تناقش نخبة من الكتاب والأكاديميين في هذا العدد المواقف المستخفة من انتشار فيروس كورونا  التي أبداها «مثقفون»، من خلال دعواتهم إلى مواصلة الاحتجاجات الشعبيّة، حيث طرحت النصر عليهم سؤالا حول نظرتهم إلى هذا الخطاب في زمن الكارثة؟ وهل يجب على الكاتب والمثقف أن يصغي إلى صوت العلم، في مثل هذا الظرف، ويكبت رومنسيته وخطابه الحالم؟ وما الخطاب الذي يرونه مناسبا في حالة استثنائية كالحالة التي يعيشها العالم اليوم؟

عن المثقف في زمن الكورونا
• عبد القادر رابحي

   على الرغم من أن التقدير العالمي لمشكل فيروس كورونا المستجد و خطورته بدأ في الكثير من الدول  مع بداية ظهور الفيروس في شهر ديسمبر من السنة الماضية، إلا أن تقدير الجزائريين، في جانبيه  الرسمي أو الاجتماعي، لم تكن في مستوى خطورة ما كان يحمله الانتشار السريع للفيروس من تحديات للدول
و المجتمعات المتطورة منها و المتخلفة.
ومثلما كان الموقف الرسمي للهيئات الصحية في الجزائر شبه غائب في الواقع، كانت المجتمعات الافتراضية في وسائل التواصل الاجتماعي تجعل من هذا المرض موضوعا للاستغلال غير الواعي بالخطورة التي يحملها و غير المسؤول أمام ما كان يخبئه الانتشار السريع للفيروس من مفاجآت جعلت أقوى الدول تقف حائرة أمام خطورته .
هل يمكننا الحديث عن تساوي جميع المجتمعات في سوء التقدير لمشكلة كان يجب أن يٌنظر إليها بعين العقل و الحكمة و التبصر، خاصة و أنها تتعلق بمصير إنساني واحد في مواجهة خطر داهم لا يفرق بين البشر، و لا بين ألوانهم، و لا بين انتماءاتهم الدينية أو الفكرية أو العرقية أو الإيديولوجية؟ و هل يعقل أن يفقد المثقف أولويات التفكير العقلاني في لحظة هو في أشد الحاجة إليها؟ و كيف يمكن تسخير ظاهرة محايدة و ديمقراطية في تعاملها مع ضحاياها و لا تميز في خطورتها بين متخاصمين لأجل تقويض تصوّر فكري أو سياسيّ أو إيديولوجي مناقض للرؤية التي نحملها عن الخصم السياسي أو الإيديولوجي؟
 لمْ يخلُ تعاملٌ كالذي أبداه العديد من المثقفين و الناشطين الجزائريين في المجال الافتراضي من ظاهرة انتشار وباء كورونا المستجد، من خلفية تموقعٍ تنطلق من محددات مصلحية مسبقة. و على غرار حالات التدخل فيما هو من اختصاص المختصين  وحدهم بإطلاق أحكام عرضية، و هذا في حد ذاته تصور تبسيطي لخطورة الوباء الداهم،كانت مواقع التواصل الاجتماعي تعج  بمواقف متموقعة منطلقة أساسا من قناعات إيديولوجية بعيدة كل البعد عن واقع المقاربة المرتبطة لما يمكن أن يخلفه الوباء من تداعيات على المستوى الصحي. و هي مواقف تبدو في ظاهرها مستعدة لتسخير كل ما يأتي أمامها من أجل تحقيق ما تصبو إلى الوصول إليه في معاركها مع السلطة السياسية من جهة، و في معركتها الفكرية مع الخصوم الإيديولوجيين التقليديين من جهة أخرى. و الأمر، ها هنا، يبدو من الجهة الأخرى للصراع، على الدرجة نفسها من التموقع لتكتمل صورة الثنائية التي يستعمل فيها المثقفون المتخاصمون الانتشار المفاجئ لفيروس خطير للانقضاض على خصومهم السياسيين من دون التفكير في عواقب هذا التفكير على الواقع الصحي لمجتمع لا يزال يعاني من أبسط الأمراض، على غرار الأمراض المزمنة، في القرى و المداشر و الأماكن المعزولة من الوطن الجزائري المترامي الإطراف.
    كيف يتجاوز المثقفون فرصة كهذه لطرح إشكالات السياسة الصحية في الجزائر و ما تقف عليه من صعوبات لأجل تطوير بنياتها المادية و هياكلها المتوارثة في الكثير منها من العهد الاستعماري؟ و كيف يمكن لحالة مستعجلة كانتشار هذا الفيروس الداهم أن تنسي المثقفين وجوب إعادة النقاش الجاد و المسؤول عن السياسة الصحية من خلال تطوير هياكلها و انتشارها الأفقي في المناطق البعيدة و عصرنة وسائلها التقنية التي لا يزال المواطن البسيطـ، في كثير من الحالات، بعيدا كل البعد عن الوصول إليها؟
    ففي الوقت الذي كان العالم يقبض على بطنه خوفا مما كان يجري في الصين، كانت وسائل التواصل الاجتماعي تعج بما لا يمكن أن يصدقه العقل من مقاربات تتراوح ما بين السخرية السوداء التي تبين أنها تعكس حالة من اليأس الغامر من واقع لا تملك له أدنى آليات التحكم في مصائره السياسية و الاجتماعية، و ما بين المواقف الصارمة من إمكانية استغلال السلطة للمشكلة لتحقيق سبق في الواقع على مرتادي الجُمَع الحراكية في صورتها و أهدافها الراهنة.
