يؤكد الدكتور بن يوسف إبراهيم أن أزمة وباء كورونا قد تدفع بالإنسان إلى العودة إلى الذاكرة والاستنجاد بخبراته القديمة للتكيّف مع الوضع  الجديد، أي إلى مرحلة ما قبل الثورات التي أنجبت الحياة الحديثة.
الباحث الذي يرأس مرصد الفضاء والمجتمع في كندا، أشار في حوار للنصر، أن العولمة فقدت مصداقيتها وفعاليتها في أول اختبار جدي في الواقع ودلّل على ذلك بغياب  التضامن الدولي خلال أزمة كورونا لا سيما في الفضاء الأوروبي، وما حدث من سطو على الكمامات والمعدات الطبية. ويقترح  بصفته خبيرا دوليا في العمران وباحث في علم الاجتماع على الجزائريين الاستلهام من التراث في تنظيم الفضاء العمراني، لأن بيوت المستقبل تتطلب رفاهيّة يمكن العثور عليها في معمارنا القديم كالمعمار الميزابي الذي يقوم على تقسيم الفضاءات، إلى جانب قضايا أخرى تطالعونها في هذا الحوار.  
- ونحن في خضم فعاليات شهر التراث في هذه الظروف الوبائية، أنتم ترافعون من أجل العودة للتراث على أساس أنه تحصين، فماذا تقصدون بهذا؟
مع كل أزمة، يتكيف البشر لإيجاد الحلول بالاعتماد على رصيد تجاربهم واستخدام عبقرياتهم، للتغلب على آثارها والحماية من مخاطرها، وهكذا توفر الأزمة فرصة لتعزيز حماية الفضاءات والمجتمعات وذلك بإعادة ابتكار حلول جديدة يتم تثبيتها بشكل دائم كليًا أو جزئيًا، فتنعكس عنها تغييرات عميقة في أنماط الحياة والحوكمة، وكلما زادت حصانة الفضاءات والمجتمعات، زادت قدرتها على الصمود، وعادة  يتفاعل البشر مع الأزمة بالمرور بثلاثة مراحل متتالية: الصدمة في بداية الأزمة، ثم الإنكار، وينتهي الأمر بالقبول، و في هذه  المرحلة الأخيرة تبدأ عملية التكيف مع الممارسات الجديدة تكون بطريقة مرتجلة في كثير من الأحيان و تتحسن تدريجيا بمرور الأيام، لتستقر نهائيا إما كليًا أو جزئيًا، وننتهي بتغيير المسار ونمط الحياة. وفي خضم هذه السيرورة نلاحظ أن الإنسان التفت نحو ذاكرته أي إلى تراثه ليستلهم حلولا أو مرجعية لبناء الحلول الجديدة، فرجع الى إنسانيته ولجأ الى حلول بسيطة لكنها ناجعة ويمكن إسقاط هذا على ما حدث مع وباء كورونا،  مثل التباعد الاجتماعي، الاعتزال، النظافة و الانطواء وراء الحدود بين الدول والمناطق والمدن والمساكن للاحتماء، فعادت الحدود إلى دورها الوقائي بعد أن كادت العولمة أن تغيبها، ومن هنا يجب التأكيد على أن كل شيء قابل للتراجع وحتى الزمن، عكس ما اعتقدنا طويلا، مما سيسمح بفتح آفاق جديدة أمام الإنسان بتركيز الحلول على السلوك البشري، فمثلا في أول ردة فعل للإنسان في زمن كورونا، ردد ما قالته نملة لبقية النمل حين شعرت بالخطر « أدخلوا مساكنكم» هكذا وجد الحل باستعادة إنسانيته ومراجعة ذاكرته عند الأزمات والذاكرة هنا هي التراث بمعناه الأوسع وكيف يساهم في حماية الأمم وتقوية مناعتها وصمودها أمام الأزمات، إذن هناك إيجابيات لهذا الوباء، حيث تزود الناس في نهاية المطاف بخبرات جديدة وتعززت قدراتهم على الصمود، وقبل كل شيء زادت قدرتهم على الاستقلالية، والتراث بمفهومه  الشامل «المادي واللامادي» يحتوي على مجموع الخبرات والإنجازات والإبداعات لأمة ما وبقدر تداول هذا التراث  ننتهي بالتموضع في الوعي الجمعي كإرث مشترك ويستقر في ذاكرة الأمم.
