ظلت ثنائية الرواية والسينما، تشغل الروائيين والسينمائيين على حد سواء، كما ظلت علاقتهما شائكة وتثير الكثير من الجدل حول من استفاد أو استلهم أكثر من فن الآخر، هل الرواية هي التي استفادت من السينما أكثر؟، أم العكس هو الذي حدث؟، وأن السينما انتعشت وازدهرت بفضل استلهامها من الرواية، وبفضل توظيفها لأجواء وعوالم الرواية التي تقتبس منها أو تحولها إلى فيلم، وتنقل الحياة والتفاصيل التي على الورق إلى حياة وتفاصيل من أضواء وألوان ومشهديات مختلفة.
السؤال المؤرق هنا: هل الأفلام المقتبسة أو المأخوذة عن روايات، بعيدة في الأغلب عن معاني وأجواء تلك الروايات، أم أنه مثلما للرواية خصوصيتها وجمالياتها، للسينما أيضا خصوصيتها وجمالياتها، وأنه لكل واحدة منهما نهجا في سلوك هذا الفن أو ذاك، وأن العلاقة بينهما، علاقة تأثير وتأثر.
أيضا، لماذا حين يفشل الفيلم، يُنتقد النص الروائي أكثر ويُحاكم على أن الفشل منه، أي من النص وليس من السينما، ولماذا بالمقابل تتواصل مقارنة الروايات بالأفلام المأخوذة عنها، وكأن هذه المقارنة ضرورية وحالة مقدسة لا يجب التنازل عنها أو إغفالها.
كُتاب ونقاد، يتحدثون في ندوة «كراس الثقافة» لعدد اليوم، عن جدلية العلاقة بين الرواية والسينما، وعن تحويل الأعمال الروائية إلى سيناريوهات. كما يتحدثون عن مدى ومقدار ما استفادت منه السينما من الرواية، ومن جهة ما استفادت منه الرواية من هذه السينما التي حاولت أن تقارب وتقرب النص المكتوب المتخيل إلى/من النص البصري المتحرك بالمَشَاهِد والتفاصيل والحياة اللونية على الشاشة؟.

إستطلاع/ نـوّارة لحــرش

إبراهيم نصر الله/ روائي فلسطيني

علينا أن نتوقف عن مقارنة الروايات بالأفلام المأخوذة عنها

ثمة درس صعب لا نستطيع أن ننساه، إذا ما أردنا مشاهدة فيلم مأخوذ عن رواية عظيمة، مفاده: «قبل أن تنسى الرواية تماما، لا تذهب لمشاهدة الفيلم المأخوذ عنها». ليست تلك معضلة فيلم «الحب في زمن الكوليرا» المأخوذ عن رواية غابرييل غارسيا ماركيز الأشهر بعد «مائة عام من العزلة» بل معضلة كل الأفلام التي أغوتها ندّاهات الأدب، منذ اختراع السينما. فكلما ظهرت رواية مهمة سارعت السينما لاقتباسها، أو قاتلت لاقتباسها، وإن كان الأمر لم يخل من انتصارات مهمة حققتها السينما مع مخرجين كبار، كما حدث مع «ذهب مع الريح»، «دكتور زيفاجو»، «زوربا»، وسواها. لكن الرواية تظل مختلفة ومنتصرة بنقصانها، أي رغم كونها لا تُرى وتُسمع كما في السينما. وحتى حين حققت السينما هذه الانتصارات، فإنها انتصارات غير مكتملة، إذ إن النجاح العظيم لرواية «طيران فوق عش الوقواق» سينمائيا، وقد قيض لها ممثل لامع هو جاك نيكلسون ومخرج كبير هو ميلوش فورمان، إلا أن الحنين إلى الرواية يعصف بك ما أن تنتهي من مشاهدة الفيلم، وقد عبر كين كيس مؤلفها عن عدم رضاه عن الفيلم رغم تحول هذا الفيلم لواحد من العلامات الكبرى في السينما.
من هنا ربما، علينا أن نتوقف عن مقارنة الروايات بالأفلام المأخوذة عنها، وأن نقر بأن الرواية ستفوز بالضربة القاضية، حتى قبل صعودها لحلبة الصراع مع صُنّاع الفيلم. معضلة الفيلم، المقتبس عن رواية، أمام مشاهديه، أنه ليس الفيلم الذي أخرجوه في رؤوسهم أثناء قراءتهم للروايات، وأن تُخْرِج نظريا، غير أن تتقدم لتجسد الكلمات في فن آخر لا يُبقي من الفن الأول غير هيكله العظمي الذي يُبذل الكثير من الجهد كي يُكسى لحما، ويُشبع حياة.  تلك هي العلاقة الشائكة بين الرواية والسينما، لكنها ليست العلاقة الشائكة بين الفيلم والمسرحية، وهناك أعمال باهرة سينمائيا أُخذت عن المسرح، من بينها أعمال تنسي وليامز، ثم أفلام من مثل: «أماديوس»، «إمبراطورية الشمس»، «على شاطئ البحيرة الذهبية»... وقد أضافت السينما لهذه الأعمال أبعادا جديدة حين أخرجتها من بين الجدران لتحلِّق عاليا في فضاء بلا حدود، لتغدو بالتالي تحفا سينمائية لا يمل المرء مشاهدتها مرة تلو أخرى.
فكلما ضاق النص اتسعت السينما، وكلما اتسع النص غرقت السينما في ما هو متوقع منها من قبل القراء الذين يبدو إخلاصهم للنصوص الأدبية أشبه بشيء مقدس.