 ربما كان من الأهمية التأكيد على صورة العديد من المثقفين و هم يجعلون من ظاهرة وباء عالمية قضية سياسية محلية يحاولون أن يتفطنوا لما يمكن أن تحمله من حيلة سياسية يجب استغلالها قبل أن يستغلها خصومهم السياسيون لتقوض موقعهم النضالي. لقد بدا بعض المثقفين، و هم يقدمون تصوراتهم عن كيفية التعامل مع الوباء الداهم من داخل الحراك المتواصل، و كأن بأيديهم حلولا جاهزة لتجاوز هذا الوباء، إما بالسخرية السوداء منه و هو يعبث بدولة قوية كالصين في بداية انتشاره، و إما باللامبالاة النهائية من الظاهرة، و إما باتخاذ موقف مواصلة الحراك بعدما تبينت خطورة انتشاره و الإلحاح العالمي على تفادي الاحتكاك المباشر بين الأفراد و منع التنقل و التجمعات.
و لم تكن صورة الكعبة المشرفة و هي خاوية من طائفيها، و كذلك ساحة سان بيير في الفاتيكان و كثير من الأماكن التاريخية التي ترتادها الجموع، لتقنع المقتنعين بخطورة الوضع و التفكير من موقع مسؤول في إمكانية انتشار الوباء بين المجتمعين من الحراكيين. و ربما كان ذلك فرصة ثمينة للبعض للدعوة على توقيف الحج و العمرة في محاولة لإلباس الموقف الإيديولوجي المبطن لباس الوعي العقلاني بخطورة الفيروس على الحجاج و المعتمرين. و نرى هنا محاولة الكيل بمكيالين واضحة لا تعير أدنى اهتمام بخطورة الفيروس بوصفها حالة تهديد عالمية، الدعوة إلى منع التجمعات في أماكن و حالات معينة من جهة، و الدعوة في الوقت نفسه إلى مواصلتها في أماكن و حالات أخرى بحسب ما تقتضيه المصلحة الإيديولوجية المستعجلة.
غير أن هناك صورة أخرى للاستغلال الفاحش لحالة الترقب لوباء تنبئ عن مدى توغل الموقف الإيديولوجي في صياغة موقف آنيّ يعي خطورة الوباء و يفصل بين التمركز الإيديولوجي المصلحي وبين المقاربة العلمية العقلانية التي عادة ما يدعيها العديد من المتنورين و هم ينعتون المجتمعات التي يعيشون فيها بشتى النعوت البعيدة عن العلم و العقلانية و التنوير، تماما مثلما تركز الجهة القابلة على البعد  الروحي في محاربة الفيروس من دون الحرص على دور الرؤية العلمية الثابتة في إيجاد حلول لهذا الوباء.
و لقد رأينا ، في الوقت الذي كان الفيروس يدق على الأبواب بكل هدوء،كيف كانت السخرية من الأبعاد الدينية و الروحية عند البعض من جهة، و السخرية من الأبعاد التنويرية عند البعض الآخر من جهة أخرى، وكيف كان بعض المثقفين يلح على إغلاق المساجد عوض المطالبة في الوقت نفسه بغلق المؤسسات التعليمية لحماية المتمدرسين، أو المطالبة بتوقيف الرحلات الجوية التي تبين فيما بعد أنها كانت المصدر الأول لدخول أولى حالات الوباء إلى الجزائر. كما رأينا كيف أعاد البعض استغلال الموقف المتأدلج من المسجد الأعظم للمطالبة بتحويله إلى مستشفى جامع للمرضى المفترضين عوض المطالبة بالتعامل الصارم مع بؤر دخول الداء بتهيئة المستشفيات و المراكز الصحية بتوفير اللوازم الضرورية للتصدي للحالات الأولى بوعي و هدوء و بصيرة.
لقد أصبح وباء كورونا ميدانا لصراع إيديولوجي قديم متجدد يحاول العديد من المثقفين أن يقفوا على ما كان يجب الاحتياط به من مقاربات علمية عقلانية لظاهرة خطيرة تتعدى التموقع الإيديولوجي المصلحي إلى ما تحمله من بعد إنسانيّ كان يجب على الجميع أن يتركوا صراعاتهم جانبا لأجل التصدي له بكل إمكاناتهم بعيدا عن التحيز و المغالاة و الرؤى الإيديولوجية المغلقة.

