- كرة القدم الشيلية فقدت بتحولي إلى الأدب لاعبا عظيما  
      - حين كان غارسيا ماركيز أكبر وأقبح من غارسيا ماركيز
توفي مؤخرا الروائي  الشهير لويس سيبولفيدا بوباء كورونا في اسبانيا، لتنتهي الرحلة المثيرة لصاحب رواية «العجوز الذي يقرأ قصص الحب» الذي عاش أكثر من حياة وكان من كتاب أمريكا اللاتينية الذين منحوا الأدب سحراً  أكسبه جماهيرية لم يعرفها في تاريخه.   ولد الكاتب سيبولفيدا بمدينة أوفال بالشيلي عام 1949 وتدرج وصولا إلى الجامعة بدراسة الانتاج المسرحي. في 1969 نال منحة لموسكو لكنها سحبت منه لـ"سوء سلوكه" أي لعلاقاته «المشبوهة» مع الثوار والمعارضين. كان زعيما للحركة الطلابية ثم عمل بمصلحة الشؤون الثقافية في عهد سالفدور أليندي. مع انقلاب بينوشي تعرض الكاتب للسجن لسنتين ونصف لكنه عاد للنشاط الثوري المسرحي فتم سجنه مدى الحياة. تم تخفيف العقوبة وغادر إلى المنفى وطاف بالعالم من الأرجنتين إلى الأوروغواي والبرازيل والإكوادور، إلى اسبانيا ثم السويد. عمل كصحفي متنقل مدافعا عن الضعفاء ومن لا صوت لهم. كتب الكثير من الكتب وخاصة الروايات. إثر وفاته أعادت مجلة «لوبوان» الفرنسية نشر حوار أجرته مع الكاتب في 2014 ترجمه للكراس الأستاذ عبد السلام يخلف.

حوار جولي مالور/ ترجمة عبد السلام يخلف
*************************
كان العام 2014 حين نشر كتاب سيرته الذاتية «مكونات لحياة من مشاعر مذهلة» ، وافق الكاتب الشيلي الكبير على تقديم اعترافاته. تكدس حشد صغير من الناس في مدرجات أكبر قاعة مؤتمرات في مدينة مونبوليي خلال مهرجان «كوميديا الكتاب». كانت المشاعر غامرة واستولت على الجمهور حين استحضر دون غطاء سيبولفيدا حبه الأول وطموحه في أن يصبح شاعرا أو لاعب كرة قدم وبلاده الشيلي والديكتاتورية وصديقه غابو أي غابرييل غارسيا ماركيز.
كيف جئت إلى عالم الأدب؟
دخلت إلى الأدب من خلال كرة القدم. فعندما كنت في الثالثة عشر من عمري كنت ألعب مهاجمًا في فريق نادي كرة القدم في حيّنا الذي كان يحمل اسما كأنه نبوءة «بالاتحاد سننتصر». وفي يوم من أيام الأحد عندما ذهبت إلى الملعب للعب رأيت شاحنة لنقل الأثاث تصل الحي حيث كانوا يضعون الطاولات والكراسي وفي وسط المتاع لمحتُ أجمل فتاة يمكن لعيني أن تراها خلال ثلاثة عشر عاما من الحياة. طلبت مساعدتها ووافقتْ على ذلك وتحولت أنا إلى إعصار يُنزل الطاولات والكراسي بحيث أني تمكنت من القيام بعملية نقل الأثاث كاملا تقريبا بمفردي. طلبتْ منها والدتها أن تدعوني إلى حفلة عيد ميلادها، الشيء الذي قامت به، ولأكون صادقا أقول إنها فعلت ذلك دون حماس كبير. سألتها عن اسمها : غلوريا (بمعنى المجد). وعدت للعب كرة القدم بكل مجد.
لكن بسبب النقص الفادح في تركيزي في ذلك اليوم فقد خسر نادي كرة القدم «بالاتحاد سننتصر» 2-0. عندما عدت حاولت أن أجد شيئا أقدمه لها في عيد ميلادها ولم أكن أعرف أي كتاب أو أي أسطوانة أختار. قررت حينها أن أقدم لها أجمل كنز كان بحوزتي. في يوم عيد ميلادها قامت بوضع هديتي على الطاولة دون أن تفتحها. قلت لها: «افتحيها» فقالت: «لاحقًا»، أصررت: «الآن». قامت بفتحها ووضعتها في راحة يدها مثل فأر ميت ثم وضعتها من جديد. قلت لها: «هل تعرفين ما هذا؟» أجابت: «نعم، إنها صورة». قلت: «لا، إنها ليست صورة. إنها الصورة.»
كانت الصورة تحمل توقيعات الجميع، جميع لاعبي المنتخب الوطني الشيلي الذي حصل على المرتبة الثالثة في كأس العالم التي أقيمت في الشيلي عام 1962. لقد قضيت شهرين من حياتي من أجل الحصول على توقيعات جميع اللاعبين. أخبرتها بمدى أهمية هذه الصورة بالنسبة لي لكنها ردت بجملة بشعة قائلة: «أنا لا أحب كرة القدم». شيء ما بقلبي راح ينكسر فقلت لها: «إذا كنت لا تحبين كرة القدم فما الذي تحبينه إذن؟» كان ردها أكثر إثارة للقلق هذه المرة : «أنا أحب الشعر». من حينها بدأتُ قراءة الشعر وأعجبت به أيضًا.