 

محمد الأمين بحري/ كاتب وباحث أكاديمي جزائري

السينما كانت أسبق في الاستفادة من منجزات الرواية

على الرغم من الأبعاد المعرفية التي اكتسبها مفهوم الميتا سرد، الذي ظل لفترة حداثية طويلة عصياً على النقد والنقض، فإنه في المرحلة ما بعد الحداثية، اضطلع ببنية نقدية ونقضية جوهرية داخل الخطاب السردي الذي يحتويه، متخذاً طابع اللعب والتلاعب، في محايثته الناقدة لمختلف البنى السردية العتيقة داخل النصوص ما بعد الحداثية، ذلك حينما تتم بلبلة البناء السردي التقليدي، فتتجه الرواية أكثر نحو خصوصية خطابها ومنطق سردها، أين تصبح هي المركز البؤري لأي عملية اقتباس أو تحويل أو إعادة تمثيل لوقائعها.
ولهذا تم اعتبار أي وظيفة للنص الروائي تخرج عن إطار الرواية نفسها -كالتمثيل والمسرحة والاقتباس، وإعادة البناء السيناريستي- من قبيل الوظائف التي تخرج عن إرادة الكاتب، والتي تنتهي عندها سيطرته على النص الذي فتحه صاحبه على كل إمكانات الاختراق الميتا سردي، ومن هنا اتخذت إعادة صياغته السمعية البصرية مشروعية التصرف فيه بعيداً عن صاحبه ما إن تتم عملية التعاقد الرسمية لتحويله من طبيعته السردية إلى الطبيعة السمعية البصرية، أو الطبيعة التمثيلية. حيث ينتهي دور الكاتب عند بداية اشتغال السيناريست، وفريق الهندسة والتركيب المشهدي والإخراج السينمائي، الذي من شأنه أن ينقل العمل من الرواية السينمائية إلى السينما الروائية. فحينما يجعل الكاتب من الرواية نصاً منفتحاً على إمكانات ميتا سردية، فإن أي تمظهر للنص وفق هذه الإمكانات التي تعيد صياغته وبناءه وفق فنيات الفنون التي اقتبسته، ينهي مهمة كاتبه لتبدأ مهمة أخصائيي تلك الفنون المؤسسة على مادة النص الروائي، والمحولة لها في الوقت نفسه. وبمجرد تحقق هذا التحول من الرواية السينمائية إلى السينما الروائية. ينفتح المجال على نوع آخر من التلقي والتصرف والتقنيات التي تعبث بمسارات السرد الذي يبقى مرجعاً ونصاً علوياً ونموذجاً خطياً لكل الاختراقات الميتا سردية التي انفتح عليها وسمح بها.
ولنا في ذلك عدة أمثلة ونماذج، منها ما فاقت فيها الروائية الخطية نسختها السينمائية، ومنها ما تفوقت فيها النسخة السينمائية عن الرواية الخطية.
لطالما تعلقت قرائح المتلقين بنماذج سينمائية ارتبطت ارتباطاً وثيقاً في مخيلاتهم بنصوصها الروائية، فظن كثير من العوام وحتى طوائف من المثقفين بأن الفيلم السينمائي هو نفسه النص الروائي، على الرغم من أنهما مختلفان جذرياً بحكم نوعية وكمية الاختراقات السينماتوغرافية التي لحقت النص المكتوب، الذي يُعزى كثير من نجاحه إلى الإبداع السينمائي حققه فريق إنتاج الفيلم، ولنا في بعض الأمثلة من الأدبين العالمي والعربي خير دليل على فضل النجاح السينمائي على رواج النص الروائي بين القراء. ففي الأدب العالمي نجد على سبيل المثال: روايات «هاري بوتر» لـجوان كاثلين رولين، «زوربا» لنيكوس كازانزاكيس، «الكونت دي مونتي كريستو» لألكسندر دوماس، «مادام بوفاري» لـغوستاف فلوبير.