تعبُ جلجامش في أزمنةِ شايلوك  
• أحمد دلباني
يكشفُ كل حدثٍ طارئ – من خلال ردود الأفعال التي يستثيرُها - عن المخبوءِ و المطمور في اللاوعي الجمعيّ، كما يعرضُ الذاتَ العميقة للأفراد والجماعات بمعزل عن المساحيق التي تلفعُ، عادة، المواقفَ العقلانية المتزنة. فالأحداثُ الطارئة المُربكة، بهذا المعنى، تُعتِقُ ماردَ اللامعقول الأسيرَ فينا        أو توقظ اللغة البدائية التي نجتهدُ، عادة، في إخفائها عند اتخاذ القرارات الحاسمة أو التعبير عن مواقفنا بما يتلاءمُ مع ما تقتضيه حفلاتُ السراي الكبرى. رودنجوت اللغة المتأنقة أو الباروكة هي الأليق برقصة الفالس لا ثوب الفاتنة الريفية المزركش وشعرها المُسدَل في الريح. ولكنَّ ذكرى ما قبل الحداثة والعقلانية تبقى كالجمرة النائمة في الرماد. وربما رأينا كيف أنَّ الكثيرَ من مواقفنا يكشفُ عن تهافتٍ و فقدان جزئيّ لآداب اللياقة المستعارة أمام صدمة الحدث المفاجئ. هذا ما نستطيعُ أن نقفَ عليه من خلال يقظة الفارس الدونكيشوتي في دخيلاء بعض المناضلين والمثقفين عندنا أمام خطورة انتشار فيروس كورونا مؤخرًا. فعوض احترام الحياة والدفاع عنها كقيمةٍ مطلقة - من خلال الالتزام ببعض الاجراءات الاحترازية البسيطة - يجنحُ البعضُ إلى الدفاع عن فروسيةٍ - انقضى زمنها - تجعل من اقتحام الموت والرقص معه أعلى درجات البطولة. وهل يُعتبَرُ مثقفا أو مناضلا من لا تكونُ حياةُ البشر في قلب اهتماماته؟ هل من الحكمة أن نعتبرَ المعارضة السياسية هدفا لا وسيلة من وسائل التنبيه إلى ممكنات حياةٍ أفضل وأكثر ارتقاءً بالإنسان؟    
 إنَّ ردودَ أفعالنا تكشفُ، فضلا عن ذلك، عن أمرين آخرين أراهما جديرين بالذكر: فمن جهةٍ أولى ثمة شبهُ اقتناع لدى البعض بأنَّ هذا الوباء الكونيّ مجرَّدُ إشاعةٍ دبرها النظامُ من أجل لجم الحراك الشعبيّ. ولكن ليسمح لي هؤلاء أن أقول إنَّ عقلية "المؤامرة" الساذجة التي تسكنهم تمثل بذاتها أكبرَ خطر أمام أيّ حلم بالتغيير الفعلي. هذه دوغماتية صبيانية لا ترقى حتى إلى مستوى العقلية الانتحارية. وكأنَّ العالم كله – وهو يعيشُ حالة الذعر أمام انتشار الوباء السريع وغير المُتحكم فيه – دبَّر كوميديا صغيرة من أجل ذلك. هذا وهمٌ نرجسيّ كبيرٌ في ظل غياب ما يمنحُ الذاتَ الجريحة قيمتها الفعلية على مسرح العالم والتاريخ. ومن جهةٍ ثانية يبدو لي أنَّ هناك استخفافا كبيرًا بالصحة العمومية وسلامة المواطنين باسم التعنت النضالي في أكثر أشكاله تصلبا. ولكن كيف يكونُ ردّ فعل هؤلاء المغامرين إذا تبيَّن لهم، مثلا، أنَّ السلطة التي يحاربونها هي أكثرُ حرصا منهم على سلامة المواطنين؟ إننا، اليوم، لا نحتاجُ إلى بطولةٍ تطهرُ حياتنا من ابتذالها وتمنحها أبَّهتها وجدارتَها كما كان في أزمنة الفروسية، وإنما إلى الوعي البسيط بالمسؤولية المشتركة حيال رصيدنا من الإقامة الفريدة الفاجعة في بهو انتظار الغياب الحتميّ.
     إنَّ ما أودّ الإشارة إليه، بهذا الخصوص، هو  أنَّ البصيرةَ تقتضي منا، أيضا، التأمل الفلسفيَّ العميقَ في وضع الإنسان بما يتجاوز الظرف المحلي أو الوطني. فلا شيءَ يُوحّد البشرية أو يذكرها بمصيرها المشترك مثل الكوارث أو الموت. ومن نافل القول أن نعتبرَ جلجامش، بهذا الصَّدد، بطلا إنسانيا لا محليا   أو قوميا. هذا ما يُنيط بالسياسة والتدابير الإدارية المختلفة مهمة الإصغاء إلى العلم والبحث بدل التلهي بمحاولة الكشف عن خبايا المؤامرات المفترضة  أو إهدار الجهود في تتبع آثار الزبانية الذين سيحولون حياتنا إلى جحيم لا يطاق خدمة لمصالحهم. ثمة تهديداتٌ فعلية عرفتها البشرية فتحت عهدًا جديدًا للفكر، وذكرته بمهامه الأساسية العابرة للقوميات والثقافات كمشكلات البيئة التي نبهتنا – منذ عقود – إلى تصدّع الفكر القائم على مركزية الإنسان منذ أعلن ديكارت، مبتهجا، بداية سيادة الإنسان على الطبيعة؛ أو كالمشكلات التي ولدتها التكنولوجيا الحديثة مع ميلاد العصر النووي وانفلات "إرادة القوة" الوحشية من عقالها في عصر ملأ الأسماع بحديثه عن التقدم والنزعة الإنسانية والسلام العالمي. إنَّ الأمرَ الذي نستطيعُ التوقفَ عنده نقديا – من وجهةٍ سياسية وفكرية – هو الارتباط الوثيق بين النظام الاقتصادي العالمي وإرادة الهيمنة من خلال عمليات تحويل الكوكب الأرضي إلى منجم للاستغلال خدمة