جماعة الرفاق، أزمة مجتمع، وأزمة إعلام، الذي أصبح يتنافس على اِستضافة المهرجين والمقلدين لأصوات الفتيات، في حين أصبحت اِستضافة الخبراء والمتخصصين في مجال التربية والتعليم أمرا نادرا.

* فارس شاشة/أستاذ عِلم المكتبات -جامعة سطيف2
المنهاج الدراسي ساهم في عزوف التلاميذ عن المطالعة
إنّ علاقة التلميذ بالكِتاب علاقة نفعية فهو لا يلجأ إلى الكِتاب إلاّ من أجل حل تمرين أو قراءة نص  طُلِب منه، وأسهم المنهاج الدراسي في تطوراته الحالية سواء الجيل الأوّل منه أو الثاني في عزوف التلاميذ عن القراءة والمطالعة، لأنّ هذا المنهاج مبني على علاقة إعادة المعلومات وحفظها وليس بناء عقل نقدي تحليلي تركيبي وتقديم بدائل ومعلومات جديدة خاصة في المراحل الثانوية، كما أنّ بنية الحصص التعليمية وحذف حصة المطالعة من المنهاج الدراسي أثر في مستوى القراءة لدى التلاميذ وجعلهم لا يدركون قيمة المطالعة في بناء الفرد وفي زيادة تحصيلهم العلمي.
والسبب الأخير الّذي أدى إلى عزوف التلاميذ عن المطالعة ككلّ هو النظام الاِجتماعي الّذي يفتقر للمقدرة على خلق القدوة العلمية التي تغرس في التلاميذ حب الاِطلاع، ناهيك عن أسباب تنظيمية أخرى متعلقة بتسيير المؤسسات الثقافيّة وعدم تواجد معارض كُتب ومسابقات قراءة ومكتبات مطالعة جادة في تقديم مهامها، حيث أنّ معظم النشاطات الثقافيّة تُركز على الجانب الفلكلوري و المواسمي رغم أنّ المطالعة  هي سلوكٌ يوميّ يمتاز بالديمومة والاِستمرارية وهو ما تُعلمه لنا قصص أكبر القُراء والمطالعين في العالم  ونشير هنا إلى كِتاب «فن القراءة» لمانغويل.
إنّ تدنى مستوى المطالعة في الجامعة ساهمت فيه طريقة التعليم والتكوين البيداغوجي، فالأستاذ الجامعي حاليًا يُركز على تقديم معلومات في مقياس يُدرسه لسنوات بطريقة جامدة تؤدي إلى عزوف الطالب عن متابعة المحاضرات والبحث في المكتبة والانترنت عن معلومات جديدة لتوسيع مداركه، كما أنّ همّ الطالب الآن هو الحصول على النقطة وذلك بتطبيق نظام الاِسترجاع أيّام الاِمتحانات فهو غائب عن الجامعة ذهنيًا طوال العام إلاّ أيّام الاِمتحانات التي يعمل على تصوير محاضراته باِستخدام التكنولوجيات الحديثة، ومن ثمّ رد هذه المعلومات إلى الأستاذ للحصول على علامة تؤدي إلى نجاحه ولا يهمه هل هو يتلقى تكوينًا جيدا أو هل تطورت معارفه ومداركه في السنوات التي قضاها بالجامعة.
ومن متابعتي لعمل المكتبات الجامعية، وجدتُ أنّ غالبية الطلبة يقصدونها في أوقاتٍ مُحدّدة من أجل الحصول على كُتب لإنجاز بحوثهم أو مُذكراتهم، حيث أنّ قراءاتهم تكون هادفة وقصدية لإنجاز مشروع علمي ما، أمّا أن يكون فِعل المطالعة بشكلٍ يومي من أجل رفع المستوى وتوسيع المدارك وتكوين شخصية ناقدة وعارفة فهذا الأمر بعيد المنال.
وتحرص المكتبة سنويًا على تزويد مخازنها بكُتبٍ حديثة، لكن من محاوراتي مع عُمال المكتبات الجامعية فإنّ اِستخدام هذه الكُتب الحديثة يكون ضعيفًا، حيث أنّ هناك ما يُعرف بتأثير متى (اِستخدام نفس الكُتب التي اُستخدمت في المذكرات والأطروحات السابقة).