أما في الأدب العربي فنجد مثلا: روايات نجيب محفوظ «زقاق المدق، الحرافيش، اللص والكلاب»، «عائد إلى حيفا» لغسان كنفاني، «الحريق» لمحمد ديب، «ذاكرة الجسد» لأحلام مستغانمي (مسلسل تلفزيوني). وجميعها نماذج تفاوتت قيمتها الروائية والسينمائية من حيث النجاح، وهذا عائد لخصوصيات العمل الروائي من جهة، وخصوصيات تجسيده السينمائي من جهة ثانية، كما يمكن أن يعود نجاحه أو فشله إلى عوامل تخرج عن الروائية وعن السينما، تتحكم فيها طبيعة العقد التجاري المبرم بين الروائي وصاحب الشركة السينمائية، وهو العقد الذي يحدد مدى تدخل الأول في عمل فريق الإنجاز السينمائي، والحدود التي يلتزم بها كل منهما تجاه الآخر، وكلها عوامل تخرج عن طبيعة الفنين معاً، لكنها قد تحسم مصير العمل من حيث النجاح أو الفشل. حينما يخرج النص (بملفوظاته، وبنياته، ومشاهده السردية) من ربقة كاتبه، ويصير إلى يد الطاقم السينمائي الذي سيعيد بناءه وفق تقنياته وقوانينه الخاصة، التي تختلف جذرياً عن نظيرتها الروائية، سيتساءل الجميع طبعاً حول طبيعة هذه المدخلات التي سيضفيها السينمائي وفريقه التقني إلى النص، وما سيسقطه من عناصر كانت جوهرية في البناء الروائي فصارت سقط متاع في الطبعة السينمائية للنص. وهذا ما نسميه بالاختراقات الخارجية التي ينتظر أن تحدثها السينما على النص، حينما تنقله من طابعه المكتوب والمقروء إلى طابعه السمعي البصري المشاهد.
تحوم حول الفيلم الروائي، أو الرواية المؤفلمة جملة من الأوهام بعضها خاص بصاحب العمل نفسه وبعضها يخص المتلقي العامي، حيث نشهد في وطننا العربي ظاهرة تدخل الروائي في عمل السيناريست والمخرج، حرصاً على تثبيت منظوره ورؤاه وحماية عمله من الاختراق، كأنما يظن بأن العمل الروائي حتى بعد تحويله سينمائياً فهو ما يزال رواية جاهلاً أو متجاهلاً الحدود الفنية والأجناسية بين فني الرواية والسينما. مما يجعله يحرص بشدة على مواكبة أو مرافقة عمله أثناء الأداء والتنفيذ السينمائي، متتبعاً كل كبيرة وصغيرة. وبما أن الروائي ليس سينمائياً أو سيناريست، فقد يؤدي تدخله في عمل غيره إلى تشويه العمل والقضاء على نجاحه سينمائياً. والمعروف بأن مولود معمري، قد احتج فيما سبق على محتوى فيلم «الأفيون والعصا» المقتبس من ورايته الحاملة لنفس العنوان، كونه لا يعبر عن رؤيته.. فإلى متى ستسمر وصاية الكاتب على نصه؟ والتوهم بأن الرواية حتى بعد أفلمتها ونقلها من خطاب الكلمة إلى خطاب الصورة ستبقى رواية؟؟ وما يؤسف له أن تكريس هذا الوهم يقوده الكُتاب أصحاب الأعمال الروائية، قبل أن نلفيه شائعاً لدى طبقات المتلقين من العوام والمثقفين على حد سواء. فكلاهما يعتقد بأن الرواية إن تمت أفلمتها ستبقى هي الرواية المكتوبة وهذا مستحيل. فالسينما عمل يتميز بتقنياته المختلفة عن تقنيات السرد، وإن انتقل العمل النص إلى الصورة، فيجب أن تنتهي وصاية الكاتب حالما يلقي عمله للقراء، وما السيناريست والمخرج سوى من هؤلاء القراء.. فمتى يعلم المثقف بأن الرواية رواية والسينما سينما.
فما يضير المؤلف إن كانت قراءة السينمائي وفريقه تختلف عن قراءته الشخصية وآرائه، فاختراق السينما للنص ليس خيانة بل إبداعاً وإثراءً وقراءات متجددة.. فلنترك السينمائي يقوم بعمله، وفي النهاية نجاح العمل الروائي لا يعني أبداً نجاحه سينمائياً، وفشل العمل روائياً لا يعني فشله سينمائيا. ويشهد تاريخ الفنيين، على أن السينما كانت أسبق في الاستفادة من منجزات الرواية، واستعارة بعض تقنياتها التصويرية والتشخيصية والسردية، حتى أقلعت السينما إقلاعاً جعلها تتجاوز الرواية من حيث متابعة الجمهور المتلقي.