لـ "ديانة السوق". لقد تمَّ عبورُ الحضارة المادية الحالية، بنوع من النجاح المؤكد، من مرحلةٍ تجدُ رمزها الأول في "فاوست" إلى مرحلةٍ أخرى أقل بريقا مع عودة انبعاث رمز "شايلوك". من المزاوجة الشيطانية بين المعرفة والقوة إلى وضاعة اللهاث وراء الربح لا غير. هذا، ربما، ما جعل البعضَ يتحدَّثُ عن "الحرب البيولوجية" التي لا همَّ لها إلا القضاء على المنافس بأحط الوسائل في عهد شيخوخة الليبرالية وفقدانها الوجاهة التاريخية. ولكنَّ الوباءَ المُستجد الذي بدأ يفتك بالآلاف اليوم لم يعُد مشكلة اقتصادية أو قومية تحصرها حدودٌ سياسية ومصالح ظرفية وإنما مناسبة للتذكير بوحدة البشرية في مواجهة خطر فعليّ يجب أن يستنهضَ الإرادة السياسية و الأخلاقية وكل الإمكانات العلمية من أجل محاصرته وتجاوز مخاطره بمعزل عن عقلية "شايلوك" التي قد تستثمرُ في معاناة البشر. وإنه لمن المُستغرب أن يظهرَ هذا الوباءُ القاتل في عهدٍ شهدَ اهتماما فلسفيا مُستحدثا تحت مُسمَّى "ما بعد الإنسانية" Transhumanisme استنادًا إلى آخر تطورات البيولوجيا الحالية وإمكان إحداثها ثورة جلجامشية من خلال التصدي لظاهرة الشيخوخة وإعادة التفكير في المرض و الموت من زاوية تتجاوز التراثات القدرية التقليدية بهذا الشأن. فهل تشهدُ الحداثة، اليوم، ميلادَ نسخةٍ ثانية معدَّلةٍ منها من خلال إعادة ترتيب العلاقة بين الإنسان ومحيطه من جهةٍ أولى، وبينه والآخر من جهةٍ أخرى على أساس من البصيرة والحكمة التي تتجاوز نزقَ البدايات الواثقة أكثر من اللازم في ذاتها؟
     إنَّ المشهدَ الأبوكاليبتيكي الكاموي المهيمن على العالم اليوم يذكر البشرَ جميعا بوضعهم التراجيدي تحت "السماء الفارغة" كما يُعبّر. وأعتقدُ أنَّ فكرة المُنقِذ قد هجرت اللاهوت التقليديَّ منذ فتح التقدمُ العلميّ كوة الأمل الصغيرة في دهاليز الكينونة المُعذبة بمشكلة المعنى والعدم الماثل في كل لحظة أمامنا. هذا "الوباء" يدعونا إلى التضامن في مواجهة العالم الصامت بمعزل عن اختلافنا ما دمنا "على ظهر السفينة" الواحدة إن استعرنا تعبيرَ محمود درويش الجميل. قد يوجدُ بيننا، ربما، من يستنهضُ شايلوك النائمَ في أعماقه على مستوى الأنظمة والمؤسسات للاستثمار في الأزمة كما هو معهودٌ في ظل الحرب الاقتصادية الشرسة، ولكنَّ الأمرَ المؤكد هو أنَّ جلجامش سيواصل من جهته، أبديا، البحثَ عن إكسير ينقذ مَن سمَّاه هيدغر "راعي الكينونة" مِن احتمالات الغياب المتفاقمة.

كورونا ليس مؤامرة سياسية أو ميتافيزيقا
• عبد السلام يخلف

المثقف هو نور المجتمع ونبراسه، هو الشمعة التي تحترق كي تضيء الطريق هكذا تعلمنا تعريف المثقف على مقاعد الدراسة. المثقف هو البارومتر الذي يقاس به وعي الشعوب والمواطنين وردود أفعالهم ومستوى وعيهم وشكل عقلانيتهم وتعاملهم مع المخاطر وهندسة تفاعلهم مع الغير وفهمهم لما يحيط بهم من إحداثيات ومعالم كي يدلوهم إلى المبتغى. كيف يتعامل هذا المثقف اليوم مع المستجدات جراء استفحال وباء كورونا؟ ما هو الدور الذي اضطلع به؟ هل هناك حجج يبني عليها موقفه؟ المثقفون ليسوا كتلة واحدة تأخذ معلوماتها من نفس المصادر الموثوقة وتتحرك في نفس الاتجاه وبنفس العقلانية بل ينقسمون إلى مجموعات.
المجموعة الأولى هي جماعة "اللاخطر" أي أنها ترى في كورونا مجرد داء مثل الأمراض السابقة (السيدا، الإيبولا، أنفلوانزا الخنازير...) التي مرّ بها البشر دون أن يحدث هذا الهلع بسبب وسائل التواصل الاجتماعي، فهم يرون في الوباء نوعا من الهستيريا التي أصابت "الخوافين" ضحايا الجهل والانصياع وراء الأخبار الكاذبة وبالتالي فإن موقفهم هو التعنت وعدم الإنصات إلى أي متخصص أو باحث أو طبيب باعتبار أن كل هؤلاء في خدمة مصالح الدولة والعصابات. إنهم ينادون للسخرية من هذا المرض والمروجين له.  الجماعة الثانية وهي تلك التي ترى في المرض بعض العقاب من الله للبشر الذين طغوا في الأرض وخرجوا عن تعاليمه وهم يرون في كورونا الترياق الذي أعاد الأشياء إلى نصابها أي أنه سيقلل من احتكاك الغرباء ببعضهم والتخلي عن إرغام النساء على مصافحة غير المحارم وإحساس الأقوياء بالغبن والضعف أيضا تماما كما الفقراء والمساكين. النجاة من العقاب تكمن في العودة إلى طريق الله والتوبة نهائيا عن الفواحش والمنكرات التي ستودي بالإنسانية إلى الهلاك.