ومع ذلك، فقد لعبت التكنولوجيات الحديثة خاصة الانترنت والهاتف الذكي دورا كبيرا في رفع مستوى القراءة في المجتمع وظهور نوع جديد من القراءة، تُعرف بالقراءة الاِلكترونية، وهي قراءة آنية سريعة مختصرة لأنّ شاشة الهاتف تجعل القراءة المُسترسلة والناقدة مهمة صعبة؛ لكن هذه التكنولوجيات وفرت للتلاميذ والطلبة الجامعيين زادا معرفيًا مختصرا وبأحدث المعلومات والأخبار، ومن جهة أخرى فإنّ هذه التكنولوجيات الجديدة خاصة الهاتف الذكي تجعل القارئ يُصاب بالملل، ولا يستطيع إكمال قراءة نصوص طويلة تتطلب جُهدا لفهمها واِستيعابها.
ولأجل رفع مستوى القراءة والمُطالعة نرى ضرورة تعديل البرنامج الدراسي وإضافة حصص مطالعة أسبوعية، ومرافقة التلاميذ في اِختيار الكُتب وقراءتها وتلخيصها وتقديم حوصلة ذلك لزملائهم، وإنشاء مكتبات مدرسية مع توظيف المُختصين في المكتبات لتنشيط فِعل القراءة في المدارس.
أمّا في الجامعة فيتحتم تغيير طريقة التدريس وتكليف الطالب الجامعي بقراءة كُتب معينة وعرض ملخصات عنها في الحصص التطبيقية وإضافة مادة حول كيفية اِستخدام مصادر المعلومات والمراجع كما هو معمولٌ به في الجامعات العالميّة وبعض الجامعات العربيّة.

* حيدر العايب/ باحث أكاديمي وأستاذ فلسفة القيم وابستمولوجية العلوم الإنسانية –جامعة سطيف2
تحتاج المقروئية إلى أن تتجسد كمعيش وكفعل يومي وكثقافة جماهيرية
يُكابد العالم العربي، ومنه الجزائر، عديد الأوضاع الثقافيّة التي ترهن مكانته الفكريّة و القيمية، من تلك الأوضاع تدني نسبة المطالعة أو المقروئية بشكلٍ جعل أوطاننا في ذيل التصنيف العالمي على نحو ما تشير إليه بعض الإحصائيات، الأمر الّذي سمح ببلورة مصطلحات وأوصاف تعكس تشخيصًا للواقع وتحسرا عليه في آن، من قَبيل «أمّة اِقرأ لا تقرأ»، «إن أردت تورية نقودك من السرقة فضعها في كِتاب»، مثل هذه الأحكام، وغيرها، تُشخص واقعًا باتت فيه الحاجيات البيولوجية مقدمة على الضرورات العقليّة والروحيّة. وعليه ما أقوله هنا ليس تشخيصًا لأسباب تدني المقروئية بأبعادها التاريخية والبنيوية، مع محاولة بسط حلول لهاته الظاهرة، وإنّما تتمحوّر أطروحة هاته السطور حول الكيفية التي نحكم بها على فِعل المقروئية في مجتمع ما بعيدا عن الحضور الرسمي لمكتبات المطالعة ودور الثقافة وصالونات بيع الكُتب. فما هو المعيار الّذي نحكم به على مجتمع ما أنّه ذو مقروئية؟
نعتقد أنّ معيار الحكم الحقيقي على المقروئية بالإيجاب أو السلب يكون باِستثناء شريحة الأكاديميين في مجال تخصصهم، فنحن نرى سنويًا نسبة إقبال كبيرة جدا على المعارض الدولية للكِتاب وتنافسًا مُحتدمًا في أيّامه الأولى لاِقتناء بعض العناوين المُميزة خشية النفاد، كما تجد في شوارع بعض الدول العربية أرصفة ممتلئة على آخرها بالكُتب ومن كلّ التخصصات، كما نشهد فعاليات للمؤسسات الحكومية والتربوية وكذا فعاليات للمجتمع المدني حول التحسيس بالمطالعة، لكن دون أن يُغير ذلك سوى القليل، وعليه فما معيار الحُكم على المقروئية؟