 

محسن الرملي/ كاتب وأكاديمي ومترجم عراقي يقيم في إسبانيا

استفادات متبادلة

يبدو أن الروائيين يشبهون الروايات، فمثلما أن جنس الرواية قادر على احتواء مختلف الأجناس الكتابية الأخرى وتوظيفها بنسب متباينة، نجد أن أغلب الروائيين لديهم محاولات توظيف تجاربهم في ميادين أخرى كالشعر والمسرح والصحافة والنقد.. وكذلك السينما منذ ظهورها. غراهام غرين، خوان رولفو، آلآن روب غرييه، كاميليو خوسيه ثيلا، غابرييل غارسيا ماركيز.. وغيرهم. ومنهم من كتبَ السيناريو واشترك حتى في التمثيل والإخراج.
أنا الآخر لي تجربتي المتواضعة في هذه الميادين، أقصد الشعر، المسرح، الصحافة، النقد والتلفزيون والسينما. وكان حلمي المبكر أن أدرس المسرح لكن عائلتي الفلاحية المتدينة منعتني من ذلك، ورغم هذا لم أنقطع، ولم تمت بذرة ذلك الحلم، فقد كتبت ومثلت وأخرجت للمسرح، وفي التلفزيون قدمت برنامج «نافذة المغترب» وكتبت سيناريو مسلسل «صبر الناي»، أما في السينما فقد كانت لي تجربة كتابة السيناريو الاحترافي لفيلم طويل لصالح شركة سمرقند الإسبانية للإنتاج السينمائي «حيرة المهاجر» وفاز هذا السيناريو بجائزة الدعم الأوروبية كواحد من أفضل عشرين سيناريو من بين 350 تقدمت بها إسبانيا وحدها عام 1996.
كذلك شاركت في عملية مونتاج فيلم «أبطال» من إخراج أنطونيو كونيسا، وكعضو في لجنة تحكيم لأحد المهرجانات الدولية الصغيرة في إسبانيا، وبالطبع استمراري للمتابعة والاحتكاك بالوسط السينمائي وتقديم الاستشارات.
في تجربتي لكتابة السيناريو، وجدت المنتج والمخرج يطالبانني بإدخال مشاهد متنوعة بقصد إرضاء أوسع مساحة ممكنة من الأذواق المتلقية، فطُلب مني إدخال مشاهد: عنف، جنس، مطاردة، بكاء، حادث/أكشن.. وغيرها. أما في الرواية فلا ضرورة لإدخال كل هذا التنوع، إلا أنني لا أنكر بأنه قد بقي حاضراً في ذهني أثناء الكتابة الروائية.
عند الكتابة الروائية أعيش الأجواء وأتقمص الشخصيات، أما عند الكتابة للسينما فأشعر بانفصال معين، أجدني أتصور المشاهد أكثر من عيشها وأنني أُقَمِّص الشخصيات لآخرين، ممثلين، ولا أتقمصها أنا.
في كتابة السيناريو أفكر وأرى بعين الكاميرا دائماً وثمة إطار يحدد مساحة المَشاهَد، أما في الكتابة الروائية فإنني أفكر وأرى عبر اللغة مَشاهداً بلا حدود، تتسع للعالم وكل الحواس، حيث أشم الروائح وألمس الأجساد والأشياء وأشعر بدرجات الحرارة وبالوجع النفسي والغبطة وغيرها... وثمة وقت كاف، بل ومفتوح للتأمل فيها، وهو أمر لا أشعر بأن المشهد السينمائي يمهلني له أو يسمح لي بفتح الزمن على مزاجي.