الجماعة الثالثة ترى فيها مبدأ السحر الذي انقلب على الساحر أي أن الفيروس هو من إنتاج المخابر العالمية التي كانت دوما تحضّر للحروب البكتريولوجية والأشكال الجديدة من الصراعات التي ستقوم بها أمريكا وغيرها في دوائر أخرى باعتبار أن الفيروسات هي أداة أو وسيلة لتحقيق السيطرة على الدول الأخرى والهيمنة على النظام الدولي من منطلق "الغاية تبرر الوسيلة" أو أنه على ضوء مقولة الجنرال كارل فون كلاوزفتز "الحرب هي مواصلة للسياسة بأدوات أخرى" أي أن كورونا هي ممارسة للضغط أو بلغة جوزيف ناي "قوة ناعمة" تستعملها أمريكا ضد الصين ودول أخرى للضغط عليها وإضعاف قدراتها. الجماعة الرابعة هي تلك التي ترى أن كورونا ليس سياسة ولا فلسفة سياسية ولا إيديولوجية و لا عقيدة دينية بل هو مرض فتاك يعصف بحياة الناس حول العالم وليس له دواء لحد الآن إضافة إلى أن العالم الذي كان يفتخر بالعولمة وسهولة تنقل البشر والسلع بين الدوائر الاقتصادية العالمية مما سيخلق ديناميكية في الاستثمار وانتقال رؤوس الأموال وزيادة القدرة الشرائية أدت إلى انتقال الأمراض الفتاكة. الكلمة الآن للعلم الذي يجب أن يتدخل لتقديم حل لأن كل من ليس له خبرة في هذا المجال عليه السكوت كي يمنح الفرصة للمتخصصين العارفين لإيجاد الحلول العلمية لمشكلة علمية.
أعتقد أن مثقفينا ينتمون منقسمين إلى هذه المجموعات الأربعة وبالتالي فإن مواقفهم من الموضوع تختلف من شخص لآخر حتى أن البعض يستعمل صفحة الفايسبوك بجهل كبير للسخرية من كورونا ومن السياسة ومن السلطة ويخلط الحابل بالنابل حتى أنهم يرون أن غلق المدارس والجامعات هو عملية مقصودة من طرف السلطة. فليعلم هؤلاء أن الناس في الكثير من الدول التي لم توقف الدراسة قد قرروا من تلقاء أنفسهم وخوفا على أبنائهم من المرض عدم ارسالهم إلى المدارس لتفادي تفشي الفيروس. من واجب الجميع الآن الإصغاء إلى المختصين والأطباء ومتعاملي الصحة العمومية وتفادي رأي السفهاء الجهلة المتعنتين الذين يؤمنون بنظرية المؤامرة وعلى أن كل ما يحدث في المجتمع بما في ذلك كورونا هو من تخطيط السلطة حتى أنهم يبعثون بالناس إلى مواصلة حياتهم العادية بما في ذلك الحراك كل جمعة. أتمنى من كل العقلاء والمثقفين الواعين بالمخاطر المنصتين إلى صوت الطب والعقل إلى توعية الناس من حولهم لعدم التجمع وتفادي الاحتكاك والعادات السيئة مثل المصافحة و"البوس" والبصق وتشارك الكؤوس. في هذا الظرف الخاص على المواطنين التفرقة بين القضايا وطبيعتها وألا تختلط عليهم الأمور فيناقشون السياسة بمفاهيم دينية (المدنس والمقدس) والأمراض بمصطلحات سياسية أو فكاهية. الوقت للحذر وليس للنكتة أو التعنت. الحراك ليس بيتزا نأكلها ساخنة، يمكنه أن يتوقف حتى يزول الخطر وهذا عين الصواب وسيثبت هذا للعالم وعي الحراك وسلميته واستقراره كقوة مراقبة للسلطة واستمراره في الزمن. الأولوية الآن هي للضغط على السلطة لاتخاذ الإجراءات الضرورية ضد القادمين إلى البلاد في المطارات والموانئ من أجل حماية حياة الجزائريين وتجنب الكارثة. حين نهتم بمحرك السيارة فإننا ندع الميكانيكي يتحدث كذلك اليوم لما نأتي إلى الكورونا فلندع الطبيب يتحدث ما عدا ذلك فإنه هراء ومضيعة للوقت والفرص التي ما تزال متوفرة ولكن ليس لوقت طويل.

خطاب الحقيقة لمواجهة الوباء الثقافي
• عبد العزيز غرمول
 عشت أياما طويلة في حالة قلق مزدوج. قلق الوباء البيولوجي الذي يفتك بالعالم، وقلق وباء الحمقى الذين يسخرون منه في الجزائر. وباء كورونا- أفيد 19 حفر في ذاكرة العالم أثلاما من الجراح، وقبورا لآلاف الموتى، ومدنا في حالة حجر ، وإغلاق حدود ومطارات وأفراح ومتع الحياة ومشتقاتها... لم يحدث ذلك منذ قرن تماما، منذ وباء الطاعون بداية الحرب العالمية الأولى في القرن الماضي. مر علينا إيبولا بأوجاعه القاتلة، وسايروس وإنفلونزا الطيور والخنازير وفيروسات أخرى في هذا القرن، ولكنها لم تغلق مدنًا، ولم تعزل بلدانا، ولم تثر رعب الكرة الأرضية مثلما أثارها هذا الفيروس التافه المعدل جينيا من طرف بيولوجيين مجرمين دفعوا بالبشرية إلى مخاوف الطاعون في القرون الوسطى. علينا أن نستوعب، وأن نفهم، أننا في عصر آخر. نحن لسنا سكان القرون الوسطى، ولسنا يتامى العلم والمعرفة مثل أسلافنا. نحن قمة ما وصلت إليه البشرية في التكنولوجيا والعلم والنظم الاجتماعية والثقافية، كيف يمكن أن يخيفنا فيروس مجهول ويغلق علينا بيوتنا، ويفرض علينا حجرًا ملعونًا، ويختصر أخبار العالم في انتشاره وأضراره؟ نعم. ذلك هو الجانب الصغير المظلم من الكوكب المضيئ الذي نعيش فيه، غير أنه للأسف الجانب المرعب الذي علينا أن لا نسخر منه ولا نقلل من قيمة وعدد ضحاياه. ما حدث في الجزائر، ومع قلّة وتفاهة الحياة الشبيهة بالموت العبثي، أن الناس كانوا ينظرون للخطر على أنه لدى الآخرين، وهم ليسوا معنيين بما يحدث للآخرين كعادتهم. فضلًا عن أن حياتهم التافهة التي لم يرتقوا بها إلى معنى تساوت عندهم حضورًا وغيابا، وجودًا وعدمًا، حياة وموتا، لم يفكروا وهم لا يملكون سوى ثقافة العائلة والحومة والدشرة أن الأخطار أصبحت عالمية، وأن الموت علاقات مشتركة، وأن المصائر لا يحدها إيمان ولا عرق ولا حدود ولا امكانات مادية وتكنولوجية. كل البشرية لها مصير مشترك ومتقاطع، وإذا انتشر وباء في الجهة المظلمة من الكرة الأرضية علينا أن نبدأ فورا في إجراءات الوقاية والحذر. المشكلة المنغصة للحياة وللوعي في هذا البلد أعمق وأخطر من وباء بيولوجي، إنه الوباء الثقافي، بدل أن يصغي المثقف إلى صوت العلم وصوت الضمير المعرفي، ويرسم صورة تحذيرية للكارثة، ويقدم رؤية واضحة لأخطارها، ويقترح أفكارا للحد من آثارها، استسلم عن طيب خاطر ، وعن فشل في التقييم، إلى ثرثرة العامة، وعناد الحمقى، وبدل أن ينفع بأفكاره ومعلوماته شعبه، فضّل بانتهازيته المعروفة رضى الرعاع وجحافل التافهين، وفوّت على نفسه وعلى أمته فرصة الوقاية والحذر من آثار الموت البيولوجي، بل تحول هو في حد ذاته من سخريته من الوباء، إلى وباء يستدعي منا ابتكار مصل للشفاء منه أو اجتثاثه نهائيا من حياتنا. وجهة نظري أن أفضل وأعقل خطاب ينتجه المثقف هو خطاب الحقيقة، هو خطاب الكارثة التي علينا مواجهتها بالمعرفة الموثوقة، والوقاية المطلوبة، وطرق العلاج العلمية. ليس هذا وقت الرومانسية، ولا عناد الحمقى، هذا وقت المساهمة في إنقاذ الأمة من وباء خطير يستدعي أخذه بالجدية الكافية. لقد كتبت منذ أيام أن "الشعوب التي تسخر من الأوبئة تنتهي إلى سخرية الأوبئة منها". وأعتقد أننا في هذا الوضع الساخر.

شـــــــرخ  البشــــــــــــــــــــــــــرية
* محمد جديدي
بحلول عام 2020 دشنت البشرية عهدا جديدا من تاريخها. البشرية إذن، على عتبات شرخ جديد تعولم معه الشّر (من حيث أن المرض والوباء من الشرور)، ممثلا في فيروس جديد قيل إنه مهدد وخطير ولا دواء له إلا بالاحتياط واتباع نصائح وقواعد وقائية.
  إذا ما تأكد ما يروج وما يحوم من شكوك حول كيفية ظهور الوباء الجديد وأنه ناتج مخبري تمّ فيه التلاعب بتجارب أجريت على سلسلة من فيروس كورونا وهو ما افضى إلى انتشاره في شكل وباء، إذا ما ثبت هذا الافتراض (وهو الأقرب للتصديق ولما كان شائعا منذ سنوات حول مسؤولية باحثين في تفشي أمراض بعينها وانتشارها كالسيدا وإيبولا وبعض أنواع الأنفلونزا ...إلخ) فمن المؤكد أن البشرية اليوم تقف على تخوم أزمة حادة في وجودها وتقف على حدود تتأرجح فيها بين معارفها وبين أخلاقها، بين مساءلة فائدة العلوم ومصداقية الإتيقا، مساءلة تكشف جوهر الإنسانية الضعيف وهشاشة لا حيلة للإنسان بمجابهتها إلا بانتظار مصير محتوم يكون هو من صممه لنفسه في نهاية المطاف، بمعرفة كان يتوقع منها خلاصه وتحرره وما بنا عليه طموحاته وأحلامه التي طالما استند فيها على المعرفة لتخلصه من قبضة الطبيعة وقيودها ومن كل قوى بشرية وغير بشرية تريد أن ترهن مصيره بعيدا عن إرادته.        
      بشكل غير مسبوق وفي زمن التواصل السريع، تداولت الأخبار منذ أزيد من شهرين وبشكل متسارع ومتزايد في الحدة وبنوع من التواطؤ الإعلامي والتقني في نشر الخبر حول فيروس كورنونا (كوفيد 19) وما فتئت وتيرة الأخبار غير السارة تلتقط فردا مصابا هنا وآخر هناك في منطقة لم يصلها بعد الوباء وأخرى تضاعف فيها عدد المصابين وكأن الأوركسترا تعزف معزوفتها أو نشيد الكورونا منفذة مخطط من دبروا أمر الفيروس والإيغال في التهويل منه بغلق مؤسسات ومنشآت وتأجيل معارض ونشاطات وإلغاء رحلات وأسفار وإسداء التعليمات والتوجيهات بما يصب بأن الفيروس وباء ووباء خطير وكبير وهكذا ختمت منظمة الصحة العالمية تحذيراتها وهي التي توجت الأخبار ورفعت درجة التحذير والاستعداد وانتقلت من إعلانها أنه وباء épidémie  إلى أنه وباء شامل Pandémie. هكذا وفي زمن الكورونا تضاف إلى شروخات الماضي البشري  شرخ جديد ستكون تكلفته باهظة جدا بالنسبة لإنسان العالم الجنوبي كما لإنسان العالم الشمالي مع ما بينهما من فارق شاسع ونوعي في الإمكانيات المادية والبشرية لمواجهة هكذا أزمات.     