إنّ معيار المقروئية لا يُقاس كما ذكرنا بشريحة الأكاديميين مهما بلغ إنفاقهم على الكِتاب، خاصة في مجال تخصصهم، كما لا يُقاس بالحالات الفردية للناس العاديين، بقدر ما يُقاس الأمر بشبكة عامة للمقروئية، أي حينما نستشعر جوا جماعيًا بالاِهتمام بالكِتاب، في خطاباتنا اليوميّة، وفي مجالسنا، في اِتجاهنا صوب أمكنة تواجد الكِتاب، في مواعيدنا ومقابلاتنا، في سلوكياتنا... عموما حيثما وجدت العفوية وغاب التصنع والتكلف، وهي المعايير ذاتها التي نحكم بها على أنّ الوطن العربي مصاب بباثولوجيات (أمراض) اِجتماعية خاصة كتلك المتعلقة بباثولوجيا تسطيح الثقافة، فمثلا نحن نُلاحظ أنّ مجتمعنا الجزائري والمجتمع العربي في غالبية أوقاته يتكلم رياضيًا، ويلبس رياضيًا -حتّى في دور العبادة-، ويتمثل أفراده سلوك نجوم كرة القدم، كذلك علاقات وخصومات أفراده ترتبط باِنتماء جماعة معينة لفريقٍ دون آخر وليس للاِنتماء الأيديولوجي كما كان في السابق، كذلك معرفتهم بنجوم كرة القدم يفوق بشكلٍ كثير معرفتهم بشخصيات ثقافيّة أو تاريخيّة أو دينيّة ترتبطُ بتاريخيهم وهويتهم، وربّما حتّى ضربي لمثال كرة القدم في هذا السياق هو من هذا القبيل!؟
ومثلما أنّ تلك العفوية هي ما نحكم بها على مجتمعاتنا العربيّة بأنّها مجتمعات ذات ثقافة سطحية على الرغم من أنّ الرياضة الرسميّة للدول العربيّة ليست أوفر حظا من حالة المقروئيّة. فإنّه بذات العفوية نحكم على جل الظواهر الاِجتماعيّة الأخرى بِمَا فيها ظاهرة المقروئيّة.
لذلك فللإجابة عن أيّ طريقة أَقْوَم نقيس بها مدى حضور المقروئية في عالمنا العربي فإنّ الإجابة تكون حينما تتجسد المقروئية كمعيش، كفعل يومي، كحس مشترك، كحضور عفوي ودارج، كثقافة جماهيرية مشكِّلة فضاء عموميًّا للقراءة، بغض النظر عن الحضور الرسمي لفعاليات المطالعة من عدمه.

* بن زينب شريف/ باحث أكاديمي وأستاذ الفلسفة الغربية الحديثة والمعاصرة -جامعة المدية
غرس ثقافــة القـراءة مشـروع دولـة يبـدأ في المدرسـة الابتدائيـة
يُعتبر فِعل القراءة و المقروئية من أكثر السلوكات الحضارية، فِعلٌ يرتبطُ بشكلٍ وثيق بالخلفيات الفكريّة والثقافيّة للمجتمع عامة وللفرد خاصة. فحياة الكتاب مرهونة بهذا الفِعل الحضاري، وكلّ عزوف عن القراءة أو اِقتناء الكِتاب، في حقيقة الأمر، هو اِغتيالٌ للكِتاب وتنازلٌ عن الحق الطبيعي للإنسان في اِمتلاك ثقافة جديدة وروح نقدية، مع إحالة العقل على العطالة الفكريّة والركود والتسليم المُطلق بالعديد من الأفكار، التي قد تتعارض والمنطق السليم.