الكثير من المشاهد البارزة التي أشار لها نقاد وقراء في رواياتي، كتبت تماماً بصيغة تصوير سينمائي لها وخاصة مشاهد الموت في رواياتي الثلاث: «الفتيت المبعثر»، «تمر الأصابع»، و»حدائق الرئيس». وفي سيناريو «حيرة المهاجر» وجدت بذرة روايتي «تمر الأصابع».
شخصياً، أفضل أن يقوم غيري بتحويل أعمالي الروائية إلى سيناريو وألا أقوم أنا بذلك بنفسي، ذلك أن الكتابة لكل جنس تحتاج إلى مهارات ومعرفة كتابية خاصة بها. إنه تخصص ونادراً ما ينجح أحد في ممارسته لاختصاص هو ليس اختصاصه الأصلي.
لسبب أجهله، أجد في نفسي استعداداً لتحمل فشل رواياتي إلا أنني لا أحتمل فشل تحويلها بنفسي إلى سيناريو أو فشل نص سيناريو أكتبه، على الرغم من أن الرواية هي همي الكتابي الأول. قد ينجح الروائي كسيناريست ولكن من النادر أن ينجح السيناريست كروائي. السينما استفادت من المتن الدرامي للرواية والرواية استفادت من التقنيات السينمائية. وتبقى اللغة هي جسد وروح الرواية وبها تَخلق صُورها، الصورة هي روح وجسد السينما وبها تخلق لغتها.
الرواية عمل إبداعي فردي ولا يتطلب مادياً سوى ورقة وقلم فيما السينما عمل إبداعي جماعي يتطلب أموالاً طائلة وجهوداً كبيرة وانسجاماً بين أعضاء فريق العمل الكبير، لذا أحسدهم على صبرهم وعلى قدرتهم على التفاهم بشأن مسائل إبداعية، لأن ذلك يبدو لي أمراً بالغ الصعوبة إلى جانب معضلة كثرة المواد والأموال المطلوبة، وهذا ما جعلني أركز أكثر على الكتابة والاكتفاء بها على حساب حبي واهتمامي بالمسرح والسينما، وربما لأنني أكسل من كل هؤلاء السادة، وأصعب بالتفاهم على تفاصيل إبداعية.
الرواية والسينما جنسان حيويان، أُمان لمختلف الفنون وفيهما قدرة لا متناهية على احتضانها، لذا فهما أكثر عرضة من غيرهما للإصابة بالعدوى وللتغيرات وأسرع في تحولاتهما القادرة على مواكبة تحولات العصر، من هنا لا أتوقع لهما عمراً طويلا وفق صيغتهما الحالية المتعارف عليها، وهذا لا يعني بأنهما سينتهيان، وإنما سيتحولان إلى صيغ فنية أخرى بعيدة عن الأصل الذي عرفناه بهما، وهذه صفة حياة وحيوية متفاعلة ولها مخاطرها أيضاً.

 