 في هذا المقام يطرح السؤال الآتي: هل سيحاكم الفاشيون والنازيون الجدد ؟
        إذا ما تأكد خبر تسريب الفيروس عمدا كمنتج مخبري وبعدما تأكد اتهام الصين رسميا للولايات المتحدة الأمريكية بأنها المتسبب الرئيسي في نشر فيروس كوفيد 19.(وفق ما تداولته بعض الصحف هذه الأيام) وإذا كان من المعروف أن الأطباء النازيين حوكموا بعد الحرب العالمية الثانية في المحاكمة الشهيرة بنورنبورغ سنة 1947 والتي أصبحت معروفة بقانون نورنبورغ  Code de Nurembergوفيه تم وضع التقييدات والضوابط الأخلاقية والقانونية في ما يتعلق بالتجريب على الإنسان ويبدو أن وصاياها لم تأخذ بعين الاعتبار أزمة كورونا الحالية ولم تتوقعها ربما وهو ما يستوجب اليوم النظر في مثل هذا الوباء والتقنين على منواله في حالات مماثلة بحيث يعاقب من يتسبب في انتشار فيروس نتيجة تجريب مخبري سواء أكان ذلك بعمد أو من دونه.
     ضف إلى ذلك أن الدول القوية التي كنا نسمع صوتها يرتفع في الأمم المتحدة وعبر المنابر العالمية لإدانة ومحاكمة من تصفهم بمجرمين جراء استعمالهم لأسلحة كيمياوية أو بيولوجية وتتهمهم بارتكاب جرائم حرب ضد الإنسانية. وعليه، فالسؤال والاتهام يوجهان اليوم إلى هذه الدول نفسها التي تسببت في أزمة رعب عالمية وهددت الإنسان أينما كان بل وينبغي أن تحاكم في حال ثبوت التهمة على من كان سببا فيه. أليست هي نفسها الدول التي كانت تطالب في كل مرة بمثول بعض قادة دول من العالم الثالث أمام محكمة العدل الدولية بل وجرتهم إليها بالقوة في حين أنها كانت تتملص من كل الاتفاقيات لتحمي قادتها  السياسيين والعسكريين للافلات من كل محاكمة عن جرائم ارتكبوها بكل أنواع الأسلحة حتى المحرمة منها دوليا.
وأخيرا، حتى تبقى للعلم قيمته الإنسانية كخادم للبشرية وجب تعزيز المنظومة الإتيقية بما يكفي لتفادي أزمات مماثلة لــ «كورونا» مستقبلا وفي هذه الوجهة تتكرس جهود البيوإتيقا بأن تتحد بداخلها جهود المثقفين فيأخذون على محمل الجد القيم الإنسانية بقدر أخذهم بالجدية اللازمة هذه الظواهر والأوبئة والمساهمة ليس بنشر ثقافة صحية بين المواطنين بل بتقديم النموذج الأمثل في الاقتداء والتضامن.

يجب الإنصات إلى العلم والكف عن الخطابات الشعبوية
* عابد لزرق
قرأت تقريرا مفصلا نقله أحد المواقع الإخبارية عن التقنيات المدهشة التي استخدمتها الصين لمواجهة فيروس كورونا، من وسائل الاتصال والتواصل الرقمي، وتقنيات التعقيم والتطهير غير المسبوقة، ووسائل الرعاية والمراقبة والمتابعة الصحية باستخدام الروبوتات الإلكترونية وطائرات الدرون... وغير ذلك، وقد دفعني هذا الذي قرأت إلى محاولة الجزم بأننا نعيش خارج حركية التاريخ، بل إننا نعيش خارج المكان أيضا إذا ما قارنا بين البلدان أو حُقّ لنا من الأساس أن نقارن.
يعيش العالم اليوم ظاهرة مرضية لم يسبق لها مثيل في زمننا الحالي ووباءً قاتلا وفتّاكا وسريع الانتشار يتطلب التعامل معه كثيرا من التبصّر والحكمة والتحلي بروح المسؤولية والسماع لأهل الاختصاص بنباهة وحرص شديدين، ولو كانت هذه المسؤوليات ظرفية لنعود بعدها إن شئنا إلى غيّنا واستعلائنا وتمركزنا حول الذات، وإلى انتكاساتنا الحضارية والقيمية كما عوّدتنا إياها الأحداث المتوالية بأننا لا نتعلّم من الشدائد ولا نحسن السماع إلى أصوات الحكمة والعقل.
وعوض أن يكون التعامل مع هذه الظاهرة الآنية تعاملا علميا مطلقا وجادّا من خلال الاستماع والإنصات إلى رأي الخبراء والمختصين، والعمل بتوصيات الهيئات الصحية العالمية والمحلية المتخصصة، والتوقّف قليلا عن السخرية المفرطة أمام هذه الظواهر المستجدّة التي تهدّد صحة البشر وسلامتهم، كانت الاستقطابات الأيديولوجية والسياسية شعار المرحلة بامتياز، عبر أدْلَجة هذه الظاهرة المرضية من خلال جدل نقاشات وتفسيرات العلمانية والتديّن، أو تسييسها من خلال إلصاقها بالتجاذبات الراهنة في مشهدنا السياسي، أو ربطها بمقولة المؤامرة ونسق الذات المنغلق على نفسه والمتمركِز حول فكرة الضحية السيزيفي الأبديّ.