إنّ موضوع المقروئية وكيفية إعادة الاِعتبار للكِتاب في عصر الرقمنة والثورات التكنولوجية، من بين الموضوعات الأكثر حضورا عند المفكرين والمهتمين بشأن الكِتاب في الوطن العربي عامة وفي الجزائر خاصة. ولا نُجانب الصواب إذا ما قلنا أنّ البون أصبح شاسعًا بين ما يقرؤه الرجل العربي والرجل الغربي، فأمة اِقرأ أصبحت تعيش اِغتراب القراءة والكِتاب. ولا تغرنا تلك الحشود التي تحج سنويًا إلى المعرض الدولي للكِتاب بالعاصمة، فغالبية الرواد قد يكونوا من المهتمين بفِعل السياحة وتغيير الأجواء أكثر من اِقتناء كِتاب، فحجم ما يُباع مقارنةً مع عدد الزوار قد لا يتجاوز العُشر أو يقل، وإن كان تحجج البعض بتلك الأسعار المُرتفعة التي لا تساعد على اِقتناء الكِتاب، فإنّ الواقع التعليمي والمناهج التربوية على اِختلاف أطوارها ليست واضحة المعالم من أجل إخراج الفِعل القرائي من النظري إلى المُمارسة. فعلى سبيل المثال في المدرسة الاِبتدائية لا يتوفر التوقيت الأسبوعي إلاّ على حصة وحيدة للمطالعة لا تتعدى مدتها الخمسة وأربعون (45) دقيقة، لا يخرج فيها التلميذ من جو القسم إلى جو المكتبة لأنّه ببساطة لا يوجد أي فضاء مكتبي للمطالعة. فإذا لم نغرس في تلميذ اليوم ثقافة الكِتاب والمطالعة، فكيف لنا أن نعثر على الطالب الجامعي الّذي سيعرف الطريق إلى المكتبة بدون توجيه من الأستاذ بسبب الأعمال التطبيقية؟ أصبح الطالب الجامعي اليوم يُمارس نوعًا من الإقصاء الذاتي والعزلة المعرفية تجاه الكِتاب أو لِنقُل قد أصبحت شريحة كبيرة من الطُلاب تمتلك حساسية اِتجاه الكِتاب والمكتبات. فالأعمال الجاهزة على الشبكة العنكبوتية والمواضيع المفتوحة غذّت الركون والكسل الفكري لدى الطالب الجامعي، بل وأكثر من ذلك أصبح الطالب اليوم يرى أنّ التوجه إلى المكتبة نوعًا من المخاطرة ، وهذا راجع إلى تلك الغربة التي تولّدت بينه وبين الكِتاب، فهو قد تعوّد على المعلومة الجاهزة من خلال التكنولوجيات المتطورة. وقد يحدث أن يستنسخ الطالب بحثًا عن موضوعٍ ما، وهو لا يعرف مُطلقا اِسم الكِتاب ومؤلفه وموضوع تخصصه بالضبط، لهذا فإنّ الوسيلة التي يعتمدها الأستاذ لها الدور الفعّال في إجبار الطالب على مُعانقة الكِتاب والوقوف على مضامينه، ومن ذلك طريقة تحضير بطاقة للكِتاب أو تلخيص فصلٍ من فصوله، تجعل الطالب يتصفح الكِتاب ليكتشف عالمًا قد كان لوقتٍ قريب يراه مخاطرة. لهذا يتوجب علينا اِستحداث آلية تعيد تفعيل الفِعل القرائي لدى الطالب الجامعي. فهو قبل كلّ شيء طالب للمعرفة قد حاد عن طريقها فقط.
إنّ غرس ثقافة الكِتاب لدى الفرد الجزائري، حسب رأيي هو مشروع دولة بالخصوص، مشروع بناء مجتمع، يبدأ بتزويد المدارس الاِبتدائية بفضاءات للمطالعة، مع تحفيز المتعلمين بمسابقات حول القراءة والكِتاب، إضافة إلى إشراك الأسرة في هذا الفِعل بتعليم الأبناء الطريق إلى المكتبات والمعارض. واِنتهاج سياسة واضحة لدعم الكِتاب من طرف الجهات الوصية.