بدأت بكتابة بعض الأبيات وأحسست بنفسي كأنني شاعر لذلك بدأت في ارتداء قبعة وعباءة لأن أصدقائي كانوا يرتدون القبعات والعباءات. وفي السادسة عشر تجرأت على نشر مجموعة شعرية لا أزال أخجل من سماع عنوانها: «غروب الحزن». ما الذي كان يمكن أن يحزننا ونحن في السادسة عشر؟ كنت أعتقد أن الشعراء يجب أن يكونوا حزانى ويمارسون رياضة الكآبة ولكن مع ذلك تعودت على طعم الكتابة. من كل ذلك تشكل لدي يقين كبير وشك كبير. الشك هو أنني لا أدري ما إذا كان الأدب قد ربح شيئًا بتخليني عن كرة القدم، لكني متأكد من أن كرة القدم الشيلية قد فقدت لاعبًا عظيمًا.
لماذا تكتب يا رجل؟
عشت ثلاث سنوات في المنفى بألمانيا وزرت معسكر بيرغن بيلسن حيث توفيت آن فرانك. بجانب أفران حرق الجثث، تماما في الأسفل على مستوى الأرض، كتب أحدهم جملة. قبل اكتشاف هذه الجملة، كان لدي حدس لأعرف لماذا أنا أكتب ولكن لم يكن واضحًا بما فيه الكفاية بالنسبة لي. تلك الجملة المكتوبة على الحائط، في مستوى الأرض تقريبًا: «كنتُ هنا ولن يروي قصتي أحد» هزتني كثيرًا فأجبتُ على هذا الشخص المجهول: «أنا من سيروي قصتك، أنا من سيكرس حياته وموهبته لرواية قصتك». منذ تلك اللحظة اكتسب الأدب قيمة متعالية بالنسبة لي وغدا معناه كبيرا. الناس الذين قرأوا رواياتي يعرفون لماذا أكتب وأنا فخور جدًا بالقول إن صوتي هو صوت من لا صوت لهم.
ما هي الذكرى التي تحتفظ بها لغابريال غارسيا ماركيز؟
مع سقوط الديكتاتورية في الشيلي، طلِب مني أن أكون رفيقه في رحلة عودته إلى البلاد. أرادني أن آخذه إلى المطعم الصغير الذي أحبه بابلو نيرودا، بمحاذاة البحر. أذكر أننا كنا جالسين مع غابو – هكذا كان يدعوه الأصدقاء - أمام المأكولات البحرية والنبيذ الشيلي الجيد فإذا برجل أخذ يحدق بنا. قلت له: «أعتقد أنه تعرف عليك» ، أجاب غابو: «آمل أن يكون كتوما.»
لكن الرجل لم يكن كتوما أبدا. اقترب من طاولتنا وتوجه نحو غابو قائلا له: «إنك تشبه غابريال غارسيا ماركيز بشكل لا يصدق!». اعترف غابو بأنه كان قد سمع هذا في أحايين كثيرة لكن الرجل عاود الكرّة قائلا :»إنه لأمر مدهش أن تشبه غابريال غارسيا ماركيز إلى هذا الحد». طلبت من الرجل العودة إلى طاولته مع زوجته وذاك ما قام به مع الاستمرار في التحديق في غابو الذي قال لي: «هذا الرجل سيعود، عليك الاهتمام بأمره.» بعد خمس دقائق عاد الرجل وقال له: «إنه أمر لا يصدق، أنت استنساخ من غارسيا ماركيز. هناك برنامج تلفزيوني اسمه «ابحث عن شبهك». يجب أن تشارك لأنك ستفوز بالتأكيد!»
شكره غابو وأرسلته أنا إلى طاولته. عاد الرجل بعد ذلك بخمس دقائق وسلمه بطاقة عمل: «أعرف شخصًا بمؤسسة التلفزيون، عليك الاتصال به وستفوز بالتأكيد». نفد صبري فقلت له: «شكرًا لك، صديقي سيذهب إلى التلفزيون أما أنت فتعود إلى طاولتك مع زوجتك وتتركنا وشأننا». عاد إلى طاولته لكنه ظل ينظر إلى غابريال غارسيا ماركيز. ثم عندما همّ بالمغادرة عاد مرة أخرى ليقول له: «التشابه مذهل لكنك أكبر سناً وأقبح من غابريال غارسيا ماركيز!». بعد تلك القصة وفي كل مرة التقيت فيها بغابو كان يسألني دائمًا: «لوتشو - أصدقائي ينادونني كذلك - أخبرني عن تلك المرة التي كنتُ فيها أكبر سنًا وأقبح من غابريال غارسيا ماركيز».

الرجوع إلى الأعلى