فالإنسان في المجتمعات الحديثة كان يقضي عادةً اثنتي عشرة ساعة من النشاط اليومي، أي 3/4 من حياته اليومية خارج البيت (العمل، المدرسة، التنقل، إلخ)، واليوم يجد نفسه مضطرًا لعكس النظام، وهذا بقضاء كل الوقت في المنزل «للعيش والعمل، والتعليم، والإدارة، والتسلية والراحة» فعندما تنقلب وتيرة حياته، يصاب الإنسان بالصدمة من الحجر، لأنه يزعزع استقراره ويعود به إلى نمط منسي منذ فترة طويلة، من الوقت الذي كانت فيه الأسرة مجموعة اجتماعية وفريق عمل، حيث كان المسكن امتدادا للمزرعة، وحيث يقوم كل عضو بدور اجتماعي، داخل الأسرة، وبدور اقتصادي داخل فريق العمل، أما في سياق الأزمة وجد الإنسان نفسه مجبراً على التكيف والبحث عن حلول تجيب على تساؤلاته «كيف يعيش محصورًا في مساحات صغيرة لا تضاهي المساكن الكبيرة التقليدية؟ كيف يدير وينظم العلاقات ويقسم العمل داخل الأسرة في الحجر؟ كيف يمكن إعادة تنظيم الحياة المشتركة داخل الأسرة؟ كيف ينظم العمل فعليًا في المنزل، وما إلى ذلك؟ كيف يمكن توفير التعليم للأطفال عوض المدرسة، والروضة؟ وكيفية إعادة اختراع أنشطة ترفيهية جديدة تتكيف مع الحجر؟
 ومن هنا ستولد مرحلة التكيف وسط ارتفاع التوتر والصراعات، وقبل كل شيء الكثير من التداعيات النفسية والاجتماعية والاقتصادية.
- يبدو أن تداعيات كورونا تفرض التفكير أيضا في إعادة النظر في كيفية إدارة الأزمات على مستوى الحكومات والعلاقات الدولية وليس فقط المنظومة الأسرية؟
أولا، كورونا فرضت أزمة عالمية على جميع المستويات، ومن أهم الأدوات المستعملة لإدارة الأزمة، يمكن ذكر مسألة تفعيل خلية إدارة الأزمات وتواصل الحكام بشكل منتظم و يومي مع المواطنين عبر الإعلام، كما يجب متابعة تطور الأمور باستمرار ومراقبة انتشار الفيروس في حينه، واعتماد مرونة في صنع القرار بما يتماشى مع الأحداث من أجل اتخاذ التدابير في حينها، بالإضافة لضرورة  التأطير القانوني و التنظيم الأمني، وبالأخص تنظيم نشاط المتاجر والخدمات العمومية، وتقديم الدعم الاقتصادي للمؤسسات والأفراد، وتنظيم النشاط العام وإدارة التوازنات بين الخدمات الأساسية وإمكانية العمل عن بعد، والأهم هو الإدارة الصارمة لقطاع الصحة والحرص على تموينه بالمعدات، وإشراك الشركات الخاصة في تصنيع معدات الوقاية، وهذه الإجراءات من شأنها تغذية رصيد الخبرات لتعديل مسار الأشياء وأنماط الحكم، ومهما يكن بات لزاما من الآن اعتماد منهجية تقييم المخاطر في تخطيط وإدارة المشاريع.
ثانيا، التحدي الأكبر أمام الحكومات اليوم، هو تغيير منحنى انتشار الوباء نحو الانخفاض في أقرب وقت لحماية نظام الرعاية الصحية من الإرهاق وتفادي عجز قدرة المستشفيات على استقبال المصابين الجدد، وحتى لا تضطر هذه الحكومات للقبول الانتقائي على أساس السن والتضحية بمن بلغ السبعين، ورفع هذا التحدي يتطلب الحوكمة في كل المجالات، وسياسيا مثلا، فقدت العولمة التي أشاد بها الكثيرون، مصداقيتها وفعاليتها في أول اختبار لها على وقع أزمة كورونا، حيث غاب التضامن بين الدول، وأحيانًا في نفس الفضاء مثل الاتحاد الأوروبي، و لجأت قوى كبرى  للسطو وتحويل شحنات معدات الحماية عن مسارها، وغيرها من الممارسات التي أثرت على العلاقات الدولية وأفقدت العولمة كل المعاني الأخلاقية.