* راجعي مصطفى/ أستاذ علم اِجتماع. جامعة عبد الحميد ابن باديس- مستغانم
نحن أمام أزمة تسببت فيها المناهج التي لم تعد تشجع على قراءة النصوص
أصبحتْ ظاهرة تدني المقروئية عامة ومُنتشرة لدى التلاميذ والطلاب الجامعيين. وقد أرسلت العديد من المؤسسات إنذارات لخطورة الظاهرة. شخصيًا أعرف مكتبة جامعية خاصة جمعوية في الجزائر وهي تقدم خدمة مكتبية ممتازة لجميع الطلاب في العلوم الإنسانية والاِجتماعية والاِقتصادية والحقوق منذ الاِستقلال حيث توفر الكُتب والدوريات الحديثة بالعربية وباللغات الأجنبية بدأت منذ سنوات تعرف تراجعًا رهيبًا في عدد المشتركين وعقدت عِدة ندوات لمعرفة السبب كما أنّ المكتبات الجامعية التابعة للكليات تشهد هي كذلك تراجعًا في الطلب على خدماتها مِمَّا يطرح ناقوس الخطر على وجود ظاهرة خطيرة وهي تدني المقروئية وهي ذات اِنعكاسات سلبية خطيرة.
إنّ قراءة النصوص تلعب دورا أساسيًا في تنمية القدرات الذهنية على التحليل والتركيب، فقراءة النصوص تجعل الطالب يكتسب المفاهيم في سياق اِستخدامها التطبيقي ويتعرف على المنظورات المُختلفة لتناول المفهوم ويتدرب ذهنه على التفكير من خلال الأدلة المنطقية والبلاغية... كلّ هذه المهارات المعرفية تعرف تدنيًا لدى طلابنا الذين أصبحت لغتهم فقيرة قاموسيًا وضعفت قدرتهم على التركيب والبرهان، كلّ هذا جاء نتيجة ضعف القراءة. لقد أصبح الشباب والتلاميذ يعتمدون على الانترنت للوصول إلى المعلومات بسرعة ويقومون بنسخ ولصق المعلومات في أوراق، وتسليمها كبحوث، وفي الغالب يطلبون من صاحب مقهى انترنت تقديم الخدمة البحثية لهم وفي الغالب تكون لديه البحوث جاهزة وهنا يمكن أن نتهم مباشرة المعلم الّذي يطلب من التلاميذ اِنجاز بحث وهو يعرف أنّهم سوف لن يطوروا أية مهارات في البحث والتركيب.
 الأستاذ في الواقع يُطبق المنهاج الّذي يقوم على فلسفة بنائية تعتقد أنّ التلميذ يمكنه أن يبني المعرفة بنفسه (منهج كفاءات التلميذ). لقد أصبحت الكُتب الدراسية خالية من المعلومات التفصيلية الشارحة للمفهوم وأصبحت تترك الحرية للتلميذ ليبني المفاهيم بنفسه ولكن الملاحظ أنّ التلميذ اليوم أصبح يستخدم الانترنت للحصول على المعرفة جاهزة. نحن أمام أزمة تسببت فيها المناهج التي لم تعد تشجع على قراءة النصوص وتسبب فيها الانترنت الّذي شجع الكسل الذهني وأصبحت المعرفة بصرية وتعتمد على النسخ واللصق.نحن أمام كارثة تربوية معرفية ويجب العودة إلى مناهج تلزم الطلاب بقراءة نصوص وكتب والقيام بتلخيصات للمحتوى وإضافة تعليقات شخصية على المحتوى. قبل ظهور الانترنت كان أساتذتنا يطلبون منا إعداد بطاقات قراءة لكُتب مُتعلقة بالمادة المدروسة، كانت فرصة لاِكتشاف الأسلوب والكاتب والأفكار واكتشاف كُتب أخرى، كُنا نطور مهاراتنا في التفكير الاِستدلالي والتحليلي من خلال القراءة ومع الوقت كنا نكتسب قدرة على التركيب وإبداع نصوص من تأليفنا. طُلاب اليوم فقدوا القدرة على الإبداع لأنّهم فقدوا الرغبة في القراءة ولم نعد نُلزمهم بقراءة الكتب.

 

الرجوع إلى الأعلى