ليس الوقت وقت عتاب ولوم وتوجيه اتهامات من هنا وهناك وممارسات خطابات التخوين، ولكننا لا نملك الجرأة الكافية للقول بأننا مجتمعات لا تتحمّل النخب فيها مسؤولياتها الكافية، وكلما احتاجت إلى أصوات مثقفيها وجدت فئة واسعة منهم غارقة في إنتاج خطابات شعبوية وعاطفية متلاطمة تكاد تجعلنا، كما ذكرت آنفا، كيانا يعيش خارج السيرورة التاريخية وحركة الطبيعة البشرية، وما يحيط بهذا المجتمع وما يحدث من حوله في الفضاء العالمي أو الإقليمي على الأقل، وفي المقابل لا نملك أيضا الجرأة الكافية إلى التساؤل عن مدى قابلية الناس للسماع إلى صوت العقل والمثقفين والتماهي مع آرائهم، على أنه يجب التنبيه إلى أنّ المقصود بالمثقف هنا كل من كان ذا دراية كافية في مجال تخصّصه في أي مجال علمي أو معرفي كان.
إننا بهذا المنطق الاستعلائي الرافض للتأمل والتفكير بهدوء فيما يحدث سيؤول بنا الأمر لا محالة إلى شعوب تمشي نحو حتفها بخطى ثابتة، وبلا روح مسؤولية ووعي كافٍ على تمييز النوازل والاحتكام إلى أولويات كل مرحلة وفترة زمنية، وفي المقابل فإنّ هذا الأمر لا يمنع أبدا من انتقاد تعامل الهيئات الرسمية مع الظرف الحالي ومساءلة أداء الدولة والمسؤولين في التعامل مع هذه الأزمة الخطيرة، كون أن المرحلة تتطلّب صرامة أكثر من الأداء الحالي الذي يلحظ من خلاله الجميع تقصيرا واضحا في مجابهة هذا الوافد الخارجي الخطِر والمهدّد للسلامة البشرية، والانتقادُ أو التنبيه أو البحث عن المُخرجات أمر مشروعٌ للجميع ما دمنا نتقاسم الهواء نفسه، والسماء نفسها والتراب، لأنّ المصائب إذا عمّت فلن ينجو منها غافل أو متغافل أو نبيه.

الوضع الاستثنائي يتطلب تصرفات استثنائية
* عبد السلام فيلالي
نحن أمام وضع استثنائي بسبب تفشي فيروس كورونا ليس في الجزائر فحسب بل في جميع دول العالم، تجربة الصين في مواجهة هذا الوباء تحتم علينا أخذ الأمر بجدية ومسؤولية في ما يتعلق بوسائل الوقاية ومكافحة هذا المرض الذي ليس له علاج إلا بما كسب المرء من مناعة. وضع استثنائي في ظرف استثنائي، على المستوي المجتمعي والسياسي، فنحن لا نملك ثقافة صحية بالمفهوم العام وبالتالي لا نملك طرق مواجهة مثل هذا الوضع. ثمة تفكير بأننا نظل لحد الآن بمنأى عن أخطاره، ولكن تسجيل حالات جديدة يوميا ووفاة ثلاثة مصابين يدحض هذا التفكير. كما أن الاستجابة إلى دعوات تجنب الأماكن العامة قدر المستطاع لا يجد أذانا صاغية، لقد لاحظت أمس تصرفا غير مسؤول من لدن مرتادي أحد الأسواق الأسبوعية، الذين اختاروا ساحة عامة قريبة من مكان السوق الأسبوعي للبيع والشراء، ولاحظت أن المساجد تفاعلت نسبيا مع نداء تقليص وقت خطب وصلاة الجمعة، ونفس الشيء فيما يخص مسيرات الجمعة للحراك. يمكن إبداء «الإعجاب» بإصرار الجزائريين على مواصلة العيش بشكل طبيعي، ولكن إذا قدرنا بشكل علمي خطورة فعل التجمهر على الصحة العامة وإمكانية أن يتعرض عشرات بل مئات لعدوى الفيروس لو أن شخصا كان مصابا بين الحاضرين، سندرك أنها الكارثة حسب ما نعرف عن طريقة انتشار الفيروس. فلا داعي للاحتماء بمثل ردود الفعل هذه المستخفة وغير المبالية وأحيانا المتهمة بمحاولة نشر الرعب وتعطيل الحياة العامة والنيل من الحراك. هذا التصرف لا يناسب هذه الفترة، إيطاليا وإيران تدفعان ثمنا باهظا من ناحية عدد الضحايا والمصابين بفيروس كورونا. يجب أن ننصت إلى صوت الحكمة ونبتعد عن التعقيبات التي تتنافى وصرخات التنبيه من قبيل الجهات المعنية ومنظمة الصحة العالمية. فالحذر مطلوب وواجب، وعلى أطبائنا ونخبنا أن يكونوا أول المستجيبين لهذه النداءات بمسؤولية وتقدير للعواقب. فلتمر هذه الجائحة بسلام، وسوف نستعيد كلنا أملنا في تغيير منظومتنا الصحية بالطريقة التي تجعلنا نستوعب الدرس، وكذلك تستجيب بلادنا إلى إجراءات الحوكمة التي رأينا كيف طبقتنا الصين باقتدار لخلق وعي جمعي مشترك بالتحديات وكيفية تجاوز العقبات.

 

الرجوع إلى الأعلى