- في إحدى محاضراتكم قلتم إن كورونا ستحدث تغييرات على العمران، مثل "الهجرة" من المدن إلى القرى، فهل ممكن أن يتأقلم الإنسان مع بيئة جديدة، وما انعكاسات هذا على سلوكياته؟
حتى ولو افترضنا أن الأمر ممكن من ناحية الإنجاز العمراني، نعلم أنه في الجزائر لدينا مشكل كبير في تدفق الأنترنيت وربما هذا أكبر عرقلة أمام هذه «الهجرة العكسية»، أما على الصعيد الاجتماعي، نشهد حاليا ظاهرة تراجع من الانفجار إلى الانطواء، على عكس ما حدث خلال التحول من الأنظمة التقليدية إلى الأنظمة الحديثة، الآن نتراجع إلى الداخل لحماية أنفسنا، نعزل أنفسنا في المنزل وننسحب من الحشد، ونحافظ على بعدنا  لوقف حركة الفيروس، ونحن بهذا نعود إلى ما كانت عليه الحياة في الوضع التقليدي قبل الثورات «الحضرية،الصناعية والحديثة»، فالآن تستعيد الأسرة، كمؤسسة اجتماعية، كل قوتها وأدوارها المتعددة، التي سحبتها منها جزئيًا المؤسسة العمومية منذ قرنين من الزمن، بعد أن فرضت الثورات نمط الحشود الكبيرة والمجمعات الكبرى والمدن الكبرى والمساحات العملاقة، والكثافات السكانية العالية، وعليه فالأسرة في ظل جائحة كورونا تواجه تحديا قويا حيث المطلوب منها إعادة اختراع المعرفة المفقودة، وربما هذا ما سيزيد من حدة الضغط عليها.
- وسط الفوضى والكوارث العمرانية الحالية هل يمكن التفكير في إدخال تعديلات على المدن الكبرى خاصة؟
و كيف ذلك؟
ما نلاحظه الآن هو التوجه نحو افتراضية النشاط الاقتصادي والحياة الاجتماعية وستزيد وتيرة ذلك بعد أزمة كورونا، وسيتجسد ذلك من خلال العمل عن بعد والتسويق عن بعد والتداوي عن بعد والتكوين عن بعد ..إلخ، وبانخفاض حجم النشاط في مراكز المدن ستنخفض كثافتها وستنخفض حركة المرور بها والإنسان مستقبلا مقبل على قضاء وقت طويل في مسكنه لذلك سيكون بحاجة إلى سكن أكثر رفاهية وهدوء وإلى الطبيعة في فضائه مثلا حديقة منزل، مما سيتطلب ضرورة مراجعة كيفية تنظيم المجتمعات والعمران وفي هذا السياق، أقترح استلهام من تراثنا الجزائري نماذج توفر الظروف المطلوبة و الدفء الاجتماعي وتقي من الآفات، بحيث يكون هذا السكن تتناغم فيه الطبيعة والثقافة على غرار العمران الواحاتي والمدن الحدائق كمدن منطقة ميزاب المنجزة في شكل شبكات مدن صغيرة تفصل بين بعضها واحات وغابات، والقصد بالاستلهام من هذه النماذج ليس لإعادة إنتاجها كما هي، بل لاعتمادها مرجعا لحلول جديدة.   
- هل يمكن أن تضعنا في الصورة حول وضعية الجالية الجزائرية في كندا في ظل جائحة كورونا، وكذا مع ظروف الصيام؟
لقد تفاعلت الجالية الجزائرية بكندا منذ بداية أزمة كورونا بتجنيد شبكات التواصل الاجتماعي لتنظيم حملات توعية من أجل الوقاية من الوباء، وقامت أيضا بتجنيد شبكات التضامن من أجل جمع الأموال وتجهيزات الوقاية لإرسالها وتوزيعها في الجزائر بالتنسيق مع قنوات التضامن الوطني، كما تجندت للتضامن وجمع الأموال لمساعدة الطلبة وتخفيف عليهم معاناة الحجر الصحي خاصة مع حلول شهر رمضان، حيث سارعت عدة جمعيات خيرية من الجالية الجزائرية والمغاربية ودول إسلامية، لتوفير وجبة الفطور يوميا.

الرجوع إلى الأعلى