مفلح العدوان/روائي وكاتب مسرح وسيناريو أردني

السينما العربية منذ بداياتها اعتمدت على الرواية كمادة لسيناريوهاتها

إذا كانت السينما العربية، ومنذ بداياتها، اعتمدت على الرواية كمادة لسيناريوهاتها، فإن الرواية العربية، أيضا، استفادت من السينما، في تطوير التقنية والأسلوبية الروائية، وتجاوز السرد التقليدي، وتشابك عنصري الزمان والمكان، وتداخل الأزمنةـ وغيرها، وكذلك في الانتشار وسعة الاطلاع عليها، حينما تصبح الرواية مادة سينمائية مرئية.
غير أن البحث هنا، ليس في تلك العلاقة بين الرواية والسينما، ولكن بتحديد أدق، حول مدى حضور الأسطورة، كمكون إنساني في الوعي الجمعي، وثقافة المجتمع، العربي، في السينما العربية، وما حصيلة هذا الجانب، الأسطوري، الخارق، في السينما العربية، خاصة وأن هناك تراكم من الروايات المهمة المكتوبة، في الجانب الأسطوري، كما أن هناك إرثا ضخما من الحكايات والقصص والأحداث والطقوس الأسطورية في العالم العربي، كما هو حال الشعوب الأخرى في أساطيرها وثقافتها.
ولكن نظرة باتجاه عدد الروايات وموضوعاتها، التي تم تحويلها، إلى سينما، ستعطينا مؤشرا على قلة الروايات الأسطورية، أو قلة حضور الأسطورة، والفنتازيا، والخوارق، في السينما العربية، في مقابل كم هائل من الأفلام الاجتماعية، والرومانسية، والبوليسية، إذ أن الروائي إحسان عبد القدوس مثلا، هو من أكثر الروائيين العرب الذين حوّلت رواياتهم إلى أفلام سينمائية «43 فيلما عن رواياته»، ثم بعده يأتي نجيب محفوظ بــ»41 فيلما مأخوذا عن رواياته»، توفيق الحكيم «22 فيلما»، يوسف السباعي «15 فيلما»، يوسف إدريس «12 فيما»، «ثروت أباظة «6 أفلام»، وبعد ذلك تأتي أسماء روائيين تم تحويل رواياتهم إلى سينما، بأعداد متفاوتة، ولكن قليلة نسبيا، أقل من 5 أعمال، مثل كتابات إبراهيم أصلان، يوسف القعيد، جمال الغيطاني، خيري الشلبي، وغيرهم.
ومثلما استفادت السينما من الرواية، استفادت أيضا في كل عصورها من الأساطير القادمة من كل أنحاء العالم وظلت تنهل منها، وتحاكي الخوارق، فجاءت سلسلة «هاري بوتر»، وأفلام نهاية العالم، في محاكاة لأسطورة نهاية الكون المدونة ضمن أساطير المايا والأزيتيك.
أيضا هناك حضور للأساطير والحكايات العربية في السينما العالمية، حيث أفادوا منها، وقدموها، ولكن في كثير من الأحيان في إظهار جوانب سلبية لصورة العربي من خلالها، وهنا تجدر الإشارة إلى كل من أفلام «لص بغداد»، «السندباد»، «علي بابا والأربعين حرامي»، «علاء الدين والمصباح السحري».
وإذا ضيقنا دائرة البحث لتركز على الرواية العربية التي تناولت الأسطورة في مضمونها، سنجد هذا النزوع كان مع التأسيس للرواية العربية، والنزوع نحو استلهام التراث والأساطير، وإسقاطه على الواقع المعيش، بكل تحدياته السياسية والاجتماعية والثقافية. ونجد ذلك في البدايات عند توفيق الحكيم في رواية «عودة الروح» عام 1933، واستحضار أسطورة الموت والانبعاث الفرعونية. كما نجده في رواية «ايزيس وأوزوريس» عام 1945، قصة من وحي الأسطورة المصرية الفرعونية، للكاتب عبد المنعم محمد عمرو، طبعت عام 1945م، وفيها إعادة صياغة للأسطورة الإيزيسية.
لقد تم استثمار المخيال الجمعي، والأساطير الإنسانية، قديما وحديثا، في الرواية والسينما عالميا، ولعل أشهر الروايات التي يمكن استحضارها ما صدر عن الروائي جون رونالد رويل تولكين صاحب «سيد الخواتم» ثلاثة مجلدات نشرت في1954/1955. وسلسلة «هاري بوتر» التي كتبتها جوان رولينغ موراي/سبعة أجزاء، وسلسلة «سجلات نارنيا» لكليف ستيبلز، ورواية «لعنة كابسترانو»، لـجونسون مكولي، حول شخصية زورو، حيث أن كثير من تلك الروايات الأسطورية، وغيرها، تم تحويلها سينمائيا.

 

وحيد الطويلة/ روائي مصري

السينما تستمد خصوصيتها من الصورة المتحركة بينما يرتكز الأدب على الصورة المتخيلة

يقول فيلليني: «إن المخرج حين يشاهد فيلماً في قاعة السينما لن ينشغل بالصورة البصرية ولا بالكادرات ولا الموسيقى ولا المونتاج، لكنه سوف ينشغل أولاً وأخيراً بالقصة».
ربما نجد هذا الكلام غريبا من مخرج يجعل الممثلين يطيرون ممسكين بمظلاتهم من سطوح السيارات والقطارات، مخرج لا يأبه بما يقوله أبطاله طالما أنه سيقوم بتركيب الجُمل التي يريدها على ألسنتهم حتى لو كانت وليدة اللحظة، لحظة ما بعد التصوير بكثير، لكنه لن يكون غريباً من وجه آخر عندما يقول إن الناس يسألون عن مصير أبطاله وأين ذهبوا بعد أن انتهى التصوير، هل يكملون نهاياتهم في أفلام أخرى.
لكن ذلك كله وإن بدا أنه يمكن إظهاره في الشريط السينمائي عبر المونتاج إلا أنني ربما أذهب مع تاركوفسكي إلى أن الإيقاع وليس المونتاج هو العنصر المكون الرئيسي للسينما، وبأن إحدى الإمكانيات الثمينة للسينما هي إمكانية طبع فعلية الزمن على الشريط السينمائي.
أين تقف الرواية من السينما والعكس، سؤال قديم متجدد لن ينتهي، ربما قال جراها مجرين: «لسنا في حاجة لاعتبار السينما فناً جديداً فهي في شكلها الروائي لديها نفس غرض الرواية مثلما للرواية نفس غرض الدراما، ربما ذهب البعض إلى محاولة إيجاد تشابه وتطابق بين مفردات كل من السينما والأدب، فالكادر السينمائي يقابل الكلمة، واللقطة تعادل الجملة، والفقرة تُقابل المشهد، والفصل لا يختلف عن الفصل، واعتبروا المونتاج بمثابة القواعد النحوية وأدوات الربط».
لكن موريس بيجا رد بسخرية: «إذا كان هذا صحيحا وكانت الكلمات هي المقابل للكادرات فأين القاموس الذي يستطيع أن يحدد معنى كل صورة!!».
هناك آراء كثيرة جديرة بالإنصات لها حول علاقة الغرام المسلح بين الرواية والسينما، ربما منها إن كلا من الرواية والفيلم له عالمه الخاص في التعبير السردي، فكل منهما جنس مختلف من الفنون، قائم بذاته، وله أبعاد جمالية متفاوتة، مع ذلك فإن الاختلاف لا ينفي وجود بعض من التشابه، وما بينهما من جذور مشتركة، من تماثل وتباين وعلاقة تأثيرية تبادلية. إن الاختلاف لا يُنكر تجاورهما، فكل من الصورة السينمائية والأدبية صور ممتدة زمانيا ومكانيا، وأن أحد الفوارق الأساسية بينهما أن السينما تستمد خصوصيتها من الصورة المتحركة فعلياً، أي الصورة المرئية أو المطبوعة، بينما يرتكز الأدب على الصورة المتخيلة. يذهب مارسيل مارتن إلى أن السينما تقترب من الرواية الحديثة، فالرواية والسينما تبحثان منهجيا كل ما يسعها من الانصهار العاطفي بين الشخصية والجمهور، ويضيف: إن قارئ الرواية يكون سلوكه مشابها لسلوك مشاهد الفيلم، فالفيلم إلى حد ضئيل يبقى عرضا مشهديا وليس عرضا على الإطلاق، إن السينما كالرواية-حكاية.
إنه يريد أن يقول لنا عندما جمع بين الرواية والفيلم كونهما حكاية: إن الحبكة هي القاسم المشترك بين الفيلم والحكاية والحبكة كمصطلح من العناصر المكونة للعمل الأدبي والفني ولكن الحبكة في حد ذاتها لا تهم إلا الكاتب أو المؤلف لأنها مخطط يصبح في النهاية قطعة من الحياة كما تخيلها المبدع، والحبكة أيضا ليست مهمة للمتلقي (القارئ أو المتفرج) وما يهم المتلقي هو البناء الدرامي.
ولئن كانت القصة هي العصب الأساسي للأدب القصصي كما للسينما، فإن العثور على الخيط الرابط لكل ذلك –كما يقول ماركيز- هو «التحدي الأشد صعوبة». ربما كل هذا وربما أشياء أخرى يطول الحديث عنها، لكنني وإن كنت لا أبحث عن حكاية مركزية في الرواية ولا في السينما، أرقب المونتاج في كليهما، أرقب الإيقاع، الصورة البصرية، الإنتقال من شخصية لأخرى، رائحة اللغة، أسلحتها، لكنني حين أجلس إليهما ربما أبحث مع المخرج الإيطالي فيدريكو فيلليني في النهاية عن خيط رابط، ربما عن حكاية، ولو مجرد حكاية.

الرجوع إلى الأعلى